لم يكد يهدأ الجدل حول حرية التعبير والمقدسات الدينية، حتى اندلع مرة أخرى. فلقد تصاعدت التوترات في السويد مؤخرًا بعد أن حصلت حركة سترام كورس اليمينية المتطرفة والمناهضة للهجرة والإسلام (الخط المتشدد)، بقيادة راسموس بالودان مؤسس الحركة البالغ من العمر 40 عامًا، على إذن بعقد تجمعٍ حاشد حيث كان من المقرر أن يحرق نسخة من القرآن الكريم. ردًا على ذلك، اندلعت أعمال الشغب استمرت لثلاثة أيام في خمس مدن خلال فترة عيد الفصح، ما أدّى إلى اعتقالِ أربعين شخصًا. ومنذ 21 أبريل، أصيب ستة وعشرون شرطيًا وأربعة عشر مواطنًا سويديا آخر بجروح ودمرت أكثر من عشرين مركبة في مدن مثل مالمو وأوريبرو، والعاصمة ستوكهولم.
علاوة على ذلك، أثار نشاط حركة سترام كورس رد فعل دوليًّا. فأعلنت وزارة الخارجية العراقية في بيانٍ لها أنها استدعت القائم بأعمال مملكة السويد في بغداد، وأبلغته باستياء الحكومة العراقية مما حدث. تجدر الإشارة هنا إلى أن إيران تهيمن على العراق، واستدعت الحكومة الإيرانية نفسها ممثل السويد في طهران. وكرَّرت حكوماتُ دول أخرى ذات أغلبية مسلمة هذه الاحتجاجات، مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، العمليةَ، وسلمت بيانات شجب دبلوماسية للمسؤولين السويديين.
يعود التاريخ الحديث لليمين المتطرف في السويد إلى عام 1988، عندما أسس حزب الديمقراطيين السويديين (SD)، حزب يتبنى القضايا الاجتماعية المحافظة وتقييد الهجرة. ترجع جذور الحزب إلى الفاشية السويدية والنزعة القومية للبيض، لكنه مرّ في السنوات الأخيرة بعملية تنقية أو ما يعرف باسم “إزالة السموم” والآن يرفض رسميًا كليهما. ومع ذلك، يواصل الباحث في دراسات دول الشمال الأوروبي بنيامين تيتلبوم وصف الحزب الديمقراطي بأنه حزب “قومي متشدد”، ويصفه عالم الاجتماع ينس ريجرين بأنه عنصري وشعبوي وكاره للأجانب.
تأسس سترام كورس كحزب منفصل في يوليو 2017 على يد راسموس بالودان، دنماركي الأصل، وأصبح حامل لواء اليمين المتطرف في السويد، حيث أصبح حزب الديمقراطيين السويديين بمثابة حزب يميني عام. أعلن بالودان تأسيس الحزب خلال خطابٍ ألقاه في مظاهرة نظمتها حركة “أوقفوا أسلمة الدنمارك” في روسكيلد.
وتشمل أجندة الحزب مواقف يمينية متطرفة علنية -مثل سنِّ لوائح بشأن ممارسة الإسلام، ووقف الهجرة من الدول غير الغربية، وترحيل المسلمين– إلى جانب الالتفاف حول بعض القضايا الأخرى، مثل حماية رسامي الكاريكاتير في صحيفة “يولاندز بوستن” واليهود من المتطرفين المسلمين، التي لها جاذبية أوسع بين السويديين.
العوامل الكامنة وراء صعود الجماعات اليمينية المتطرفة في أوروبا الغربية، وتركيزها على الإسلام، عديدة. وأحد العناصر هنا العولمة، التي تركت قطاعاتٍ كبيرة من العديد من الدول الأوروبية مستاءة بشدة: فما كان من المفترض أن يجلب الرخاء على نطاقٍ واسع تسبب بدلًا من ذلك في تراجع القدرة الصناعية، وانخفاض معدلات النمو الاقتصادي، وزيادة الديون، وتخارج رؤوس الأموال والاستثمارات، وتدفق المهاجرين الذي خلق احتكاكات ترقى إلى حدٍّ ما إلى أزمة هوية وطنية.
إن الأحزاب اليمينية المتطرفة التي ترغب في العودة إلى الشعور بالهوية الوطنية، وليس العالمية، قادرة على حشد المزيد من الدعم أكثر مما قد تفعل لأن جميع الأحزاب المهيمنة في أوروبا تتبنى وجهة نظر معاكسة، الأمر الذي يترك اليمين المتطرف كمنفذ وحيد للأصوات الاحتجاجية. وقد أدّت جائحة كوفيد-19 وما جلبته من اضطراباتٍ اقتصادية إلى تفاقم هذه المشكلات.
إضافة إلى ذلك، لعبت وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي دورها في نشر الأفكار اليمينية المتطرفة والسماح بالتواصل بين الناشطين الذين يريدون تعزيز هذه الأفكار. وقد أدّت هذه الأمور مجتمعة إلى انتشار ما يسميه البعض “الإسلاموفوبيا”: تنميط المهاجرين المسلمين، وتعزيز فكرة أنهم غير مندمجين في المجتمعات الغربية، وأنهم يشكلون بؤرًا للإرهاب والتطرف.
لقد أصبح حرق المصحف -ورد الفعل العنيف- وسيلة مفضلة لنشطاء اليمين المتطرف “لإثبات” حجتهم من خلال إظهار أن المجتمع المسلم يرفض ربما المبدأ الرئيس للمجتمعات الغربية، ألا وهو حرية التعبير. من وجهة نظر إسلامية، القرآن هو كلام الله الخالد، وتدنيسه إهانة جسيمة لإيمانهم، خاصة خلال شهر رمضان، الشهر الذي بدأ فيه جبريل الوحي، القرآن، على سيدنا محمد.
طالب المسلمون في السويد الحكومة بتعديل القوانين الأساسية للسويد لحظر إهانة الدين، اعتقادًا منهم بأن السخرية من الله ورسوله تقع خارج حدود حرية التعبير. في السويد، كما هو الحال في بقية أوروبا، ينظر معظم السكان إلى مثل هذا الطلب على أنه غير قانوني، حيث لا تستطيع الدولة فرض قيود على حرية التعبير لحماية مشاعر المؤمنين.
الجدير بالذكر أن الصراع بين حرية التعبير والحساسيات الدينية صراع قديم، يمكن اقتفاء أثره إلى بدايات الليبرالية في القرن السابع عشر، ولم تكن النظرة “المطلقة” لحرية التعبير بأي حال من الأحوال هي وجهة النظر السائدة في أوروبا. ولم يعترف أحد بأنه قد يتعين أن تكون هناك بعض القيود على الكلام سوى مونتسيكيو (1689-1755)، أحد المحركين الرئيسيين لحركة التنوير، الذي كتب كتابه «روح القوانين» (1748)، “الرجل الذي يذهب إلى سوق عامة لتحريض [الناس] على التمرد يتحمّل ذنب الخيانة العظمى، لأن الكلمات مرتبطة بالعمل، وتشارك في طبيعته. ليستِ الكلمات هي التي تُعاقب، بل الفعل الذي تُستخدم فيه الكلمات”.
في الغرب الحديث، ما يصفه مونتسيكيو يندرج تحت قوانين “التحريض”، التي تحد من الكلام في ظروفٍ محددة للغاية حيث تؤدي الكلمات مباشرة إلى السلوك الإجرامي. قد يجادل المسلمون بأن هذا هو بالضبط ما يفعله سترام كورس عندما يحرق القرآن. سيقول الحزب -والمدافعون الغربيون عن حرية التعبير- إن أولئك الذين يقومون بأعمال شغب ردًا على الخطاب هم المجرمون. وما يزال إيجاد طريقة للتوفيق بين وجهتي نظر الفريقين، وتحقيق الوئام المجتمعي يمثل تحديًا في جميع أنحاء الغرب.