شارلوت ليتلوود*
شغَلت تصريحاتُ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون؛ ردًّا على عملية قطع الرأس المروِّعة لمعلمٍ فرنسي في منتصف أكتوبر الماضي اهتمام العالم. كان المعلم قد شارك مع التلاميذ صورًا من مجلة شارلي إيبدو للنبي محمد، ضمن دورة دراسية حول حرية التعبير. من جانبه قال ماكرون: “قُتل صامويل باتي لأنه جسّد القيم العلمانية والديمقراطية للجمهورية الفرنسية”. ولا شك أن ماكرون محق من وجهة نظر البعض. فالإرهابي الإسلاموي عبد الله أنزوروف كان يكره الديمقراطية، وجريمة القتل التي ارتكبها تعتبر هجومًا على الديمقراطية. ولكن ما حدث مجرد العَرض وليس السبب للهجوم. السبب هو الأيديولوجيا التي اعتنقها أنزوروف، خاصة الفكر المتطرف والعنيف المعادي للتجديف. يواجه ماكرون ردَّ فعلٍ عالميًا عنيفًا لاتخاذه موقفًا مباشرًا وصريحًا ضد التطرف الإسلاموي، ولكنه مُقصِّرٌ في الواقع في قدرته على أن يكون محددًا ودقيقًا، وبالتالي يتمكن من معالجة القضية مع إبقاء غالبية المسلمين الفرنسيين غير العنيفين إلى جانبه.
قد يبدو الأمر من قبيل الخوض في التفاصيل الدقيقة إذا قلنا إن أنزوروف لم يقتل باتي لأنه كان يكره الديمقراطية بل لأنه كان يؤيد الإسلاموية، وهي أيديولوجيا متطرفة لا تتفق بشكل أساسي مع ديمقراطيتنا. ومع ذلك، فإن الفرق حاسمٌ. الفكر الإسلاموي يفهم الإسلام على أنه عقيدة تحكم العالم الذي تحكمه قوانين مستقاة من أوامر مأخوذة عن النبي محمد، التي تعتبر بصورة ما أوامر مباشرة من الله. يأتي هذا رغم أن النبي طالب بعدم تأليهه، حيث قال: “إنما أنا بشر”. لكن أنزوروف اعتقد أن عقوبة السخرية من النبي هي الموت.
إن الرأي القائل بأن تصوير النبي محمد هو أمر وثني وتجديف على حد سواء هو اعتقادٌ إسلامي شائع على نطاقٍ واسع. لذلك، عندما توصف معتقدات أنزوروف وأفكاره بأنها كراهية للديمقراطية، فإنها تحشر العديدَ من المسلمين في الغرب، الذين يشعرون على نحو مماثل بحساسية تجاه التجديف، في صندوق واحد حيث يتم تأطيرهم جميعًا على أنهم على خلاف مع الدول الديمقراطية والعلمانية التي يقيمون فيها.
ولهذا السبب يجب علينا أن نفصل المعتقدات عن الأفعال: الاعتقاد هو أن تصوير النبي محمد كفر؛ الفعل هو هجوم على المبدأ الديمقراطي المتمثل في حرية التعبير. من الواضح والمحبط أن يضطر المرء للتوضيح أن المسلمين يمكن أن يكونوا مؤيدين للديمقراطية ويفضلون حرية التعبير، وفي الوقت ذاته يعتبرون مثل هذه الصور لنبيهم إهانة. إن ما ينبغي أن يميز أنزوروف عن بقية المسلمين، ويضعه على خلاف مع الديمقراطية، هو اعتقاده المتطرف بضرورة القيام بأعمال عنيفة ضد المجدفين.
من الناحية الاستراتيجية، يجب على ماكرون أن ينحاز إلى المسلمين الذين لا ينظرون إلى العمل العنيف باعتباره ردًا مشروعًا على التعرض للإهانة. يجب عليه أن لا يزيد من نفور الدائرة الانتخابية الخاصة به. يأتي هذا حتى لو كانت الأغلبية غير العنيفة، كما هو الحال في الواقع، تشعر بالإهانة وستظل كذلك، من السخرية وردِّ الحكومة الفرنسية على الفظائع التي وقعت في أكتوبر، والعديد من الفظائع الأخرى التي تلت ذلك، لا سيما في مدينة نيس.
هناك حلفاء فرنسيون مسلمون مؤيدون بشدة لحرية التعبير. ذلك أن فرنسا هي موطن أول مسجد ليبرالي تقوده النساء. لقد كتبت الإمامة كاهنة بهلول عن الرسوم الكاريكاتورية للنبي محمد، تؤكد فيها لجماعتها أن تصوير النبي محمد لا يمكن أن يؤذيه، ولكن يمكن بالطبع أن يؤذي مشاعر المسلمين. وتدعو المسلمين إلى مواجهة السخرية بالشكر والامتنان ومقت ردود الفعل المتطرفة:
هل تقديم شكوى ضد الرسوم الكاريكاتورية أو حتى ضد الشتائم، ما يسميه البعض “التجديف”، هل الغضب، وضرب الطاولة بقبضتك أو حتى الأسوأ… قتل مصمم الرسومات أو الشخص الذي يستخدمها… هل يتوافق هذا مع رسالة القرآن وتعاليم النبي؟ بالتأكيد: لا!
لا يمكن بسهولة تأطير الردود العنيفة على التجديف على أنها قضية أقلية على مستوى العالم، وهنا يؤدِّي اختصار منطق أنزوروف في أنه مجرد كراهية للديمقراطية إلى صرف الانتباه عن تحديد القضية الحقيقية، وبالتالي يحد من القدرة على معالجتها. على الصعيد العالمي، نرى اتجاهًا تصعيديًا: فقد صدرت قوانين للتجديف في تسعة وستين دولة، وشددت العقوبات في أجزاء من العالم في السنوات الأخيرة، مع سن عقوبة الإعدام في ستة دول.
إن التهديدات بالقتل والقتل الفعلي بسبب التجديف ليست ظاهرة جديدة. من المعروف أنه ردًا على كتاب «آيات شيطانية» لسلمان رشدي في نهاية فترة الثمانينيات، جرى قصف المكتبات وقتل مترجمين وناشرين، ولا يزال رشدي يعيش تحت تهديد بالقتل بعد أن أصدرت الحكومة الدينية في إيران فتوى تدعو إلى قتله. وفي الآونة الأخيرة، طلبت امرأة باكستانية، تُدعى آسيا بيبي، التي تواجه عقوبة الإعدام بتهمة التجديف، اللجوء إلى المملكة المتحدة. وذكرت تقارير أن طلب بيبي قد رُفض مخافة أن يتسبب لجوؤها في اضطراباتٍ مدنية في شوارع المملكة المتحدة. الهراطقة والأقليات الدينية وأولئك الذين ينتقدون الإسلام معرّضون جميعًا للخطر، على الصعيد العالمي وفي الغرب على حد سواء، من أيديولوجية عنيفة مناهضة للتجديف.
كان على المملكة المتحدة أن تتخذ موقفًا قويًا لصالح العلمانية، وضد التفكير الخطير المناهض للتجديف من خلال منح آسيا بيبي اللجوء. غير أنها ضيّعت هذه الفرصة بشكلٍ مخزٍ. وفي حين أن المملكة المتحدة تخشى تأكيد قيمها، فإن القادة الإسلامويين في جميع أنحاء العالم لا يترددون في تأكيد مُثُلهم المتطرفة. لقد صوّر حاكم تركيا رجب طيب أردوغان التصريحات التي أدلى بها ماكرون، التي تعارض الفكر الإسلاموي، على أن الدول الغربية تهاجم الإسلام وتريد “إعادة شنّ الحروب الصليبية”.
وفي باكستان، هتفت جموع غفيرة “الموت لفرنسا” ردًّا على إعادة نشر الرسوم الكاريكاتورية في شارلي إيبدو مؤخرًا، وقال رئيس الوزراء عمران خان إن ماكرون شنّ هجومًا على الإسلام. إن تصوير موقف ماكرون ضد الإسلاموية باعتباره موقفًا ضد الإسلام بهذه الطريقة هو أمر خاطئ بشكل خطير ويجري تصويره في شكل اتهامات بالعنصرية ضد الدولة الفرنسية، ما يؤجج الكراهية والانقسام. ماكرون محق في اتخاذ موقف قوي ضد الإسلاموية، وتأكيد القيم الديمقراطية، ولكن يجب عليه متابعة هذا الأمر بتقييم حساس ودقيق للأيديولوجيا وبخطةٍ مدروسة بعناية لكيفية معالجتها.
قد توفر النمسا بعض الإلهام فيما يتعلق بمعالجة الإسلاموية بشكل مباشر. في عام 2015، أصدرت النمسا قانونًا يُنظّم العلاقة بين الدولة النمساوية والمجتمع الإسلامي: حظر القانون، من بين جملةِ أمور أخرى، التمويل الأجنبي للمؤسسات الإسلامية. كما سنّت النمسا قانونًا يحظر رموز أكبر منظمة إسلاموية في القارة الأوروبية، جماعة الإخوان المسلمين، وبدأت إجراءات لإغلاق العديد من المساجد التي يديرها متطرفون، وطردت بعض الأئمة، وأنشأت مرصدًا دائمًا للإسلام السياسي. وهذا ما تفشل فيه دولٌ أوروبية أخرى.
على سبيلِ المثال، هناك في المملكة المتحدة منظماتٌ تشارك بشكلٍ كبير في تعزيزِ العمل المناهض للتجديف؛ مثل خاتم النبوة، والدعوة الإسلامية، وهي جمعياتٌ خيرية مسجلة. يأتي دعاةُ الكراهية الإسلامويون إلى المملكة المتحدة في جولاتٍ ويدعون إلى قتل المجدِّفين، ويشيدون بالقتلة، ويبدو أن وزارة الداخلية دائمًا ما تكون بطيئة في التحرك، وهو أمر عرضّها لانتقادات شديدة.
وإلى أن يمزج ماكرون بين موقفه الجريء ضد التطرف الإسلاموي، والرصد الدقيق للأيديولوجيا، فإنه سيفقد الدعم الإسلامي الفرنسي الواسع، وهو الشرط الذي لا غِنى عنه لأي استراتيجية ناجعة لمعالجة المشكلة. ومن خلال اختزال منطق القاتل الإسلاموي في كراهية ديمقراطيتنا، فإنه ينفّر المسلمين الذين يشعرون، عن حق، بالإهانة، ولكن لا يمارسون العنف بأيِّ حالٍ من الأحوال، ويبني رواية تقدم الأمور في شكل ثنائية صارخة بطريقة تساعد الإسلامويين. الحل الحقيقي يكمن في معالجة الأيديولوجية المتطرفة المناهضة للتجديف، التي ترى في القتل ردًّا مشروعًا على الكلام والكتابة، وهي أيديولوجيا تنتشر للأسف بشكلٍ خطير وتكتسب أرضية في أوروبا.
* المدير المؤسس ومنسق المشاريع النسائية في منظمة “كن صوتا” من أجل فلسطين، ومرشحة لنيل الدكتوراه في التطرف الإسلامي في المملكة المتحدة، ومنسق الحكومة السابقة لمكافحة التطرف.