د.عمار علي حسن*
ربما لم تعرف حركة احتجاج سياسي- اجتماعي أشكالًا من التوالد والانقسام والتشرذم مثلما عرفت “الإسلامية” منها، ليس في العصر الحديث فحسب، بل طيلة تاريخ المسلمين تقريبًا. إذ سيطر على ذهنية الحركات والجماعات والتنظيمات السياسية الإسلامية المتطرفة ونفسيتها ميل إلى الانشطار، ثم الاندماج أو التوافق الظاهري بغية تحقيق مصالح مؤقتة، وبعدها التفرق من جديد، حيث تخرج جماعات صغيرة من رحم أو قلب جماعات كبرى، أو تنشق عنها، إما مضاهاة لها لتنافسها، أو تمردًا عليها، أو رغبة في العمل إلى جانبها، حتى أن مصر كان بها في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين ما يربو على سبعين تنظيمًا تتفاوت من حيث القوة والتأثير والذيوع.
ولم تتخل الحركات الإسلامية عن هذه الصفات حتى وصلنا إلى العقود الأخيرة. فمنذ قيام جماعة “الإخوان المسلمين” عام 1928 وهناك جماعات ومجموعات تنشق عنها أو تخرج عليها إثر اختلاف حول النهج، سواء ولدت هذه الجماعات من ضلعها، وتربى أعضاؤها على يديها إلى حين، أو انضوت تحت عباءتها مؤقتًا، أو ولدت بعيدًا عنها تمامًا ثم راحت تحاول أن توازيها وجودًا، وتضارعها مكانة.
وتعود هذه الظاهرة إلى عدَّة أسباب، يمكن ذكرها على النحو التالي:
1- الاختلاف حول تأويل النصين القرآني والنبوي، وتفسيرهما: وهذا الاختلاف صنع مساراتٍ اتخذت من هذين النصين مرجعًا أو إطارًا نظريًّا، يُحال إليه في تحديد الشرعية والمشروعية الدينية لتصرف أو فعل ما. ورغم أن التأويل والتفسير هما في النهاية عمل بشري، فإنه يصنع أيديولوجيا عند التنظيمات السياسية الإسلامية، تختلف عن الأيديولوجيات والفلسفات الإنسانية السائدة، إذ يرى أتباع الحركات الإسلامية -طوال الوقت- أن عقيدتهم السياسية موصولة بالسماء، ومتطابقة بالضرورة مع جوهر العقيدة الدينية، وطالما قاد هذا التوهم تلك الجماعات إلى التفرق بفعل الصراع على من يمثل منها “صحيح الإسلام”.
2- تفاوت المصالح وتصارعها: فهذه الجماعات والتنظيمات، لا سيما إن طال بقاؤها، تظهر لها منافع مادية وتنمو، ويصبح الدفاع عنها، والصراع حولها، أمرًا طبيعيًّا. وداخل الجماعة الواحدة يقود هذا إلى غبن، يمكنه أن يتصاعد إلى انسحاب أو انشقاق. وعلى مدار سنوات كانت بعض قيادات جماعة الإخوان تخرج منها لهذا السبب، وكان يطلق على هذا الأمر “خلاف إداري”، لأن الخارج يحمل الفكر نفسه، لكنه مغبون من عدم استفادته بالقدر الذي ينتظره سواء في موقعه التراتبي داخل صفوف الإخوان أو ما يحصل عليه من منفعة مادية. وحين ظهرت “الجماعة الإسلامية” في صعيد مصر خلال سبعينيات القرن العشرين، وكذلك “تنظيم الجهاد”، بدا كأنهما تعبير عن تمثيل سياسي إسلامي لقاعدة أوسع من المنتمين إلى الطبقات الفقيرة، الذين لم يخل منهم بالطبع تنظيم الإخوان، وإن كان الأخير، سواء في انتقائه لمن ينتمون إليه أو إمكانياته المادية التي كبرت كثيرًا، صار ممثلًا للبرجوازية وشرائح من الطبقتين الوسطى والعليا في المجتمع.
3- التنافس على القيادة: فرغم أن أتباع هذه التنظيمات ملتزمون ببيعة لمن ينصبونه أميرًا، أو يختارونه مرشدًا، فإن صراعًا ينشب في صفوفها على النفوذ والتحكم والسيطرة، لا سيما في المواقع التي تلي الرجل الأول فيها، الذي يمكن أن يتحول إلى مجرد واجهة، مثلما كان يوصف مرشد الإخوان د.محمد بديع، بينما كان يُطلق على أي من نائبيَه خيرت الشاطر ومحمود عزت بأنه المرشد الحقيقي. وقبل هذا بعقودٍ صار لقائد التنظيم الخاص في الإخوان عبد الرحمن السندي اليد الطولي، حتى في ظل وجود مؤسس الجماعة ومرشدها الأول حسن البنا، وصار بحكم الواقع متمردًا عليه، حتى وإن بقي صوريا عضوًا في الجماعة. وشهدت بعدها الجماعة أول انشقاق حين خرجت مجموعة أسمت نفسها “شباب محمد” عام 1939 اعتراضًا على انتهاج العنف، وطريقة التصرف في أموال الجماعة. وخرجت مجموعة في تسعينيات القرن العشرين وأسست “حزب الوسط الإسلامي”.
وقادت رغبة قادة تنظيم الإخوان -بكثيرٍ من البلدان- في أن يكون لهم قدر من الاستقلال عن المركز إلى إعطاء صلاحياتٍ واسعة للمراقب العام، وهو رأس التنظيم في كل بلد، على حساب صلاحيات المرشد بالمركز الرئيسي، حيث مكتب الإرشاد، في مصر.
ورأينا النزال الذي وقع بين عمر عبد الرحمن أمير الجماعة الإسلامية، وعبود الزمر قائد تنظيم الجهاد في التسعينيات، حول أيهما أولى بإمارة التنظيمين إن اتحدا، أو نسقا فيما بينهما أو صار لأيهما الحق في تمثيل الإسلام السياسي الراديكالي، وسميت وقتها “معركة الأسير والضرير”، إذ قال أتباع الجهاد إن عبد الرحمن ضرير، ولا يُولَّى الإمارة، فردَّ أتباع الجماعة الإسلامية أن الزمر أسير، وكان وقتها سجينًا، ولا تحق له الإمارة. كما تمرد أبو مصعب الزرقاوي على قادة تنظيم القاعدة، حين دان له الأمر في العراق، ولم تبايع بعض التنظيمات الإرهابية في شمال إفريقيا القاعدة، رغم أنها استفادت من صيته، وبعضها كونه عناصر تابعة للتنظيم، ثم تمردت عليه، وكونت تنظيمها الخاص.
4- السياقات السياسية الداخلية: قاد اختلاف الظروف بين الدول التي تحل فيها فروع للإخوان إلى تخفف القيادات الفرعية تدريجيًّا من التبعية الكاملة لقيادة “الجماعة الأم”، وهناك أنظمة حكم طلبت من “الإخوان” في بلدانها هذا، إن أرادوا الاستمرار على قيد الحياة الاجتماعية والسياسية، وهناك أخرى طلبت منهم الانفصال التام. وحدثت خلافات أو تصدعات حول مسألة التفاهم مع السلطة السياسية وأطروحاتها أو النظام السياسي القائم وشرعيته وترتيباته وطرائقه، مثلما وقع في صفوف التيار السلفي في مصر بعد إسقاط حكم الإخوان في 3 يوليو 2013 حيث تساوقت أحزاب وتجمعات سلفية مع السلطة الجديدة، فيما ظلَّ بعضها مواليًا للإخوان. وقادت مراجعات قادة “الجماعة الإسلامية” إلى خروج كثيرين من صفوفها، اعتراضًا على المصالحة مع الحكم. ومارست أجهزة الأمن في مختلف البلدان دورًا مهمًا في إحداث استقطابات وتصدعات داخل مختلف التنظيمات بعد اختراقها، وذلك بهدف تفتيتها وإضعافها، ونجحت كثيرًا في هذا، حتى إن لم تحدث انشقاقات معلنة في أغلب الحالات.
5- الاستقطاب الخارجي: فالأطراف الخارجية كثيرًا ما تصنع تنظيمات لا تخلقها من عدم إنما تغذِّي اتجاهات راغبة في الانشقاق داخل تنظيمات موجودة بالفعل، ولعل الحالتين السورية والليبية اللتين واكبتا دخول الجماعات الإسلامية المسلحة في صراعٍ ضار ضد السلطة الحاكمة تحول إلى حربٍ أهلية، هو المثل الصارخ على الاستقطابات التي جرَت في ساحة داخلية لتنظيمات متطرفة، إذ خرج كثير منها من ضلع أخرى موجودة بالفعل، وتم دفع تنظيمات جديدة من الخارج، وتصارع الكل على من يتسيد الساحة في تمثيل المتصارعين المنتمين للتيار السياسي الإسلامي العنيف في مواجهة السلطة.
ورغم أن الانقسام يبدو أمرًا معتادًا بالنسبة للتنظيمات الأيديولوجية المغلقة، يمينية كانت أو يسارية، فإن التي تتوسل بالدين الإسلامي منها تتسم بأمرين: قدرة هائلة على إدارة الصراع الداخلي بين جماعاتها صاحبة المشروع السياسي، وإمكانية الاستمرار على قيد الحياة والفعل السياسي العنيف، ولو إلى بعض حين. ومهما قصر الوقت أو طال، أو صغر عدد المنضوين تحت لواء التنظيمات الصغيرة أو الهامشية أو زاد قليلًا، فإن قدرتها على الإيذاء تبقى قوية، في ظلِّ إصرارها على إطلاق موجاتٍ متلاحقة من فرق الرفض والخروج على السلطة، وأحيانًا الغبن من المجتمع. وكان لهذه الحركات قدرة على التشرنق لحماية نفسها، والتحايل عبر التقية والصبر الطويل على ظروف قاهرة فرضتها السلطة السياسية أو الاجتماعية، ثم اللجوء إلى النزال “المسلح” إذا دعَت الضرورة، أو استشعرت الجماعة أن ساعدها قد اشتد، أو آمنت بأن هذا وحده هو طريق التغيير، أو اعتقدت في أن استخدام القوة المادية العنيفة هو المسار الذي يحبذه الشرع.
ومن يتتبع وجود هذه الظاهرة، واستمرار أبعادها وتعدد حالاتها لدى الحركة الإسلامية المسيسة بدءًا من انشقاق “شباب محمد” عن جماعة “الإخوان المسلمين”، وحتى خروج داعش من ضلع القاعدة، يجد أنها قادت إلى آثار أو نتائج مهمة، من بينها:
أ- افتقاد قوة الدفع في اتجاه تحقيق أهداف ما يسمى “المشروع الإسلامي”، والذي ترى هذه الجماعات أنه لن يتحقق كاملًا وشاملًا إلا بوصولها إلى سدَّة الحكم، وتعبئة موارد الدول التي تحكمها في سبيله. فالتصدع والتآكل والتناحر الداخلي ثم الانقسام، جعل جزءًا كبيرًا من بأس هذه التنظيمات واقعًا على بعضها البعض، بدلًا من أن يقع على الأطراف التي تراها هي “العدو” أو على الأقل “العقبة” في سبيل تحقيق هدفها الأكبر.
ب- فقدان المصداقية والثقة: فهذا الخلاف والانقسام أتبعه تبادل اتهامات، وكشف أسرار داخلية، بعضها يجرح بقسوة الصورة النمطية التي تريد هذه التنظيمات أن تعرضها عن نفسها، ويُظهر تناقض الكثير من أفعالها مع الخطاب الذي تتبناه، والأقوال التي تطرحها. وبالطبع، فإن هذا أثَّر سلبًا في قدرتها على تجنيد آخرين، وتعبئة قطاعات أعرض من الشعب للتعاطف معها، سواء كانت تنتهج العنف أو تنخرط في العمل السياسي السلمي.
ج- العمل لصالح مشروع الآخرين، فالخلاف الداخلي كان يُتابع بدقة من قبل السلطات الحاكمة، ومن الطبيعي أن تتدخل لإدارته كي يعمل لصالحها، عبر تحويل أجنحة من هذه التنظيمات إلى “جماعات وظيفية” يصبُّ جهدها في غير السبيل الذي ترمي الجماعة الرئيسية إلى السير فيه حتى بلوغ الهدف.
د- لم تؤدِّ هذه التصدعات والانقسامات إلى تطوير الخطاب السياسي لهذه الجماعات، وبعدها تعديل الكثير من تصوراتها وتصرفاتها وإجراءاتها. فهي، في الغالب الأعم، صنعت حالة من العناد المتوارث، إذ لم يستجب الجسم الرئيسي للتنظيمات المنشق عنها لانتقادات المنشقين، والذين انشقوا لم يعكفوا على تطوير خطابهم بقدر ما انشغلوا بإدارة صراعاتٍ لفظية مع قادة الجماعة، ولم يقوموا بإنشاء جماعات مختلفة في الأيديولوجية التي تتبناها، وطريقة العمل في الحياة العامة، إنما سلكت الدرب ذاته.
والسؤال الذي يُثار في خاتمة المطاف: هل تستمر ظاهرة التوالد والانشطار هذه مستقبلًا بالوتيرة نفسها؟
الحقيقة أن هذه الظاهرة هي مرض مزمن يصيب جسد الحركة السياسية الإسلامية، وعقلها وقلبها، ولا يلوح في الأفق ما يدل على أنها ستبرأ منه، لأن الأسباب التي تؤدي إليها لا تزال قائمة. وهذه الجماعات والتنظيمات، شأنها شأن التنظيمات الأيديولوجية المغلقة، تميل إلى خلاف يقود إلى انقسام وخروج، سواء كانت في مرحلة الهزيمة، حيث يتم تبادل اللوم والتوبيخ بين القيادات، وبين هؤلاء والقواعد، حتى لو تم إظهار التماسك في البداية خوفًا من انهيار شامل للتنظيم، وتمكين خصومه منه، أو في مرحلة الانتصار، حيث يظهر الصراع حول “الغنيمة”، علاوة بالطبع على التنازع التقليدي المحتدم دومًا حول تمثيل “الإسلام السياسي” أمام عموم الناس.
* روائي، وباحث في علم الاجتماع السياسي