ماتيو جيمولو*
احتدم الصراع المجمد منذ ثلاثة عقود تقريبًا بين أذربيجان وأرمينيا بشأن إقليم ناجورنو-كاراباخ، في صبيحة يوم 27 سبتمبر. وبعد فقدان أكثر من 2,300 جندي، قررت أرمينيا التوقيع على اتفاق سلام مع أذربيجان (وروسيا) في 10 نوفمبر، ووعدت بالانسحاب من الأراضي المحتلة المتبقية المحيطة بإقليم كاراباخ. ومن المفترض الآن أن يصل قرابة 2,000 من قوات حفظ السلام الروس إلى المنطقة الجبلية وعلى طول ممر لاتشين لرصد انتهاكات الهدنة، وضمان سلامة السكان المدنيين. ولا شك أن التحولات الجيوسياسية الناجمة عن سبعة أسابيع من القتال تستحق الدراسة.
رغم أن الهدف الرئيس للرئيس الروسي فلاديمير بوتين كان دومًا تكريس دور بلاده كحَكَم في “فضاء ما بعد الاتحاد السوفييتي” أو “بالقرب من الخارج” الروسي، بما في ذلك جنوب القوقاز، فإن الكرملين لذلك التوجه لم يرسل جنديًا واحدًا لدعم حليفه الأرميني خلال الصراع الأخير، على الرغم من النداءات بأشكال مختلفة من يريفان (عاصمة أرمينيا) والاتجاه الواضح للحرب منذ وقتٍ مبكر. لكن أسباب عدم تحرك روسيا تبدو مختلفة.
أولًا، لم يمس النزاع أراضي أرمينيا “الأساسية”؛ ويعتبر إقليم كاراباخ إقليمًا ذا سيادة لأذربيجان يخضع للاحتلال الأرميني منذ عام 1994. وقد قدَّم ذلك سببا لبوتين لعدم التدخل، باعتبار أنه يدعم “القانون الدولي”، بينما قد يكون السبب الأساسي لموقفه بعدم تقديم الدعم لحكومة رئيس الوزراء الأرميني؛ نيكول باشينيان، أن الأخير أثبت مرارًا وتكرارًا أنه “ديمقراطي متشكك في موسكو“. ومن ثم، كانت روسيا تنظر بحذر إلى باشينيان منذ البداية، منذ أن صعد نجمه في عام 2018 على خلفية احتجاجات الشوارع والعصيان المدني، ما أجبر رئيس الوزراء السابق؛ سيرج سركيسيان، زعيم الحزب الجمهوري في أرمينيا، على الاستقالة.
ثانيًا، إذا كانت أرمينيا دائمًا حليفًا استراتيجيًا لروسيا من ناحية، فإن أذربيجان، من ناحية أخرى، لم تمثل أبدًا عدوًا فعليًا لروسيا. وعلى عكس الجمهوريات السوفيتية السابقة الأخرى المتورطة في صراعات مجمدة -مثل أوكرانيا أو جورجيا أو مولدوفا- لم تكن أذربيجان معادية لروسيا بشكلٍ علني، كما لم تكن لديها حكومة تمارس الدعاية المعادية لروسيا على الساحة الدولية. لقد كان خطاب باكو المناهض للاستعمار معتدلاً دائمًا: فقد تم الاعتراف بمزايا ومثالب مائتي عام من التعايش مع جزء من الشعب الآذري في دولة واحدة مع الروس، ولم يعلن أبدًا أن الاتحاد السوفييتي السابق هو مصدر كل المشاكل.
ثالثاً، والأهم من ذلك، على الرغم من كل تناقضاتها واشتباكاتها الدورية، هناك شراكة بين روسيا وتركيا، الحليف القوي لأذربيجان، التي تحتاج إلى الحفاظ عليها من أجل إبقاء حلف الناتو خارج التوازن وإبقاء الدول الغربية، خاصة الولايات المتحدة، خارج الصراعات الإقليمية. والجدير بالذكر أن هناك هدفا مشتركا يجمع بين بوتين والرئيس التركي رجب طيب أردوغان: وهو إنشاء منصة مناهضة للغرب في منطقة ناجورني-كاراباخ. ورغم أن القيم المسيحية لبوتين قد تدفع البعض للاعتقاد بأنه سوف يتعاطف مع نضال الأرمن، إلا أن نزعته السياسية المحافظة (وهي اجتماعية، وغير دينية) تظل أقوى من أي مصلحة أخرى: فالمسيحيون الليبراليون و/أو المؤيدون للغرب أبعد كثيرًا عنه من المسلمين الأتراك المحافظين المعادين للغرب.
وهكذا، ونظرًا لهذه الأسباب الثلاثة الرئيسة، تراجعت روسيا وسمحت لتركيا، التي كانت قد أخذت زمام المبادرة في الجهود العسكرية الأذربيجانية، بالسيطرة على المنطقة، وغضتِ الطرف عن استخدامها للطائرات المسيّرة، والدعم التكتيكي من كبار ضباطها، ونقل مقاتلين مرتزقة من سوريا للقتال إلى جانب الأذربيجانيين.
في هذا الصدد، أوردت مصادر في ما يسمى بالجيش الوطني السوري، وهو القوات العربية السورية التي تسيطر عليها تركيا، أن قرابة 1,500 سوري من الجيش الوطني السوري قد نُشروا في ناجورنو-كاراباخ، وعُرضت عليهم عقود بقيمة 1,500 دولار شهريًا، تدفع بالليرة التركية. وأعلنت المفوضية السامية لحقوق الإنسان رسميًا ما يلي: “وردت تقارير واسعة النطاق تفيد بأن حكومة أذربيجان، بمساعدة تركيا، اعتمدت على مقاتلين سوريين لدعم ومواصلة عملياتها العسكرية في منطقة النزاع في ناجورنو- كاراباخ، بما في ذلك خط المواجهة”. وقد عرّف خبراء الأمم المتحدة المعنيون بحقوق الإنسان جنود الجيش الوطني السوري على أنهم “مرتزقة”. وهناك اتهامات بأن القوى الإسلاموية المتشددة المصطفة إلى جانب تنظيم القاعدة كانت من بين المرتزقة السوريين الذين أرسلتهم تركيا، بما في ذلك أفراد من جماعة الأويغور الإرهابية المسلمة، والحزب الإسلامي التركستاني، غير أن التحقيقات في هذه الاتهامات لا تزال مستمرة، ولم يتم تأكيد أي منها حتى الآن.
من خلال الفوز في هذا الصراع، يطمح أردوغان في الانضمام إلى الرؤساء المشاركين لمجموعة مينسك في إدارة جنوب القوقاز، وبالتالي إضعاف النفوذ الغربي في المنطقة، لا سيما نفوذ إسرائيل، الحليف الوثيق حتى الآن لأذربيجان.
وردًا على اتفاق السلام، الذي يعتبر في الواقع أداة للاستسلام، بدأ القرويون الأرمن في إشعال النار في منازلهم حتى لا يتركوها “للأتراك” (هكذا يشير السكان المحليون إلى الأذربيجانيين). ولما تركهم مسيحيو الغرب وروسيا بمفردهم، بدأ الأرمن من كاراباخ (جمهورية أرتساخ المعلنة من جانب واحد) ومن الخارج، في توحيد صفوفهم لمساعدة بعضهم البعض. وكما أعلن ماني أليكسانيان، وهو صحفي فرنسي من أصل أرميني: “لقد ترسّخ التضامن الحقيقي بين الأرمن. وفي وقت قصير جدًا، تم توفير مجموعة من الأدوية والإمدادات وحتى الملابس. والمعلومات تُنقل عبر شبكات التواصل الاجتماعي، يومًا تلو الآخر. كل منا لديه أخ، أو أب، أو ابن عم، أو صديق على الخطوط الأمامية الآن. إن أرضنا وتاريخنا وشعبنا في خطر. وهذا هو أيضًا السبب الذي دفع الأرمن من فرنسا والولايات المتحدة ولبنان وسوريا، وأماكن أخرى، للذهاب إلى الجبهة بعد أن أعلنت أرمينيا التعبئة العامة. إنها روح التضامن نفسها هي التي دفعتهم إلى ذلك”.
الجدير بالذكر أن هناك عملية نزوح لقرابة 150,000 أرمني من كاراباخ وسط صمت غالبية من القادة الغربيين. وكان من بين الاستثناءات القليلة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي أعلن أن بلاده “ستقف إلى جانب أرمينيا في هذا الوقت العصيب“. إن غياب التماسك الغربي، حتى في الخطابات، بشأن جنوب القوقاز قد ترك المنطقة فريسة للنزعة التوسعية التركية والروسية. ويبدو الغرب كما لو أنه سيركز على اضطراباته الداخلية لبعض الوقت في المستقبل، تاركًا قضايا مثل القانون الدولي وتقرير المصير تسحق تحت أقدام دول مفترسة مثل إيران التي ستغتنم الفرصة للتدخل في مناطق مثل كاراباخ حيث يوجد فراغ. ومن دون الغرب، من المرجح أن تزداد حالة عدم الاستقرار في المنطقة، وتغدو أشكال الإمبريالية، التي لا تهتم بحقوق الإنسان، ذات اليد العليا في خضم النزاعات الطائفية البغيضة.
تعود قضية ناجورنو- كاراباخ إلى جوزيف ستالين، الذي حكم الاتحاد السوفييتي بين أواخر العشرينيات وعام 1953؛ وقد أنشئت هذه القضية عمدًا لتأليب مجموعتين عرقيتين ضد بعضمها البعض، بدلًا من الوقوف ضد الدولة المركزية التي احتلت كل منهما. وفي حين أن المنطقة تخضع للسيادة الأذربيجانية، إلا أنها كانت ذات أغلبية أرمينية من حيث التركيبة السكانية منذ العصور الوسطى. وفي هذا الصدد، قال ستيفان أستوريان، مدير برنامج الدراسات الأرمينية في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، إن هذه المسألة هي “مثال كلاسيكي على تضارب مبدأين للقانون الدولي: سلامة الأراضي وتقرير المصير“.
العديد من الدول لديها سجل مختلط حول هذين المبدأين، وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة لديها تفضيل عام لأحدهما -وحدة الأراضي- فإنها لديها استثناءات، مثل كوسوفو، وهي مقاطعة من صربيا تم فصلها بالقوة لمنع الإبادة الجماعية في عام 1999 وأعلنت استقلالها في عام 2008، وهو استقلال اعترفت به واشنطن.
وإذا كان هناك أي جانب مشرق في الجولة الأخيرة من الصراع في كاراباخ، وهو الأكثر دموية منذ الحرب التي اندلعت في أوائل التسعينيات عندما استولت أرمينيا على المنطقة، فهو أن ذلك يشكل جرس إنذار للدول الغربية، لا سيما أمريكا وفرنسا، وكلاهما عضو في مجموعة مينسك. فعندما يسمح الغرب للدول المفترسة بأخذ زمام المبادرة في “حل” النزاعات، تتضرر المصالح والقيم الغربية.
* مرشح لنيل درجة الدكتوراه في جامعة كارديف.
** يسعى موقعُ «عين أوروبية على التطرف» إلى نشرِ وجهاتِ نظرٍ مختلفة، لكنه لا يؤيد بالضرورة الآراء التي يُعبِّر عنها الكتّابُ المساهمون، والآراء الواردة في هذا المقال تُعبِّر عن وجهةِ نظر الكاتب فقط.