أثار التدخل التركي في ليبيا، في بداية هذا العام، تساؤلاتٍ عدة حول طموحات أنقرة في منطقة البحر الأبيض المتوسط. وتتكرر هذه الأسئلة بقوة خاصة مع تمكن تركيا من تغيير مسار الحرب الليبية لصالح ما يسمى بحكومة الوفاق الوطني، التي لا يمكن أن توصف بالحكومة بقدر ما هي مجموعة من الميليشيات الإسلاموية التي لا تتفق كثيراً فيما بينها، ناهيك عن بقية الدولة. وفي ظل تقدم الميليشيات الموالية لحكومة الوفاق، والمرتزقة السوريين القادمين من الخارج، شرقاً في ليبيا، هناك مخاوف آنية من الفوضى التي تصاحب ذلك، والمجال الذي يمكن أن توفره هذه التطورات للإرهابيين. وهناك قلق على نطاق أوسع مما سيحدث إذا ما سادت رؤية تركيا المؤيدة للإسلاميين السياسيين في المنطقة.
الجدير بالذكر أن المشير خليفة حفتر، القائد الذي عينه آخر برلمان منتخب لقيادة الجيش الوطني الليبي، أعلن عن حملة للاستيلاء على طرابلس في أبريل 2019 من أجل “تحرير الوطن من الإرهاب”. وقال المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي، اللواء أحمد المسماري، إن الجيش الوطني “سيطهر مخابئ الإرهابيين المتبقِّين”، وذلك بعد أن قام الجيش الوطني الليبي بالفعل بتطهير جنوب غرب ليبيا، وهي منطقة كان يسيطر عليها المتطرفون، بما في ذلك تنظيم داعش.
ومع اقتراب الجيش الوطني الليبي من النصر في طرابلس، صوّت البرلمان التركي في الثاني من يناير لصالح مشروع قانون يجيز للرئيس الإسلاموي الاستبدادي، رجب طيب أردوغان، إرسال قواتٍ إلى ليبيا لدعم حكومة الوفاق الوطني. ولم يكن التصويت عملياً سوى موافقة شكلية على قرار تم اتخاذه بالفعل، حيث يعمل متمردون سوريون سابقون، بعضهم من الفصائل الإسلامية المتشددة مرتزقة للأتراك نقلوا بالفعل إلى سوريا. وقد وفّر القرار البرلماني لأردوغان شيكاً على بياض، “ليقرر حدود الانتشار في ليبيا، ومداه، وتوقيته”.
وبمساعدة الطائرات التركية المسيّرة، والخدمات اللوجيستية والمرتزقة، استولت حكومة الوفاق الوطني على قاعدة الوطية الجوية الاستراتيجية الشهر الماضي، وبدأت في وقتٍ سابق من هذا الشهر في التوغل في شرق ليبيا.
حاول الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي التوسط لإنهاء العنف في 6 يونيو من خلال “إعلان القاهرة“. وقد وافق حفتر ورئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، على الإعلان، واقترح صيغة لتمثيل كل منطقة من مناطق ليبيا في تسوية سياسية يتم التوصل إليها من خلال المفاوضات. غير أن فايز السراج، رئيس حكومة الوفاق الوطني المدعوم من تركيا، رفض الإعلان واختار المضي في الحرب.
تقاتل حكومة الوفاق الوطني حالياً للسيطرة على مدينة سرت، وتحاول أيضاً الاستيلاء على الجفرة كجزء من المخططات الاستراتيجية التركية: فقد كانت روسيا تبني قاعدة جوية في المدينة، كان من الممكن أن تحمي مجلس النواب المنتخب في شرق ليبيا. وهكذا، فإن استمرار هذا الهجوم يحول دون بدء محادثات السلام، على الرغم من العروض التي قدمها كل من المصريين والروس؛ بغية التوصل إلى حل وسط. ويخشى الكثيرون في شرق ليبيا من الوقوع تحت حكم حكومة الوفاق الوطني، والأسباب لا تخفى على أحد.
تجدر الإشارة إلى أن مجموعة الميليشيات الإسلاموية، التي انضوت فيما بعد تحت راية حكومة الوفاق الوطني، استولت على السلطة في ليبيا في انقلاب غير قانوني ضد مجلس النواب في عام 2014. وكانت الميليشيات تعرف باسم “فجر ليبيا” آنذاك. وفي العام التالي، وكجزء من عملية الأمم المتحدة التي تهدف إلى تشكيل حكومة لتقاسم السلطة، تم إنشاء هيكل حكومة الوفاق الوطني. كان من المفترض أن يتم تشكيل حكومة الوفاق الوطني من مسؤولين من كل من فجر ليبيا، ومجلس النواب، ولكن تم اختطاف الحكومة من قبل ميليشيات فجر ليبيا. وكان السراج عضواً في مجلس النواب، عندما ذهب إلى طرابلس للانضمام إلى حكومة الوفاق الوطني، وأصبح رهينة الميليشيات. وبما أن عملية الأمم المتحدة قد فشلت، ولم يتم تنفيذ حكومة الوفاق الوطني، صوّت مجلس النواب، صاحب آخر ولاية ديمقراطية في ليبيا، بـ “سحب الثقة” من حكومة الوفاق الوطني في صيف عام 2016.
ولأسبابٍ سياسية واضحة، واصلت ميليشيات فجر ليبيا إطلاق اسم حكومة الوفاق الوطني وأصبح السراج محاصراً في طرابلس باعتباره الواجهة. وقد كان هناك قدر من التماسك بين الميليشيات في طرابلس، لكن هذا لم يغير من الطابع السياسي للتحالف (الحقائب الوزارية الرئيسة لا تزال في أيدي الإخوان المسلمين، والجماعات ذات التفكير المماثل)، ولا درجة الفوضى (قد يتم تنظيم الإجرام لكن بطريقة غير مركزية، ما أدى إلى استمرار الصراعات على النفوذ بين ميليشيات حكومة الوفاق الوطني، ويقع المدنيون ضحيتها).
في زيارة إلى طرابلس في نهاية عام 2018، ذكرت فرانشيسكا مانوتشي في صحيفة “الجارديان” أن الناس لم يجرؤوا على الحديث عن الميليشيات، وما سمَّوه “الملتحين” (الإسلامويين). كانت الرقابة على وسائل الإعلام على الأقل بنفس السوء الذي كانت عليه أيام العقيد القذافي، وأي شخص يتجرأ على انتقاد السلطات الحاكمة يحرق. كان حفتر في ذلك الوقت قد قرر الزحف إلى طرابلس لسحق الإسلامويين وحل الميليشيات. وأشارت مانوتشي إلى أن “الكثيرين يدعمونه”. ووجد مراقبون آخرون أن المناطق التي تسيطر عليها حكومة الوفاق الوطني لا تزال تخضع للمزيج ذاته من أمراء الحرب والجهاديين، بعضهم الآن فقط سوريون، مرتبطون بجماعات متورطة في ارتكاب جرائم حرب مثل “أحرار الشريعة”، أو بفرع تنظيم القاعدة في الدولة، جبهة النصرة.
تعتبر “ترهونة” أهم مدينة استولت عليها حكومة الوفاق الوطني، منذ أن ساعدتها تركيا على التقدم شرقاً خلال الأسابيع القليلة الماضية، وكانت النتيجة مدمرة، مع انتشار عمليات النهب الجماعي وإشعال الحرائق، بالإضافة إلى عمليات الاختطاف والقتل خارج نطاق القضاء على نطاقٍ مروع. وقال أحد السكان “كل شيء محروق ومدمر، وكل شيء سرق”. وقد نزح قرابة 40% من سكان ترهونة، وتسببت ميليشيات حكومة الوفاق الوطني في دمار أثَّر على 500,000 شخص، وفقًا لما ذكره المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي، المسماري.
لقد كانت عمليات التخريب والقتل التي ارتكبتها حكومة الوفاق الوطني في ترهونة واسعة النطاق لدرجة أنها قوبلت بإدانة الأمم المتحدة. هذه هي القوى التي تساعد تركيا على توسيع دورها في ليبيا، والتي تعتبر تهديدًا لحقوق الإنسان والاستقرار في حد ذاتها، وتخلق الفوضى التي تمنح جماعات مثل داعش فرصة لإحياء نفسها من جديد، وتهديد المنطقة المحيطة بليبيا والتي تشمل أوروبا المجاورة.
علاوة على ذلك، فلا يمكن تجاهل الجانب الإقليمي من اللغز الليبي مع تزايد تدويل الحرب. ومن العناصر الرئيسة في ذلك، المعاهدة التي تعيد رسم الحدود البحرية التي وقعتها تركيا مع حكومة الوفاق الوطني لإضفاء الشرعية على تدخلها. هذه الصفقة تزعزع استقرار المنطقة بشكل خطير، وتثير غضب كل جهة فاعلة محلية أخرى -مصر وقبرص واليونان و(أقل علنية) إسرائيل- الذين يشعرون بأن أمنهم مهدد بسبب النزعة التوسعية التركية في البحر الأبيض المتوسط، والذين يعترضون جميعاً على الاستيلاء الصارخ على الموارد، حيث تعيد تركيا تعريف حقول النفط والغاز حول قبرص على أنها تقع ضمن مياهها الإقليمية. كما أن هذا الموقف يمنح تركيا نقطة نفوذ أخرى ضد الاتحاد الأوروبي، بعد أن أظهرت أنقرة استعدادها لاستخدام ورقة الابتزاز المتمثلة في اللاجئين والمهاجرين للحصول على ما تريد من بروكسل.
وهكذا، يتضح أن الغزوة التركية في ليبيا، التي تدعمها قطر بهدوء، هي مثال آخر على خط الصدع الذي يقسم دول المنطقة، حيث تستخدم أنقرة والدوحة والإيرانيون الإسلاميين لدفع أجندتهم من جانب، فيما تحاول الكتلة التي تقودها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة احتواء التطرف من جانب آخر.
وقد وجدتِ الكتلةُ السعودية-الإماراتية شركاء في جهودها لمكافحة التطرف، سواء في الغرب (كانت فرنسا حاضرة بشكل خاص في الحالة الليبية) أو روسيا بشكل متزايد. ومع انقسام الميليشيات التي تحاول إعادة تأكيد نفسها بعد زوال الخطر المباشر من حفتر، قد يتمكن المعسكر المناهض للإسلامويين من التعافي، وإعادة تنظيم صفوفه.