د. سامي مبيض
تحمل زيارة بابا روما إلى العراق، التي تبدأ اليوم، آمالًا كثيرة للدولة التي مزقتها الحرب. فهو يصل إلى بغداد حاملًا رسالة تسامح وتعايش إلى شعب ابتلي بثلاثة عقودٍ من الصراع والحرب. وتشيد التقارير بشجاعة البابا البالغ من العمر 84 عامًا، لا سيما وأن الزيارة تأتي في ظل تفشي جائحة فيروس كورونا، والعنف المستمر في العراق. والجدير بالذكر أن كوفيد-19 أودى بالفعل بحياة 13,483 شخصًا في العراق حتى وقت كتابة هذا التقرير، وأصاب 709,000 آخرين، بمن فيهم سفير البابا نفسه. من جانب آخر تصاعدت العمليات الإرهابية في وقتٍ سابق من هذا العام مع وقوع هجومين انتحاريين في سوق بغداد، في واحدةٍ من الهجمات القليلة التي شنها تنظيم داعش على مدى السنوات الثلاث الماضية في المناطق الحضرية، ما أسفر عن مقتل 32 شخصًا، وإصابة أكثر من 100 آخرين. ومع ذلك، ورغم هذه الصعاب، يزور البابا فرانسيس الطائفة المسيحية التي عانت بشكل كبير حربًا طويلة في العراق، بما في ذلك ثلاث سنوات من المعاناة الشديدة تحت نير داعش من عام 2014 إلى عام 2017.
يتضمن برنامج زيارة البابا فرانسيس الصلاة في النصب التذكاري المسيحي في الموصل، الذي يقع على مسافة قريبة من المسجد الذي ظهر فيه زعيم داعش أبو بكر البغدادي للمرة الأولى بعد إعلان “خلافته” المزعومة في عام 2014. كما سيزور البابا كاتدرائية القديسة مريم الطاهرة في قرقوش، مدينة آشورية في شمال العراق. وتعتبر هذه الكاتدرائية ذات أهمية رمزية، بعد أن نهبها داعش وألحق بها أضرارًا. علاوة على ذلك، سيقيم قداس الأحد في أربيل، ويلتقي الطائفة المسيحية في العاصمة العراقية في كاتدرائية سيدة النجاة للسريان الكاثوليك. وتجدر الإشارة إلى أنه قبل عامين، كانت هناك خطة لهدم الكنيسة نفسها، بهدف استبدال مركز تجاري بها. وكان ذلك خلال فترة ولاية رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، وهو شيوعي تحول إلى إسلاموي (شيعي). في ذلك الوقت، اتهم الكثيرون الحكومة بأنها ليست أفضل من داعش، التي هدمت دير القديس إيليا (دار مار إيليا) في الموصل، أقدم موقع مسيحي في العراق، ويعود تاريخه إلى أوائل القرن السادس.
وبالإضافة إلى الاجتماعات الرسمية مع الرئيس برهم صالح ورئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، سيستقبل البابا أيضاً آية الله العظمى علي السيستاني في النجف، الزعيم الروحي للشيعة العراقيين، حيث عُلِقت لوحات إعلانية في جميع أنحاء المدينة بها صور لحمامة بيضاء تُحلّق فوق فرانسيس والسيستاني، إلى جانب شعار: “أنتم جزء منا ونحن جزء منكم”.
تشبه هذه الصور كثيرًا صور سلفه يوحنا بولس الثاني خلال زيارته لدمشق في عام 2001. وقد ذهب حينها البابا السابق إلى الجامع الأموي الكبير، يدًا بيد مع مفتي سوريا الشيخ، أحمد كفتارو. ورغم التفاؤل الشديد الذي صاحب زيارته إلى دمشق، لم يتمكن يوحنا بولس الثاني من منع، أو حتى احتواء، موجة التطرف الهائلة التي اجتاحت سوريا بعد عشر سنوات بالضبط، مع اندلاع الصراع السوري. ويبدو أنه من غير المرجح أن ينجح البابا فرانسيس في العراق أكثر من يوحنا بولس الثاني في سوريا.
ومن المقرر أن يلتقي فرانسيس مع المتحولين من بين جميع الأديان، وفي هذا الصدد، قال بلال وهاب، باحث في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، لموقع عين أوروبية على التطرف: “لا أرى البابا يتحدث إلى المتطرفين… إنهم ليسوا جمهوره” لكنه تابع: “زيارة البابا للعراق ولقاءاته مع زعماء المسيحيين والمسلمين هي رسالة تعزز موقف المعتدلين الذين يظلون أغلبية صامتة”.
لن يكون الجميع سعداء
كما هو متوقع، هناك أطرافٌ ليست سعيدة بزيارة البابا. كان أولها الجهاديين الشيعة العراقيين المدعومين من إيران، الذين تهيمن ميليشياتهم على الدولة العراقية. تعارض هذه الجماعات، خاصة كتائب حزب الله، زيارة رئيس الكنيسة الكاثوليكية إلى النجف، أقدس المدن الشيعية. ودفعت اعتراضات الميليشيات العميلة لإيران مقتدى الصدر، رجل الدين الشيعي المنشق، مرة أخرى إلى محاولة تصوير نفسه كزعيمٍ قومي للميليشيات الإسلاموية الشيعية العراقية الأكثر “اعتدالًا”، حيث أدلى ببيان في 13 فبراير قال فيه: “الانفتاح على الأديان الأخرى أمر جيد ونحن نرّحب بالزيارة. قلوبنا وبيوتنا مفتوحة أمامه”.
داخل العراق السني، احتفظ المعسكر الذي يشارك في النظام السياسي في البلاد -الذي يضم “الحزب الإسلامي” التابع لجماعة الإخوان المسلمين- بالصمت بشكلٍ عام. وهذا ليس بالأمر المستغرب: كونهم مهمشين في عراق ما بعد الخلافة، فليس هناك سوى القليل من المكافأة والمخاطر الكبيرة لهذه الأطراف في التعليق على هذا الحدث. غير أن ما يثير الدهشة هو أن السنة الرافضين، معسكر الجهاديين السلفيين في داعش، قد التزموا الصمت أيضًا، على غير العادة. وحتى تاريخه، لم ينطقوا بكلمة بشأن زيارة البابا، ما يثير مخاوف من أنهم قد يكونون يخططون على نحوٍ جاد لعملٍ عدائي.
على مدى السنوات الست الماضية، وجَّه داعش تهديداتٍ مختلفة لكنيسة روما، لعل أشهرها تهديد مباشر بـ “غزو روما”. وفي عام 2015، نشرت مجلة “دابق” التابعة لداعش على غلافها صورة لساحة القديس بطرس في الفاتيكان، مع صورة معدلة ببرنامج الفوتوشوب لعلم داعش يرفرف فوق مسلتها المركزية. وفي نوفمبر 2017، كشفت مجلة “نيوزويك” عن ملصق دعائي لداعش يظهر أحد جهاديي التنظيم وهو يقطع رأس البابا فرانسيس. وكُتِب عليها عبارة: “يا عُبّاد الصليب، أقسم أن أنتقم لكل قطرة دم سفكتموها وكل بيت دمرتموه. لن تستمتعوا حتى بالعيش في بيوتكم بإذن الله”. وتحدث التقرير نفسه عن ملصق آخر لداعش يدعو إلى شنِّ هجومٍ على الفاتيكان خلال عطلة عيد الميلاد. وبعد عام، انتشرت صورة أخرى على الشبكات الجهادية، لشخص يوجِّه مسدسه إلى البابا فرانسيس مع عبارة تقول: “لا تظن أنك آمن”.
ومن المفارقات أن البابا فرانسيس أشار إلى داعش، خلال رسالة بالفيديو نشرت قبل أسبوعين في الذكرى السادسة لمذبحة 21 قبطيًا على شاطئ في ليبيا على يد داعش. وفي معرض وصفه لـ “وحشية” داعش، وصف البابا الضحايا من “الكنيسة القبطية الشقيقة” بأنهم “قديسو جميع المسيحيين”.
رخصة للقتل
قد يكون تنظيم داعش صامتًا بشأن هذه الزيارة، لكن وجهات نظرهم حول البابا وأتباعه من المسيحيين بشكل عام معروفة جيدًا فمؤسس داعش، أبو مصعب الزرقاوي، الذي قُتل في عام 2006، قال في خطابه الأخير: “لن يكون للمسلمين أي نصر أو تفوق على الكفار العدوانيين مثل اليهود والمسيحيين حتى تحدث إبادة كاملة”. وفي التطبيق الواقعي عندما سنحت لتنظيم داعش الفرصة لتطبيق نظامه، قضت محكمة تابعة لداعش بأن المسيحيين الذين يعيشون داخل الأراضي التي يسيطر عليها التنظيم لديهم ثلاث خيارات: اعتناق الإسلام، أو دفع الجزية التي تصل إلى قرابة 20% من دخل الفرد، أو ذبحهم. وبالفعل رفض المسيحيون في الموصل الامتثال لمطالب داعش وذبحوا.
يظل المسيحيون في العراق في موقفٍ صعب للغاية حتى بعد زوال حكم داعش. فأولئك الذين تمكنوا من الفرار من الموصل التي يحكمها داعش إلى أجزاء أخرى من العراق يعيشون الآن في خوف، إما من حملات داعش الإرهابية المستمرة أو الميليشيات التي تسيطر عليها إيران. إذ يخفي المسيحيون العراقيون صليبهم وأي أيقونة ليسوع المسيح، بل يذهب الكثيرون إلى أبعد من ذلك في محاولتهم للتعايش في المجتمع من خلال ارتداء الحجاب الإسلامي وحفظ المقولات الإسلامية. وليس من المستغرب، لتجنب خيار الإرهاب أو الإهانة، أن يغادر العديد من المسيحيين الآخرين العراق كلها. كما يتعين على المسيحيين العراقيين التعايش مع واقع أن العديد من الإرهابيين الذين نفذوا هذه الجرائم -الذين قتلوا جيرانهم وأصدقائهم وعائلاتهم- لا يزالون طلقاء وربما يعيشون بالقرب منهم، بعد أن حلقوا لحاهم مع انهيار الخلافة، وتماهوا مرة أخرى في الحياة الطبيعية من خلال العمل كتجار وباعة متجولين.. إلخ.
خلاصة القول
على الرغم من أن زيارة البابا لا يمكن أن تحلَّ بين ليلةٍ وضحاها مشكلات العراق، وتداوي جراح مسيحييه، فإنها مع ذلك تعتبر زيارة مهمة وتقدم رسالة قوية. وفي هذا، يقول إبراهيم المرعشي، أستاذ مساعد في التاريخ في جامعة ولاية كاليفورنيا لموقع “عين أوروبية على التطرف” إن اجتماع البابا مع آية الله علي السيستاني “يسترعي انتباه داعش بالتأكيد.. واستنادًا إلى ماضي داعش في اضطهاد الكاثوليك العراقيين (وغيرهم من الطوائف المسيحية) وذبح الشيعة، يعتبر الاجتماع توبيخًا لأعمال التنظيم الإرهابي، ومعلمًا مهمًا في التاريخ العراقي والتاريخ العالمي للحوار بين الأديان”.