عرض: د. عمار علي حسن*
من المعروف أن “الدولة” بتعريفها المتفق عليه حالياً في علم السياسة، وفي القانون الدولي والدساتير، هي مفهوم حديث، إذ إن “الدولة القومية” لم تظهر إلا في القرن الثامن عشر بأوروبا، وقبلها مرَّ العالم بمراحل متتابعة بدأت بالعشيرة فالقبيلة والإمبراطوريات التي كانت توزع على ولايات تابعة لبابها العالي، أو عاصمتها المركزية.
والدولة لا يمكن التعامل معها بعيداً عن الواقع والواقعية، فهي ليست شيئاً افتراضياً أو متخيلاً أو مستعاراً فقط من تجربة تاريخية، فمثل هذا يظل في حدود “المبتغي” أو “المأمول” في أذهان البعض، بغض النظر عن صواب هذه الرؤية أو الإخلاص لها.
لهذا يظل كتاب “دولة الفكرة” لمحمد فتحي عثمان، والذي يعد من الكتب الأساسية في تصور الجماعات التي تتخذ من الإسلام سبيلاً لتحصيل السلطة السياسية، هو تصور معلق في الفراغ؛ لأن مؤلفه يسحب تجربة تاريخية محددة على واقع اجتماعي وسياسي مختلف ومعقد، ويطرحها بطريقةٍ تجعل منها عقبة في طريق التطور الاجتماعي، وليست رافعة له، حال استلهام مبادئها وقيمها الأخلاقية والروحية وليس شكلها القديم البسيط، غير القابل للتكرار بحذافيره، إلا في أذهان جماعات وتنظيمات ماضوية.
يضع المؤلف فكرة كتابه في عبارتين مفتاحتين تقول الأولى: لقد تمخضت الهجرة عن التجسيد أو التشخيص القانوني لدولة جديدة هي دولة العقيدة”، وتقول الثانية: إنها “دولة فكرة أو عقيدة، وليست دولة قطعة من أرض”. ونظرا لأن فكرته كانت في حاجة إلى تبيئة أو زراعة في سياق معاصرة، ليقنع الآخرين بإمكانية وجودها في زماننا، راح يقارن بين بناء الدولة الراهنة حسبما تعارف عليه الناس مع علم السياسة الحديث والمعاصر وظهور الدساتير والقوانين، وبين دولة الفكرة، التي يراها تحوي أمة، قائمة على إقليم، ولها سيادة داخلية وخارجية، ثم يقول: “قامت دولة الهجرة على أمة، ولكنها أمة تقوم على أساس جديد، هو أساس الفكر والعقيدة.. وسيادة قامت على الاختيار الحر في اعتناق الفكرة من جانب الأفراد، وفي الاجتماع لإقامة الدولة من جانب المجموع.. وكان لها إقليم لم ترتبط به، ولم تقتصر عليه”.
ويعيب هذا التصور الذي يتحدث عن “دولة الفكرة” عدة أشياء، يمكن ذكرها على النحو التالي:
1 ـ يتصرف أصحاب هذه الرؤية وكأن الرسول (عليه الصلاة والسلام) يعيش بيننا، وأن الوحي لا يزال قائماً، يؤدي دوره في الهداية والإرشاد والتصحيح في قضايا المجتمع المتغيرة بلا هوادة. وسيردُّ من يتبنون هذه الفكرة بأن ما تركه الرسول لا يزال بيننا، وهو القرآن والسنة، وهذا صحيح فيما يتعلق بالمبادئ والقيم والأصول، والأسس العامة التي يضعها الدين، وبعضها مختلف عليه، لكن تسيير أمور الدول، وتطور المجتمعات الإنسانية، وبحثها عن أشكال متعددة حديثة للتنظيم والإدارة، لا يتوقف، والاستجابة له تحتاج إلى إعمال العقل، والأخير سيذهب مباشرة إلى اقتراح أشكالٍ أخرى مناسبة، وهو ما فعله أصحاب تلك الرؤية أنفسهم، فالهيكل التنظيمي لـ “جماعة الإخوان المسلمين” أو لـ “الجماعة الإسلامية” أو “تنظيم القاعدة”.. الخ روعي فيه ما يناسب زمن تأسيس هذه التنظيمات أو الجماعات، ولم يتم التقيد التام بما كان مطبقا في زمن الرسول أو في عهود المسلمين الأولى.
2 ـ هذه الرؤية تنطوي على تهوينٍ كبير من دور رابطة الدم، ورابطة الجيرة، ورابطة المصلحة، وكذلك ما يرتبه التعاقد المدني بين الناس. فالكاتب يصف الشكل الاجتماعي ـ السياسي للدولة التي يريد استعادتها قائلا: “لم تكن دولة قبيلة ولا دولة مدينة، لم تكن دولة دم، ولا دولة أرض”.
والحديث عن أن رابطة الإيمان مقدمة على رابطة العقيدة، طرحها بوضوح سيد قطب لا سيما في كتابه «معالم في الطريق». فالحقيقة أن رابطة الدم، متمثلة في القبيلة والعشيرة والأسرة الممتدة أو العائلة ظلت تحكم الحياة السياسية في تاريخ المسلمين، منذ ما جرى في سقيفة بنى ساعدة، بعد وفاة الرسول، وحتى نهاية الخلافة العثمانية، وبعضها ممتد إلى يومنا هذا. وقد أثبت ابن خلدون في مقدمته كيف كانت “العصبية” هي الرابطة الأساسية للملك في تاريخ العرب والمسلمين؛ أي أنه قام بالأساس على رابطة الدم. ورأينا كيف جعل محمد عابد الجابري “القبيلة” و”الغنيمة” جنباً إلى جنب مع “العقيدة” في التاريخ السياسي العربي بعد ظهور الإسلام، وحتى وقتنا الحاضر.
3 ـ يخلط الكتاب بين العقيدة والأيديولوجية، حيث يصف المؤلف الدولة التي يطلبها بأنها “دولة أيديولوجية تقوم على فكرة وعقيدة”، و”ترفض الولاء التقليدي”. وهذا بالطبع خلطٌ معيب، فالأيديولوجيا هي جوازاً “عقيدة سياسية” تختلف في جوانب كثيرة عن “العقيدة الدينية”، والمطابقة بين الاثنين، في معرض السعي إلى استعمال الدين في تبرير المشروع السياسي لجماعة أو تنظيم، يضر بجلال الدين ضرراً بالغاً، ويحوله إلى نوع من التدين النازع إلى التسييس، بما يحمل الدين أوزار السياسة في النهاية.
4 ـ يخلط الكاتب بين “العالمية” وبين “التنوع” أو “التعدد” في إطار المحلية. فهو حين يرى أن الدولة التي كانت في صدر الإسلام تجمع بين أعراق وألوان متعددة، يصف هذا بأنه “عالمية”، وهو إن كان صحيحاً في الدين، نظرا لأن رسالة محمد (عليه الصلاة والسلام) نزلت للعالمين بنص القرآن نفسه، فإنه لا يمكن أن يكون كذلك في مجال السياسية، وتكوين الدولة، إذ لا يمكن للعالم أجمع أن يمتثل في دولة واحدة، كما أن الدول تقوم وتقوى ثم تضعف وتموت، فنحن نتحدث مثلاً عن دولٍ تعاقبت على مدار القرون منسوبة إلى طائفة أو عائلة أو فصيل أو تنظيم عسكري، وقد سادت ثم بادت، لكن الدين باق، وربطه كثابتٍ بمتغير، يضره ضرراً بالغاً.
وقد استعرض الكاتب عالمية الفكرتين “الاشتراكية” و”الرأسمالية”، لينطلق من هذا إلى عالمية الإسلام، في مقارنة غير سوية، أراد أن يضفي عليها طابعاً دينياً فجعل من نظام الخلافة ونظام الحج، تأكيداً لهذه العالمية، ثم يرى أن “دولة الهجرة هي عالمية في عناصر تركيبها، ووثائق تأسيسها، كما هي عالمية في أصولها ومبادئها الفكرية العقائدية العامة” وأنها: “كانت دولة عقيدية عالمية من أول يوم.. وكان من الممكن أن تقوم في أي مكان آخر يتبنى الفكرة ويدين للعقيدة”.
5 ـ يرفض الكاتب التطور الذي شهدته الحياة السياسية في سبيل تمكين الشعوب، وبلوغها درجة معقولة من الحرية، وتصرفها على أنها صاحبة السيادة والمال العام، حيث يرى أن دولة الفكرة التي ينشدها لا تقوم على عقدٍ اجتماعي يجعل الإرادة العليا في يد الأمة، إنما هي “دولة العقيدة” التي تقوم على أن السلطة الحاكمة العليا هي الله، وهي سلطة تمثل في نظره: “القوة المحايدة التي تقرر المبادئ والموجهات العامة، إذ هي لا تميل مع فرد أو جماعة، ولا تنحاز لحاكم أو محكوم”. والرد التقليدي المتبع على هذا بأن الله سبحانه لن ينزل إلى العالم ليحكم في الناس، كما تفعل السلطة الدنيوية، إنما ما يتم في الواقع هو وجود أناس يزعمون أنهم يتحدثون باسمه، أو يطبقون أحكامه، جلَّ وعَلا، وبالتالي سنكون أمام دولة “ثيوقراطية”، يدعي قادتها أن القوة العليا منحازة إليهم باعتبار أن “الحق معهم”، وأن منافسيهم أو خصومهم على “باطل بالضرورة”.
6 ـ يرى عثمان أنه في “دولة الفكرة” هذه يكون الحكم للشريعة، وليس للقانون الوضعي، وهو هنا يردد الشعارات ذاتها التي تبين من تحليل الخطاب السياسي للتيار السياسي الإسلامي أن كلَّ فصيل أو جماعة منه تختلف عن غيرها في تعريف الشريعة، وتعيين مساحتها وحجمها. وهناك من يحدد الآيات القرآنية التي تحوي تشريعاتٍ في مائتي آية فقط، وأغلبها مطبق بالفعل في الدول الإسلامية العادية الآن، لارتباط العدد الأكبر منها بالأحوال الشخصية، ويرى الفقهاء أن ولي الأمر له سلطة التعذير، التي تبيح له، عبر أهل الحل والعقد أو المجالس التشريعية الحديثة بوضع قوانين بديلة تلائم العصر، كأن يستبدل السجن بقطع يد السارق مثلاً. وفي العموم، فإن تعقد الحياة، وتشعب مجالاتها وقضاياها، يتطلب سن تشريعاتٍ متجددة بلا انقطاع.
وقبل أن ينهي عثمان كتابه يضرب كل فكرة فيه تقريباً، حين يقع في تناقضٍ شديد بين رؤيته المتعلقة بالدولة، والتي يُنظر عند علماء السياسة وممارسيها، إلى جانبٍ كبير منها، باعتبارها مسألة مادية، وبين إقراره بأن “الامتحان الحقيقي الذي يواجه الدين عامة في عصرنا هي أساسه العقيدي.. والاحتياج الحقيقي الذي يلح على الإنسان في عصرنا هو في الجوعة الروحية النفسية”.
ثم يمعن الكاتب في التناقض بين مناداته بدولة دينية، معروفة القيود التي تفرضها بدعوى أنها من عند الله، وبين قوله: “الإسلام لا يعلن النضال إلا لحماية حق الإنسان في الاختيار الحر، ليكون الفيصل في قضايا الفكر: هو اقتناع العقل، لا رهبة السلطة، إنه يدفع القوة بالقوة ليكون الدين لله، لا تحت سلطان أحد من الناس”، ففي الحقيقة فإن الدولة التي ينادي بها، لن تكون في النهاية سوى تحت سلطان فئة من الناس، تزعم أنها تحكم باسم الله.
* روائي، وباحث في علم الاجتماع السياسي