جابرييل سوبلوم فودور*
أحد أكثر المواضيع إثارة للجدل في مجال مكافحة الإرهاب والتطرف العنيف هو موضوع إعادة تأهيل المتطرفين. وفي هذا الصدد، تُشكِّل القضايا الملحّة طيفًا كبيرًا من الموضوعات منها: ما يجب فعله مع المقاتلين الإرهابيين الأجانب العائدين؟ وما يجب القيام به مع المواطنين الغربيين الذين لم تتم إعادتهم بعد، والذين غالبًا ما لا يزالون متطرفين ممن ينتمون إلى تنظيم “داعش” الموجودين حاليًا في معسكرات الهول أو الروج؟ وكيف تتصرف الحكومات الغربية مع التهديدات المحلية من التيارات الإسلاموية العنيفة أو “الذئاب المنفردة”، والتي تُعتبر صداعًا للسلطات الغربية.
وقد انصبَّ الكثيرُ من التركيز على البرامج التي استحدثتها الحكومة، مثل “برنامج التدخل المعني بالهوية الصحية” (Healthy Identity Intervention Programme) في المملكة المتحدة، الذي تعرَّض بعد قضية عثمان خان وهجوم جسر لندن في نوفمبر 2019 لانتقاداتٍ كثيرة1، إلى جانب مبادرات مماثلة في دولٍ غربية أخرى، كما هو الحال في فرنسا2.
ولكن ما مدى فعالية مثل هذه البرامج، حقًا؟ وقد خلص العديد من الباحثين إلى أن البرامج الحكومية ومبادرات الهيئات التشريعية نادرًا ما تنجح، وهذا الرأي يشاطره كاتب هذه المقالة. ببساطة، لا توجد ثقة في السلطات الحكومية أو تلك المرتبطة بالدول الغربية، التي يُنظر إليها على أنها عميلة لأجندة تخريبية غربية لإصلاح المسلمين، وفي نهاية المطاف، الإسلام نفسه، حتى لو شارك ممثلون مسلمون في عملية إعادة تأهيل المتطرفين الرسمية.
فصل النزعة الجهادية عن الإسلام
ينبغي دائمًا النظر في عوامل الدفع؛ أي العوامل الجماعية أحيانًا والفردية للغاية أحيانًا أخرى التي تحفّز الناس على التطرف3. وكما أشار العديد من الباحثين الآخرين، فإن الدوافع الدينية المحضة التي تنشأ عن قراءة متحمسة للنصوص المقدسة ليست هي الأسباب الرئيسة الوحيدة، حتى لو بدَت كذلك.
كما أن التجارب الشخصية جدًا مثل الصدمات النفسية، والانتقام من المظالم الحقيقية أو المتصورة، وقضايا الصحة العقلية- وإن كانت كلها تأخذ مظهرًا دينيًا- يمكن أن تكون بالقدر ذاته من الأهمية. ويمكن القول إن معالجة هذه الحالات أكثر صعوبة لأن اكتشاف “الجروح” المختلفة أكثر صعوبة، ناهيك عن الشفاء. وإذا استقر الفرد على أيديولوجية باعتبارها الدواء السحري الشافي، فقد يكون من الصعب جدًا إقناعه بالتخلي عنها لأنه، كما يقول المثل، لا يمكن أن تتغلب على شيء ما من دون أن تفعل شيئًا؛ لا يكفي فقط أن تسلبه أيديولوجيته القديمة، إذ يجب أن تقدِّم شيئًا موثوقًا به (من وجهة نظر الفرد) كبديل ليحل محله. ولكن في المجتمعات الغربية الليبرالية، لا توجد ضمانات، لا لمعنى الحياة والنجاح، ولا للحب والرضا العاطفي، ولا للسعادة. وهذا يجعل ترك أيديولوجية توفر تلك الأشياء أمرًا صعبًا للغاية، خاصة عندما يأخذ المرء في الاعتبار جميع التضحيات التي قدمها الفرد من أجل تلك الأيديولوجية التي يعتنقها أو الجماعة التي ينتمي إليها، والتكاليف المرتفعة جدًا المحتملة، اجتماعيًا ونفسيًا وروحيًا، لتركها.
وبصرف النظر عن التدخلات الحكومية، كان على المجتمعات (المسلمة عادة) المهددة بالنزعة الجهادية أن تستحدث أساليب مستقلة للتعامل مع هذه القضية، المتجذرة في كلٍّ من التقاليد الدينية والمجتمع المدني. هؤلاء هم الأشخاص الذين يتعين عليهم مواجهة المشكلة بشكل مباشر، أولًا، والعواقب الأكثر استدامة، فهم سيعانون من تداعياتها، على عكس البيروقراطيين الحكوميين الذين يمكنهم اقتراح “حل”، ثم يغادرون مناصبهم دون معاناة في أعقاب ذلك. إن التعامل مع النزعة الإسلاموية العنيفة والتكفيرية، هذا التيار الجهادي الذي يُكفِّر المسلمين الآخرين، مسألة حساسة.
من بين التعقيدات الرئيسة هي أن المسلمين حساسون جدًا للقضايا المتعلقة بالمبادئ المركزية للعقيدة نفسها، علاوة على أن الجهاديين يستغلون هذه العقائد بشكل مباشر. اقترح إمام ينتمي للسلفية النقية، كنت قد تحدثتُ إليه مراتٍ عدة خلال بحثي، والذي أتيحت له الفرصة للجلوس مع العديد من المتطرفين ومناقشتهم، نظرية مثيرة للجدل حول لماذا يبدو المتطرفون المسلمون على وجه الخصوص أكثر حماسًا، ولديهم المزيد من التشبث بقضيتهم.
يرى هذا الإمام أن الحجج التي عبّر عنها الدين والفلسفة الإسلامية لإثبات العقيدة الإسلامية كحقيقة إلهية هي حجج مقنعة وعقلانية لدرجة أنها تقود إلى إخلاص عميق للعقيدة التي يمكن أن تتحوّل بسهولة إلى تعصب إذا واجه الفرد تفسيرًا عنيفًا، بدلًا من إرشاده إلى الاعتدال. إن الوعود التي قطعها القرآن والحديث فيما يتعلق بالمكافآت في الآخرة للمؤمنين تصبح حقيقة ملموسة، وليس إيمانًا مفعمًا بالأمل أو رغبات غامضة على المدى الطويل، تدفع الفرد للرغبة في النضال من أجل تحقيقها، والجهاد يعني حرفيًا “النضال”، ومن ثم قد تبدو النزعة الجهادية لهؤلاء الأفراد وسيلة منطقية وسريعة لتحقيق غاية حقيقية جدًا كما وعد الإسلام.
تعصب المتحوِّل والقناعة بمقولة “افعلها بنفسك”
ترتبط هذه القضية ارتباطًا وثيقًا بالتطور المعرفي للمتحولين إلى الإسلام، كما أوضح كلٌّ من روالد وبيكر، اللذين تحدَّثا عن المراحل المعرفية التي يمر بها المتحولون أو أولئك الذين عادوا حديثًا إلى الإيمان. المرحلة الأولى، عادة، هي مرحلة من المثالية القوية والحماس العلني. تتحدث آن رولد عن “مرحلة الهيام” و”الهوس العاطفي” بالإيمان الجديد بين المتحولين للإسلام الذين درستهم4، في حين يستخدم عبدالخالق بكر مصطلح “المرحلة المثالية/الحماسة المفرطة”، وكلاهما يشير إلى فترة ما بعد التحول أو ما بعد صحوة الإيمان والمعتقد الديني. وتتسم هذه الفترة/المرحلة بالحماسة المفرطة، والصرامة، والتزمّت في الممارسات الدينية، والشعور المتنامي بالتفوق الأخلاقي عن الآخرين، مع الرغبة المصاحبة في المعالجة المباشرة للعلل المتصوّرة في العالم5.
إذا صادف الفرد المفرط في الحماسة، الذي عادة ما يكون حريصًا على معرفة كل شيء عن الإيمان، تفسيرات مسيّسة أو عنيفة، فهذا وضع خطير للغاية. وكثيرًا ما يقترن ذلك بالظاهرة الإشكالية المتمثلة إما في “الاستعانة بمصادر خارجية” أو “التنقيب” عن الأحكام الدينية، وهو أمر شائع في بعض الحركات التي تعتنق تفسيرات حرفية للنصوص المقدسة.
تنطوي “الاستعانة بمصادر خارجية” على تطبيق، أو السعي إلى إصدار، أحكام بشأن المسائل الاجتماعية أو الثقافية في الدول الغربية من العلماء المقيمين في الشرق الأوسط أو في أي مكان آخر، الذين ليسوا على دراية بالظروف أو الأعراف الاجتماعية والثقافية في تلك الدول، والذين قد يصدرون أحكامًا ملائمة للسياقات الاجتماعية والثقافية الخاصة بهؤلاء العلماء، ومع ذلك يتم تقديمها كقوانين عالمية “لما يُلزمك الله” بالقيام به، هذا على الرغم من أن الفقه الإسلامي يأخذ في الاعتبار بشكلٍ تقليدي الظروف والوقائع المحلية، وينظر فيها قبل صياغة الأحكام بنية صريحة تتمثل في عدم التصادم مع الواقع المعيش6.
أما عملية “التنقيب” فتشير إلى ظاهرة النبش في، وتطبيق، الأحكام الصادرة في بعض الأحيان منذ قرون في سياقٍ مختلف في جزء مختلف من العالم لجمهورٍ مختلف، والإصرار على أن هذه الأحكام لا تزال صالحة وواجبة التطبيق على الجماهير الغربية (في كثيرٍ من الأحيان).
ومن شأن هذا أن يؤدي، لا سيما في ظل وجود العاطفة والحماس، إلى تفسيرات للدين تكون، في الممارسة العملية والنظرية على حد سواء، غير متوافقة مع المجتمعات العلمانية المحيطة به، وتهيئ المجال لكل من التنافر المعرفي والصراعات في الحياة الحقيقية، كما هو الحال أيضًا في كثيرٍ من الأحيان مع القضية السابقة من “الاستعانة بمصادر خارجية”7.
ويرتبط هذا أيضًا بأسلوب “إسلام افعلها بنفسك” الذي أصبح شائعًا بين بعض الجماعات التي زعمت أنها سلفية، وكذلك التيار التكفيري الناشئ في أواخر القرن العشرين، حيث يرفض الشخص التقاليد العلمية ومناهج التفسير لمصلحة التفسير الشخصي، ويحاول تطبيق النصوص المقدسة بنفسه. وكثيرًا ما يرتبط هذا الاتجاه في الأوساط الأكاديمية، عندما يتعلق الأمر بمن يزعمون أنهم سلفيون، بنهج الباحث السلفي الأردني-الألباني محمد ناصر الدين ألباني (1914-1999). وقد كان لذلك بعض العواقب الإشكالية للغاية فيما يتعلق بحياة المسلمين في الغرب والتطرف بشكل عام.
غالبًا ما يستخدم أصحاب الكاريزما من الدعاة والقائمين على التجنيد التعاطف التكتيكي، حيث يشيرون إلى المظالم الحقيقية أو المتخيّلة في حياة الجمهور المستهدف -سواء كانت عنصرية أو تمييز أو اغتراب- لترسيخ الثقة، ومن ثم تقديم عقيدتهم المتطرفة على أنها “الحل”، باستخدام المبررات الدينية المبينة أعلاه. معروف أن جميع المهاجرين يواجهون صعوبات، والمسلمون في المجتمع السويدي ليسوا استثناء في ذلك؛ ومن ثم يقدم الإسلامويون طريقة تبسيطية وغير فعّالة في كثير من الأحيان لحلِّ هذه المشكلات، تبدو بالضبط كالحل الذي كان البعض ينتظره8.
السلفية: حصن ضد التطرف أم بوابة له؟
في ذروة “خلافة” داعش، لعب السلفيون الذين ينتمون للسلفية النقية دورًا حاسمًا في مواجهة مشكلة انتشار التكفيريين في دول الشمال الأوروبي، والسويد على وجه الخصوص. وكان لهذا الأمر جوانبه المثيرة للجدل، بسبب معتقدات السلفيين المحافظة المتشددة، في بعض الأحيان، وسط بعض المجتمعات الأكثر ليبرالية وعلمانية في العالم، ولكن تبين أنهم حرفيًا، وكذلك أيديولوجيًا، في وضع جيد لمعالجة المشكلة.
في ظلِّ تبني تفسيرٍ غير عنيف وغير سياسي للإسلام، الذي يعلم الناس التقوى ويدعو لاحترام القانون والنظام والتسامح تجاه المجتمعات غير الإسلامية المحيطة، مع الحفاظ على العقيدة الدينية، يمكن للسلفيين التحاور مع أولئك الذين اعتنقوا الفكر التكفيري أو تعاطفوا معه بالطرق التي تناسبهم، وكان السلفيون حاضرين جسديًا في بعض البقاع الساخنة للتحريض التكفيري. ومن ثم، وجد السلفيون أنفسهم في عين العاصفة9. ومع الإعلان عن “الخلافة”، وتفعيل القادة التكفيريين الذين كانوا كامنين سابقًا، كان السلفيون هم أول من عمل على منع انتشار الأيديولوجية التكفيرية بين السكان المسلمين10.
لكن المشكلة المهمة تمثلّت في أن التكفيريين تمكّنوا من تقديم تفسيرات مسيّسة للعقيدة التي أصبحت مؤثرة بين شرائح من السكان المسلمين في دول الشمال الأوروبي، على مدى السنوات الثلاثين الماضية، بسبب الدعوة التي مارستها جماعة الإخوان المسلمين وأتباع حركات مثل “الصحوة”، والناشطين السلفيين المتأثرين بجماعة الإخوان المسلمين الذين شكّلوا تحديًا في السعودية في أوائل التسعينيات11. وفي أوساط السكان المسلمين الذين كانوا يتسمون بالتنوع ويفتقرون للتنظيم، ويتألفون من العمال المهاجرين وأسرهم الذين جاءوا إلى الدول الاسكندنافية لكسب لقمة العيش، وقضوا وقتًا قليلًا في إنشاء مؤسسات السلطة الدينية، كان من الأسهل على التكفيريين أن يتسللوا إلى هذا الفراغ، ويفرضوا هياكل السلطة الخاصة بهم.
وقد أخبرني أحد الأشخاص أن “بعض الجماعات [أي الإخوان وغيرهم من الإسلاميين السياسيين] قد ألقوا خطبًا في المساجد لأكثر من عشرين عامًا، الجمعة بعد الجمعة، تحدثوا فيها فقط عن السياسة والحكم في العالم الإسلامي، والحاجة إلى “القيام بشيء ما” وما إلى ذلك. ويمكن رؤية [النتائج] بوضوح”، في إشارة إلى العواقب التي حدثت خلال “سنوات داعش” التي شهدت انجذاب الكثير من المتأثرين بهذه الطريقة إلى الفكر التكفيري والجهادي وتأثرهم به.
وقد شاعت لدى المسلمين العاديين وجهات نظر ومفاهيم إسلاموية للعالم، وذلك من خلال ترويج الإخوان المسلمين وغيرهم، المستمر للتفسيرات السياسية للعقيدة عبر ما يقرب من ثلاثة أجيال12. واتضح أن هذا قد أرسى الأساس للعناصر التكفيرية والجهادية، التي التقطت الخطاب والمصطلحات المألوفة بالفعل والموثوقة للعديد من المسلمين العاديين13. تسبب هذا العامل في انتشار التكفيرية بشكل أسرع مما كان يمكن أن يحدث في البيئات التي تسود فيها التفسيرات الدينية الأكثر هدوءًا، التي تركز على التقوى الشخصية والإيمان. وقد خلقت جماعة الإخوان والجماعات ذات الأفكار المشابهة حالة من الاستقطاب والاعتقاد بين المسلمين بأن عليهم أن يفعلوا شيئًا؛ وكل ما كان على داعش القيام به هو أن تقدم لهم طريقة للقيام بذلك.
علم الاجتماع والسلفيون في مواجهة التكفيريين
كان هناك عامل مهم آخر، وفريد من نوعه، تمثّل في الدرجة العالية من الفصل العنصري في السكن على أسس عرقية الذي تعاني منه بعض الضواحي السويدية التي تقع حول المدن الرئيسة14. هذه المناطق الضعيفة اجتماعيًا واقتصاديًا هي التي يتركز فيها السكان المهاجرون، الذين غالبًا ما يكونون مسلمين، حيث البيئة المادية نفسها ستلعب دورًا محوريًا في المواجهة بين التيارات الإسلامية المختلفة.
وهنا، في هذه الضواحي، وجد السلفيون والتكفيريون أنفسهم في كثير من الأحيان يعيشون، إن لم يكن جنبًا إلى جنب، ففي نفس المناطق المجاورة لبعضهم البعض، ما يخلق شعورًا بالتوتر من كلا الجانبين، حيث يصادفون بعضهم البعض بانتظام في المساجد والمرافق العامة والمطاعم وحتى محلات السوبر ماركت.
ولم يكن من غير المألوف أن تعبر الصداقات -أو حتى الشبكات العائلية- هذه الخطوط الفاصلة. لكن الجانبين اعترفا باختلاف بعضهما البعض، ولم تنظر قياداتهما المجتمعية بعين الرضا إلى وجود الآخر. وسعى التكفيريون للتأثير على الشباب المسلم المحلي وتجنيده، وغالبًا بطريقةٍ مماثلة للجماعات الإجرامية المحلية، مستخدمين مزيجًا من الدين والتعاطف التكتيكي والضغط الاجتماعي وعروض “المكافآت”.
على الجانب الآخر، حاول السلفيون وقفهم وتقديم بدائل أخرى غير عنيفة وبناءّة للجمهور المستهدف نفسه. وقد أدى هذا الوضع المتوتر، الذي بدأ الآن على خلفية الدراما الجيوسياسية، إلى معركة مستعرة من أجل كسب القلوب والعقول، حيث يعتقد الجانبان أنهما في سباق مع الزمن لتحقيق التفوق المطلق كسلطات دينية في منطقتهما، ومن أجل الشباب المسلم والإسلام نفسه.
وسرعان ما بدأ التكفيريون في مواجهة السلفيين، أولًا محليًا ثم على المستوى الوطني، وتهديدهم، والظهور في مساجدهم أو في محاضراتهم للمجادلة أو الشجار، وتحذير الناس من الاستماع إليهم. وردًا على ذلك، تحدى السلفيون التكفيريين، علنًا وسرًا، لمناظرتهم: إذا كانت الحجج التكفيرية قوية كما يدّعون، هكذا قال السلفيون، إذًا فلتعرضوا القضية.
اعتقد السلفيون أن بإمكانهم تقويض جاذبية التكفيريين في نظر المسلمين العاديين من خلال دحض أفكارهم. قبل العديد من الشخصيات التكفيرية على مختلف المستويات، من القائمين على التجنيد في الشوارع إلى كبار رموزهم هذا التحدي -وكان كثير منهم في ذلك الوقت يشعرون بالثقة بالنفس بسبب غزوات داعش السريعة- تم ترتيب المناظرات، في كثير من الأحيان من خلال شخص وسيط على اتصال مع كلا الجانبين، وعقدت في أماكن مثل المساجد الصغيرة المحلية بعد الإغلاق، وفي المنازل الخاصة، أو غيرها من الأماكن التي أعدت لذلك.
تُعزى العداوة بين السلفيين والجماعات التكفيرية إلى اختلاف التفسيرات للنصوص والمنهجية وقضايا العقيدة الإسلامية الأساسية، فضلًا عن وجهات النظر المختلفة جذريًا بشأن العالم. عند تصنيف تنظيم داعش وأمثاله، يميل العديد من النقاد إلى تصنيفهم كمجموعة سلفية جهادية بسبب استخدامهم للنصوص الدينية التقليدية لإثبات منهجيتهم. وهذا يمثل مأزقًا للسلفيين لأنهم يلتزمون بهذه النصوص التقليدية، ومع ذلك ينظرون إلى التكفيريين على أنهم أعداؤهم اللدودون ويحاولون تصوير التكفيريين على أنهم بعيدون جدًا عنهم من الناحية الدينية (بل ومن جميع النواحي الأخرى).
من جانبهم، يعكس التكفيريون الوضع، وهنا يكمن المأزق عندما يتعلق الأمر بالادّعاء بأن السلفيين يعملون كحائط صد ضد النزعة التكفيرية: التكفيريون كانوا فعالين جدًا في تجنيد المسلمين لأنهم يستخدمون النصوص التقليدية نفسها مثل السلفيين كمصادر لهم، وقد أضفيت الشرعية على تلك النصوص من قبل السلفيين والتقليديين، الأمر الذي سهّل على التكفيريين نشر تفسيرات منزوعة السياق لتلك النصوص، التي تأثرت بشخصياتٍ إخوانية، مثل سيد قطب وآخرين، لتبرير نظرتهم العنيفة للعالم.
مناظرات دينية بين السلفيين والتكفيريين
بينما كانت المناظرات والمواجهات الفكرية تدور بين المجموعتين، تمكنتُ من خلال أبحاثي من تحديد عددٍ من الأنماط، حيث تبين أن المناقشات التي دارت بين السلفيين والتكفيريين/الجهاديين خلال هذه السنوات تميل إلى التمسك بعددٍ من المواضيع، من بينها ما يلي:
- كيف ينبغي فهم مفهوم الجهاد؟ هجومي أم دفاعي؟ وفي أي ظروف يمكن إعلانه؟ من له الحق في الإعلان عنه؛ هل أي مجموعة أم القادة الوطنيين فقط؟
- كيف ينبغي فهم السياسة والقانون والحكم في الإسلام؟ هل الثورات أو التمرد ضد الحكومات مرحب به أم محظور؟ متى وكيف ينبغي (أو لا ينبغي) تطبيق الأحكام المستمدة من الدين في المجتمع كقانون؟
- كيف ينبغي فهم مفهوم التكفير؟ من يُكفِّر وما هي الشروط المسبقة للتكفير؟ هل يمكن لأي شخص أن يُكفِّر أم السلطات العلمية الدينية فقط بعد عملية التحقيق؟
- كيف ينبغي فهم مفهوم “المدنيين” داخل الصراع وخارجه؟ من هو المدني ومن هو المقاتل؟ هل يمكن أن يتحمل المدنيون المسؤولية عن الأفعال التي تقوم بها دولتهم وأن يستهدفوا؟ ومن ثم، كيف ينبغي فهم مفهوم الإرهاب؟
- كيف تفسر آيات محددة من القرآن، مثل تلك التي تتناول الصراع والسلام؟
- كيف يمكن فهم تفسيرات وفتاوى العلماء القدامى -مثل محمد بن عبد الوهاب في صراعه مع العثمانيين، أو الخلفاء العباسيين، أو ابن تيمية في تعامله مع المغول- في الوقت الحاضر؟ هل هذه الأحكام صالحة في الوقت الحاضر، بغض النظر عن الظروف المتغيرة؟ أم ينبغي أن توضع في السياق من حيث قابليتها للتطبيق؟
- كيف تُفسر بعض الأشياء في السيرة النبوية والحديث؟ هل لا تزال الأمثلة المتعلقة بشن الحرب، والحكم، التي قدمتها الحوادث التي وقعت فيها آنذاك قابلة للتطبيق؟ وأخيرًا، كيف ينبغي فهم موقف المسلمين داخل المجتمعات المضيفة الغربية غير المسلمة؟ هل ينبغي أن يطيعوا قوانين تلك الدول، أم أن يسعوا بنشاط لمواجهتها وتقويضها؟ هل ينبغي أن يقاتلوا ضد الدول التي تؤويهم؟
في كل موضوع من هذه المواضيع، كانت هناك حجج وحجج مضادة -أكثر مما يمكن حصره في هذه المقالة- ولكن عبر العديد من المناقشات، بما في ذلك مناظرتان رئيسيتان ظهرت فيهما بعض الأسماء الكبرى آنذاك في الحركة التكفيرية في منازل خاصة، يمكن للمرء أن يكتشف ثوابت بنيويّة معينة.
على سبيل المثال، تمكّن التكفيريون والمتعاطفون معهم، من السويد إلى فنلندا، من الجدال على مستويات مختلفة، سواء بالنسبة للجمهور الأكثر ثقافة وعلمًا، أو للجمهور العادي. والجدير بالذكر أن السلفيين فعلوا ذلك أيضًا. لكن الضربة المتكررة ضد التكفيريين تمثلت في أن السلفيين عقدوا مقارنات (لافتة للنظر في كثيرٍ من الأحيان) بين داعش والخوارج، الذين تمردوا ضد الإسلام في المرحلة المبكرة وقتلوا الإمام علي، الذين يمكن القول إنهم يمثلون أول جماعة إرهابية في التاريخ الإسلامي15.
ومن خلال إدانة داعش كخوارج العصر، تمكّن السلفيون من استخدام أفعاله، وكذلك أقوال شخصيات تتراوح بين النبي نفسه والأئمة والفقهاء المسلمين الأوائل، للتحذير من هذه الجماعات.
ورغم أن بإمكان التكفيريين أن يجادلوا على مستوى عالٍ، فإن هذا لم يكن المسار الذي اتبعوه بشكل عام. فخلال المناقشات، قال لي بعض السلفيين الذين شاركوا فيها، إن الجانب التكفيري اعتمد كثيرًا على العاطفة، والحجج العاطفية، إلى جانب الحجج الدينية، في حين ركّز الجانب السلفي على الحجج العلمية والأحاديث. لكن “في بعض الأحيان كان عليك التعامل معهم بطريقتهم”، كما قال لي أحد الأئمة السلفيين فيما يتعلق باستخدام الجانب التكفيري للخطاب العاطفي. وقد حاول التكفيريون، بطريقةٍ مختلفة، ولكن ذات صلة، التأثير على عدد قليل من المناقشات بطريقة غير أكاديمية من خلال جلب أتباع، غير معلنين، على ما يبدوا لاستعراض القوة وربما التخويف.
ومع ذلك، آتت المناقشات أُكلها. ففي حين كان من الصعب إقناع القيادات التكفيرية من خلال النقاش، بدأ أتباعهم الأقل رسوخًا بالانشقاق ببطء والانضمام إلى التيار السلفي. وانتشر الخبر أيضًا حول هذا الأمر وكان له تأثير تراكمي، وهزّ قناعات أتباع التكفيريين الآخرين. وقد لاقت المحاضرات العامة للسلفيين إقبالاً جيدًا من الشباب المحلي، الذين كانوا بعد ذلك يتصلون بالمحاضرين والأئمة، ويعرضون عليهم أفكارهم وشكوكهم النابعة من تعرضهم للحجج التكفيرية.
وكنقطة منفصلة، ولكن لا تقل أهمية، يبدو أن الوجود السلفي والأنشطة المضادة التي كانوا يقومون بها قد شتت جهود التكفيريين. ذلك أن حاجة التكفيريين للتعامل مع التهديد الذي يُشكّله السلفيون جعلتهم يقضون وقتًا وينفقون مواردَ أقل في التقدم على طريق الإرهاب.
يعزو السلفيون نجاحهم في الحفاظ على مصداقيتهم بين المسلمين في مواجهة التحدي التكفيري إلى عوامل عدة؛ من بين هذه العوامل دراسة الأمور الشرعية القديمة والمعاصرة وإتقانها مثل التكفيريين، وإن كان فهمها مختلفًا جدًا، ووجود أبرز علماء الإسلام في معسكرهم، بدءًا من أولئك الذين ظهروا عند فجر الإسلام مرورًا بأسماء تاريخية مثل ابن تيمية، والسيوطي، ومحمد بن عبد الوهاب، إلى المعاصرين مثل محمد ناصر الدين الألباني، ومحمد بن العثيمين.
بالإضافة إلى المؤهلات العلمية، ينسب السلفيون نجاحهم ضد التكفيريين إلى ما يمكن للمرء أن يسميه النقيض: فهم مألوفون وعاديون، ويعيشون بين الجمهور، ويقدمون أنفسهم على أنهم واقعيون، ويظهرون بلحاهم الكاملة والجلباب. على الجانب الآخر، التكفيريون يثيرون فضول “المُحنّكين” في التعامل مع المواقف الصعبة، ومن ثم يلاقون هوى لدى من هم على شاكلتهم، ولا يمكن لأحد أن يتهم السلفيين بالانتساب إلى الحكومة أو التصرف انطلاقًا من أي دافع باستثناء الإخلاص تجاه الدين.
الخلاصة
لقد حظيت فكرة استخدام الجهات الفاعلة أو الطوائف الدينية في مكافحة الإرهاب بنقاشٍ ساخن في الدول الغربية. ويرى العديد من المراقبين والنقاد في هذا الموضوع أن الدولة تعزِّز، ولو بشكلٍ غير مباشر، نفوذَ النزعة الدينية المحافظة في المجتمعات الليبرالية إلى حدٍّ لا يُطاق. ويجادل البعض بأن مثل هذه السياسة من شأنها أن تؤدي إلى المزيد من التطرف والإرهاب، حيث يمكن بسهولة التلاعب بالمعتقدات السلفية وتحويلها إلى الجهادية، ولكن حتى أولئك الذين ليس لديهم هذا الاعتراض العملي يعارضونها من حيث المبدأ، خشية أن يؤدي تآكل العلمانية إلى إضعاف الحريات التي اكتسبت بشق الأنفس.
وكان هذا هو الاستنتاج الذي توصلت إليه المملكة المتحدة في عام 2011، عندما اتخذت وزارة الداخلية قرارًا بإلغاء تمويل المنظمات المرتبطة بما وصفته بـ “التطرف غير العنيف”16. هذه وجهة نظر مفهومة. ومع ذلك، فلم يكن للتدابير القانونية وغيرها من التدابير العقابية البحتة سوى تأثير محدود في الحد من انتشار التطرف الأيديولوجي والديني.
إنه نقاشٌ صعب لا توجد فيه إجابات واضحة، وبالتالي فإن الشيء الوحيد الذي يمكن قوله بأي درجةٍ من اليقين هو أن المناقشة ستستمر على الأرجح. فقضية النزعة الجهادية في الغرب مرتبطة بالكثير من الأسئلة الأساسية التي أدّت إلى عودة الجدل حول دور الدين في المجتمعات العلمانية الآن، الذي لا يظهر أي مؤشرات على نهايته في أي وقتٍ قريب.
* جابرييل سيوبلوم فودور: باحث متخصص في دراسة المجتمع الديني ومكافحة التطرف العنيف، في المركز الدولي لدراسة التطرف العنيف.
المراجع:
[1] London Bridge: Usman Khan completed untested rehabilitation scheme – BBC News
[2] Is France′s deradicalization strategy missing the point? | Europe| News and current affairs from around the continent | DW | 12.12.2018
[3] Speckhard, Anne: The Lethal Cocktail of Terrorism – ICSVE
[4] Roald, Ann-Sofie. “New Muslims in the European Context: The Experience of Scandinavian Converts.” Muslim Minorities, Volume: 4 2004. ISBN: 978-90-04-13679-3.
[5] Baker, dr. Abdul-Haqq. Extremists in our midst – confronting terror, Palgrave Macmillan UK 2011. ISBN 978-0-230-31690-4.
[6] Olsson, Susanne. “Swedish Puritan Salafism – a hijrah within.” Comparative Islamic Studies, 8(1-2), 71–92. https://doi.org/10.1558/cis.v8i1-2.71
[7] Al-Mutairi, Dr. A R M L. Religious Extremism in the Lives of Contemporary Muslims, 2001.
[8] Sjöblom-Fodor, Gabriel & Speckhard, Anne. “Exceptionalism at the Extremes – a brief historical overview of Sweden’s ISIS foreign terrorist fighter problem.” ICSVE report, 2021
[9] Ismail, Evin, “Kan konservativa salafister motverka radikalisering?” (Swedish), Respons Magazine, 4/2017. http://tidskriftenrespons.se/artikel/kan-konservativa-salafister-motverka-radikalisering/
[10] Fodor, G: “Societal Serenity & Quietist Salafis: A Swedish Context (2019): Societal Serenity & Quietist Salafis: A Swedish Context.” https://www.abdulhaqqbaker.com/societal-serenity-quietist-salafis-a-swedish-context/
[11] Herstad, Björn: “Sweden and the Muslim Brotherhood – is Islamism a natural part of a multicultural society or is it a threat to our civilization?” Polish Journal of Political Science, 3/2017.
[12] Sjöblom-Fodor, Gabriel & Speckhard, Anne. “Exceptionalism at the Extremes – a brief historical overview of Sweden’s ISIS foreign terrorist fighter problem.” ICSVE report, 2021
[13] Ibid.
[14] “The government decides on actionplan against segregation”, Swedish Government official website 20 December 2020: Regeringen beslutar om handlingsplan mot segregation – Regeringen.se
[15] Bin Ali, Mohamad, April 4. 2018, Nanyang Technological University (NTU), Singapore CO18063 | Labelling IS Fighters: Khawarij, Not jihadi-Salafis | RSIS
[16] Preventing violent extremism: A failed policy? – BBC News