عندما أُسقطت خلافة أبو بكر البغدادي في الرقة في مارس 2019، اعتقد الكثيرون خطأ أن تنظيم داعش قد ولى إلى غير رجعة. بما أن التنظيم قد ولد من رحم فوضى الحرب السورية، افترض الكثيرون أنه سيختفي مع صمت المدافع تدريجيًا في سوريا. غير أن ذلك لم يحدث، وعلى مدى الأشهر الستة الماضية، وقعت سلسلة من الهجمات على السكان المدنيين في كلٍّ من سوريا والعراق، وكلها هجمات تبناها التنظيم. وكان آخرها تفجيران انتحاريان في بغداد في يناير. وقبل شهرين، شنَّ داعش ثلاثَ هجماتٍ في العراق، واحدة في بلدة المسحك في محافظة صلاح الدين أسفرت عن مقتل ستة من أفراد الأمن العراقيين، وأخرى كانت قنبلة على جانب الطريق في محافظة ديالى، فيما نفّذ هجومًا ثالثًا في محافظة الأنبار. وخلال الأشهر الثمانية الأولى من عام 2020، نفّذ تنظيم داعش 126 هجومًا في سوريا، مقابل 144 هجومًا فقط في عام 2019. وشن التحالف بقيادة الولايات المتحدة هجمات انتقامية، حيث قصف مواقع داعش 152 مرة في مارس 2021. ومع ذلك، فإن هذا لم يقضِ على التهديد.
داعش في مخيم الهول
السبب في استمرار التهديد أنه على الرغم من رحيل المؤسس، فإن الأيديولوجية لا تزال حيّة. ذلك أن تنظيم داعش يتغذى على الفوضى التي سادت في كل من سوريا والعراق، إلى جانب حرية الحصول على الأسلحة وخزائن الدولة المسروقة في كلا البلدين أو من الميليشيات الأخرى في ساحة المعركة السورية. علاوة على ذلك، فإن حالة انعدام القانون لا تزال قائمة، والأسلحة وفيرة. وعندما انهارت الخلافة، عادت حفنة صغيرة فقط من المقاتلين الأجانب إلى ديارهم، بينما ظل أغلبهم في مخيمات، وكان أشهرها مخيم الهول في شمال شرق سوريا بالقرب من الحدود السورية العراقية، التي تخضع الآن لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية. وفي هذا الصدد، تشير منظمة “هيومن رايتس ووتش” إلى أن المخيم يأوي 43,000 رجل وامرأة من الأجانب ممن على صلة بداعش. ودولهم الأصلية لا تريد إعادتهم وتصم آذانها عن دعوات إعادتهم إلى أوطانهم. ويشير برنامج مكافحة التطرف بجامعة جورج واشنطن إلى أن الولايات المتحدة أعادت فقط 30 من بين 300 أمريكي يقاتلون في صفوف الجماعة الإرهابية1.
وفي ظل أن الحفاظ على الأمن في المخيم مكلّف للغاية بالنسبة إلى قوات سوريا الديمقراطية، فقد أدى ذلك إلى انخفاض مستوى الأمن، ما سمح للمسلحين بالفرار أو دفع رشاوى للخروج. خلال حملة مداهمات استهدفت المخيم في أبريل 2021، قالت قوات سوريا الديمقراطية إنها عثرت على أسلحة وذخائر، فضلًا عن أجهزة كمبيوتر محمولة، وكلها مرتبطة بداعش. وفي الوقت نفسه، قالت وزارة الخزانة الأمريكية إن الهول أصبح نقطة جذب لتمويل داعش، باستخدام الحوالات الداخلية لنقل ما يقدر بنحو 100 مليون دولار من الاحتياطيات النقدية. بالإضافة إلى ذلك، تم تنفيذ ما لا يقل عن 42 عملية إعدام في الهول منذ بداية هذا العام على غرار ما يقوم به داعش، حيث أبلغت قوات سوريا الديمقراطية عن عدد أكبر قليلًا من 47 عملية. وفي الشهر الماضي، زعمت قوات سوريا الديمقراطية أنها ألقت القبض على 53 من عناصر داعش المشتبه بهم في المخيم، بمن فيهم خمسة من قادة الخلايا.
التخفي وسط عامة السكان
قام السكان المحليون المنتمون للجماعة الإرهابية في أماكن أخرى من سوريا والعراق، بحلق لحاهم، وخلع ثيابهم العسكرية، وعادوا للاندماج في مجتمعاتهم، والتخفي بسهولة هائلة، بالطريقة ذاتها التي تمكّن بها البعثيون من النزول تحت الأرض، بعد سقوط نظام صدام حسين في العراق في أبريل 2003. كانوا يعرفون التضاريس بشكل جيد للغاية، وكان لديهم عائلات في جميع أنحاء القرى والبلدات، وتحدثوا بسهولة باللكنة المحلية، ما يجعل من الصعب تمييزهم عن الناس العاديين. صحيح أنه ليس بإمكانهم إعدام الناس في الأماكن العامة، وتصوير تلك العمليات لبث الخوف في قلوب الناس، كما أنهم لا يستطيعون ادّعاء أي مظهر من مظاهر الدولة مثل تلك التي كانت موجودة في عهد البغدادي. ومع ذلك، فهم ما يزالون موجودين -ماديًا وأيديولوجيًا- وما يزالون انتقاميين وينتظرون اللحظة المناسبة للظهور من جديد. ولسوء الحظ، فلا أحد يعرف على وجه اليقين عدد مؤيدي داعش المنتشرين في صحاري سوريا والعراق لأن سجلات الدولتين ناقصة وقديمة.
التجنيد عبر الإنترنت
يظهر تقرير حديث للأمم المتحدة أن لدى داعش قرابة 10,000 مقاتل في سوريا والعراق. ومع ذلك، فإن عدد الشباب الذين يمكن لهؤلاء المقاتلين تجنيدهم وتلقينهم غير محدود نظريًا. وتكشف تقارير الاستخبارات الغربية أن التنظيم ما زال يجند أعضاء من خلال منتديات جهادية على الإنترنت، وما زال في خزائنه ما بين 50 و300 مليون دولار. يستخدم التنظيم الإرهابي تطبيقات دردشة مشفّرة للتغلب على الحظر المفروض عبر “تويتر” و”فيسبوك”، ويستخدم الآن تطبيق “تام تام”، وهي شبكة روسية للتواصل الاجتماعي. وعلى تلك المنصة نشروا دليلًا مصورًا من 216 صفحة موجَّهًا لـ “المقاتل الجهادي المبتدئ”، إلى جانب شريط فيديو تعليمي قابل للتنزيل حول كيفية صنع بندقية من طلقة واحدة للاغتيالات من مسافة قريبة.
نزع الطابع السنّي عن داعش
عندما بدأ الأمريكيون بقصف داعش في عام 2014، ركزوا على القضاء على كبار الجهاديين، لكنهم لم يبذلوا جهودًا كبيرة لمكافحة الأيديولوجية الجهادية. ووفقًا للمتحدث السابق باسم داعش، أبو محمد العدناني، فإن داعش وخلافته هو “حلم يعيش في أعماق كل مؤمن مسلم”. ومن الأهمية بمكان ملاحظة أنه عندما أعلن أبو بكر البغدادي خلافته في عام 2014، انتقد العديد من الجماعات الإسلاموية؛ مثل جماعة الإخوان المسلمين الخليفةَ -الذي زعموا أنه غير مؤهل فكريًا لتولي قيادة العالم الإسلامي- ولكن لم تنتقد بالضرورة المفهوم. ولم يعارضوا الجماعة الإرهابية نفسها، نظرًا لأن لديهم أيضًا طموحًا مماثلًا لإقامة دولة إسلامية. يجب ألا ننسى أبدًا أن البغدادي نفسه كان أحد كوادر شباب الإخوان، وكذلك حفنة من رفاقه العراقيين والسوريين. في الواقع، ما يزال أعضاء الإخوان السوريون ينتمون إلى داعش، ويساعدونه في إعادة تجميع صفوفه في المناطق غير المأهولة في ريف إدلب.
الخلاصة
باستثناء رسالة وحيدة من 120 باحثًا، مؤرخة في 20 سبتمبر 2014، تطعن في تفسير البغدادي للقرآن الكريم وللأحاديث النبوية الشريفة، لم تبذل أي محاولة جادة لتجريد داعش من صفة الإسلام أو نزع الطابع السني عنه. وفي فرنسا، احتشد آلاف المسلمين في أحد المساجد ليقولوا “ليس باسمنا”. وفي مصر، دعت دار الإفتاء -السلطة الدينية المسؤولة عن إصدار الفتاوى- إلى التوقف عن الإشارة إلى التنظيم الإرهابي باسم “الدولة الإسلامية”. وبدلًا من ذلك، أشارت إلى التنظيم باسم “انفصاليو القاعدة في العراق وسوريا”. وبغض النظر عن هذه الخطوات، الأمر يتطلب الكثير من الجهد لاجتثاث الأيديولوجية الأساسية لداعش، التي انتشرت في جميع أركان العالم، وسممت عقول المسلمين في جميع أنحاء العالم. والآن فقط أدركت وكالات الاستخبارات الدولية خطورة المشكلة. وللأسف، فات الأوان لفعل أي شيء حيال ذلك، ونتيجة لذلك، يشق تنظيم داعش طريقه للعودة مجددًا.
*كاتب وأستاذ جامعي سوري، متخصص في الدراسات التاريخية، عمل باحثا في مركز كارنيجي، مؤلف كتاب: تحت الراية السوداء- على مشارف الجهاد الجديد”، صدر في 2015.
[1] Hassan, Lila. “Repatriating ISIS foreign fighters is key to stemming radicalization, experts say.” PBS. April 6, 2021