د. ماتيو جيمولو*
على الرغم من أنها قد تخدع الكثيرين منا نظرًا لأنها تبدوا سريالية للغاية، لم تكن حركة “الصحوة اليسارية” أبدًا أكثر واقعية من الآن. في هذه اللحظة، وأنا أكتب هذه المقالة النقدية حول هذا الموضوع، محاولًا إيجاد الإلهام لكتابة المقدمة، جلس اثنان من الأشخاص بجانبي في المقهى الذي أكتب فيه في العادة مقالاتي. ولحسن الطالع، فإنهما يناقشان أحد أكثر المواضيع سخونة في السياسة اليوم: قضايا المتحولين جنسيًا.
ولما جذبتني المحادثة رفعت رأسي لإلقاء لمحة سريعة عليهما، وكان من الصعب حقًا بالنسبة لي أن أخمن هوياتهما من حيث النوع، ولكن المثير للاهتمام في هذه الحالة هو ما يخبران به بعضهما الآخر بسبب هويتهما تلك، فيتحدثان عن تلك المرة التي ذهبا فيها معًا إلى مكان معروف في وسط بروكسل للمثليين جنسيًا مع ازدراء الشخص الذي يعمل في مدخل المكان، ليس لرفضه دخولهما، ولكن لسبب معاكس: الترحيب بهما! على ما يبدو، بمجرد منح الإذن للدخول بحماس أكثر من اللازم، “أنا سعيد جدًا أن يدخل هنا أخيرًا اثنان من المتحولين جنسيًا ما يجعله أكثر شمولًا”، وجدا أنفسهما منزعجين من التجربة بأكملها.
طلب المستحيل
بغض النظر عن مدى “الشمول” الذي يعبر عنه فعل الترحيب بامرأة بيولوجية تقدم نفسها على أنها “رجل” في مكان للمثليين جنسيًا، وبغض النظر عن مدى صعوبة تحريف اللغة والتعابير، فمهما أردنا أن يكون مجتمعنا “شاملًا”، مهما استطعنا لي عنق المنطق والحس السليم، فيبدو أن مطالب لواء “الصحوة اليسارية” لن تلبَّى أبدًا.
هناك سبب بسيط جدًا لذلك: ما نسميها “العدالة الاجتماعية” هي في الواقع غير اجتماعية للغاية وغير عادلة إلى حد كبير بالنسبة لهذه الحركة. وكفرع متخلف ومنحرف لحركات الحقوق المدنية في الستينيات والسبعينيات، لم يعد يستثمر في تعزيز “المساواة” بين الأفراد: فضمان تكافؤ الفرص لكل شخص، بغض النظر عن وضعه الاجتماعي أو موطنه أو خلفيته الثقافية والدينية أو جنسه، أو توجهه الجنسي، هي مواقف سياسية متخلفة بالنسبة لليسار المتشدد.
وعلى عكس معارك القرن الماضي من أجل تكافؤ الفرص – من أجل الحق في التصويت، والقدرة على الطلاق، وشرعنة الإجهاض، وإلغاء الفصل العنصري، أو إلغاء تجريم اللواط – فإن دعاة العدالة الاجتماعية في القرن الحادي والعشرين يحاربون أعداء غير مرئيين: “تفوق البيض”، و”النظام الأبوي”، و”الاستعمار الثقافي”، و”الثنائية بين الجنسين”. كيف نهزم مثل هؤلاء المعارضين الطوباويين، إن لم يكن من خلال تشويه ما يسميه الفلاسفة لوجوس أو “logos” ]الخطاب، اللغة، العقل، ومعان أخرى[.
يجب، وفقًا لهذه الآراء، مراجعة اللغة وإصلاحها، لتصبح “شاملة” ومحايدة جنسانيًا، من أجل تجنب الإساءات غير المحسوسة والاعتداءات اللفظية الطفيفة للغاية. وينبغي الترويج لروايات ما بعد الحداثة على أي مستوى تعليمي، من خلال تخصصات جديدة تمامًا مثل “النظرية العرقية النقدية”، والدراسات الجنسانية ودراسات ما بعد الاستعمار، لضمان ألا يكون للجيل الجديد أي وسيلة أخرى للنظر إلى العالم سوى العدسة المشوهة للأيديولوجيات السياسية المتحيزة والراديكالية. يجب تدمير الرموز القديمة -التماثيل والأعلام وأسماء الأماكن العامة- التي كانت توحد الأمة وشعبها وثقافتها باسم “النسبية الثقافية”.
استئصال الهرطقة
تبدو المفاهيم الليبرالية القديمة الآن، مثل حرية الفكر والتعبير، أكثر فأكثر، مثل الأنواع المهددة بالانقراض. إذ يتم تجاهل المفكرين الأحرار في البيئات التي يجب أن يكون فيها لصوتهم أهمية كبرى: الجامعات ووسائل الإعلام والسياسة. عدد الأكاديميين الذين أُجبروا على الاستقالة من الجامعات الأمريكية والبريطانية لارتكاب جنايةٍ ضد الصحوة اليسارية تزداد بشكل مقلق يومًا بعد يوم: جوردان بيترسون، جيرمين جرير، سيلينا تود، فليكس نجول، روزا فريدمان، تيم هانت، جو فينيكس، نوح كارل، أمبر رود، جيني موراي، على سبيل المثال لا الحصر، شهدوا جميعًا درجاتٍ مختلفةً من الرقابة في الجامعات البريطانية، على مدى السنوات القليلة الماضية.
آخر هذه التشكيلة، ممن يُعتبرون هراطقة، هو البروفيسور تيم لوكهرست من جامعة دورهام (المملكة المتحدة)، الذي جرى وقفه حاليًا عن العمل بتهمةِ ارتكاب جريمة يُعاقب عليها القانون، تمثلت في دعوة الصحفي المحافظ رود ليدل للتحدث في حفل عشاء عيد الميلاد في أوائل ديسمبر من العام الماضي. إن حشد الطلاب اليساريين المتشددين، الذين قرروا مقاطعة العشاء قبل أن يتمكن “ليدل” حتى من البدء في إلقاء كلمته، يظهر لنا -مرة أخرى- عدم قدرته على التعامل مع وجهات النظر “البديلة”. كونهم غير قادرين على الاستماع، فإنهم يفضلون أن يصنفوا المثقفين الذين لم تُقرأ مقالاتهم وكتبهم أبدًا (ولن يقرأوها أبدًا) على أنهم “مثيرون للاشمئزاز”: “هؤلاء الأطفال لم يجدوا من يعترض على آرائهم أبدًا، أو ينقضها. لقد تطورت نظرتهم للعالم خلال سنوات المدرسة الثانوية في فراغ، وتغاضى معلموهم عن كل مبدأ من مبادئهم، مهما كان سخيفًا. إنهم لا يدركون على الإطلاق فكرة الحجة المعارضة. وهكذا، عندما يلتقون أحدًا، يكون ردهم الهروب وأيديهم على آذانهم، ثم يصرخون من مكان آمن أنهم يتعرضون للأذى”.
ثقافة الإلغاء شكل جديد من أشكال التوافقية، وتنتشر مثل الفطر على شجرة متعفنة، مهاجمة جذور الحس السليم والعقلانية والمنطق والتفكير الخطي والنقدي، ما يسبب في تحلل كل منهم. لقد نصّب دعاة الصحوة أنفسهم، أقوى من أي وقتٍ مضى، “طليعة” للتقدم. كل شيء يقع خارج الجانب اليساري المتشدد من السياسة الغربية مُعرّض لخطر الإدانة كشكل من أشكال التعصب وبالتالي يُقمع: “لأنك لم تعد تستطيع أن تقول رأيك في صحيفة نيويورك تايمز لا يعني أنه يتم إسكاتك. أنت فقط لا تستطيع نشره في صحيفة نيويورك تايمز”، هكذا يوضح التيار الرئيس الليبرالي السابق، واليساري الرجعي حاليًا.
ووفقًا لقاعدة بيانات موقع (canceledpeople.com)، الذي يحوي بياناتٍ شخصيات تعرضت للأذى جراء ثقافة الإلغاء، فإن أكثر من 200 شخصية (معظمهم من الأكاديميين والصحفيين والمثقفين) إما استقالوا أو طردوا مؤخرًا لأن آرائهم تسببت بطريقةٍ أو بأخرى في ارتكاب جرائم. وقد تزايدت الأعداد بشكل كبير منذ عام 2018. وفي عام 2021 وحده، قدم ما يقرب 1,500 من شخص شكاوى إلى “فاير”، مؤسسة الحقوق الفردية في التعليم، لأنهم يعتقدون أن حقوقهم في خطر.
المعتقد الجديد
بدلًا من “السياسة” و”الأيديولوجية”، ينبغي أن نتحدث عن “الدين” و”العقيدة”. أصبحت ثقافةُ الإلغاء حربًا لا تُرحم يخوضها لواء الصحوة. دعاة ثقافة الإلغاء يتمنون أن يخربوا جميع العروض، ويمزقوا الكتب ويهدموا التماثيل التي لا تتماشى تمامًا مع الأخلاق الأكثر حداثة في عصرنا. وفي الولايات المتحدة، أسقط المحتجون ما لا يقل عن 130 نصبًا تذكاريًا أو أجبروا مجالس المدن على إزالتها على مدى العامين الماضيين؛ ووصل هذا العدد إلى أكثر من 500 في جميع أنحاء العالم منذ الاحتجاجات التي اندلعت إثر مقتل جورج فلويد.
هذا نموذج لما بات يعرف باللاتينية “damnatio memoriae” (لعنة الذاكرة)، المستوحاة من ممارسة ناجحة جدًا في العصور الوسطى التي شملت استبعاد الهراطقة من أي سجل تاريخي رسمي. تعكس هذه الجوانب الاستبدادية لمثل هذه العملية بشكلٍ مقلق أحلك الاتجاهات في الطبيعة البشرية، التي شوهدت في تدمير الآثار في الشرق الأوسط على أيدي تنظيم داعش، والجماعات الإسلاموية الأخرى.
وكما هو الحال مع أي شكل آخر من أشكال التطرف الديني، فإن التعصب تجاه المرتدين من طائفة ثقافة الإلغاء هو أسوأ من معاملة غير المؤمنين، الذين يجب نفيهم من الساحة العامة خشية أن ينشروا الهرطقة. لقد استقالت كاثلين ستوك الفيلسوفة والمؤلفة البريطانية من جامعة ساسكس في أكتوبر 2021 في أعقاب حملة طلابية مريعة استمرت عامًا ضدها. لكن بوصفها ناشطة نسوية “ناقدة للنوع الجنساني”، لم تُخف ستوك أبدًا وجهات نظرها حول قضايا المتحولين جنسيًا. ولماذا تخفيها؟ لقد دافعت عن عملها كأكاديمية، لا سيما في كتابها الأخير، «فتيات ماديات: الواقع مهم للحركة النسوية»، وأظهرت إيمانًا قويًا بأهمية الواقع البيولوجي للبشر وعدم قابليته للاختزال. وكان آخر شيء أتيحت لها الفرصة لرؤيته في الحرم الجامعي بينما كانت تسير في الطريق المؤدى إلى القاعة التي كانت تلقي فيها محاضراتها لمدة عشرين عامًا تقريبًا، مجموعة ملصقات مشوهة عليها الشعارات التالية: “كاثلين ستوك مسّاحة جوخ حاقدة”، “كاثلين ستوك تكره المتحولين جنسيًا”، “أقيلوا كاثلين ستوك”. إن تطهير الجامعات من محاضريها المخالفين للتيار السائد ليس جديدًا على التاريخ الحديث، وعلى هذا النحو، ينبغي أن يخيف الجميع، خاصة الليبراليين.
التاريخ والفن كساحات معارك
وفقًا للمتعصبين اليساريين المتشددين، إما أن نركع لعقائدهم -حرفيًا في بعض الأحيان، كما يطالب دعاة حملات “حياة السود مهمة”- أو يتم طردنا من كنائسهم. المشكلة هي أن تعريفهم للكنائس آخذ في التوسع ليشمل جميع الأماكن العامة. وحماسهم لفرض الرقابة ليس أقل سلطوية لأنه يتخفى وراء ستار النشاط في مجال العدالة الاجتماعية.
عندما شرعت الثورة الفرنسية في إعادة كتابة التاريخ في “عصر الإرهاب”، اعتمدت على الخرافات. خلفاؤهم في الصحوة ليسوا أقل حماسًا ولا أقل توهمًا وتدميرًا. وفي كلتا الحالتين، أصدرت أقلية صغيرة تصادف أنها تسيطر على مقاليد السلطة مرسومًا بشأن ما يجب أن تكون عليه في “الجانب الصحيح” من التاريخ. في محاضرته بعنوان “عندما يصبح التاريخ دعاية”، يقول المؤرخ والمؤلف البريطاني ديفيد ستاركي، “أخشى أن نحصل على تاريخ سيئ”. وأود أن أضيف أنه عندما يصبح التاريخ دعاية، سنحصل على “خيال” سيئ أيضًا.
ففي المسرح والسينما، على سبيل المثال، هناك خط دقيق يفصل بين الخيال والواقع بحكم تعريفهما. هذه ليست مشكلة في حد ذاتها، بطبيعة الحال. تحدث المشكلة عندما يتم الخلط بين الأفلام أو استخدامها صراحة كأسلحة سياسية لتعزيز أهداف سياسية متطرفة. الفن مرة أخرى يتحول إلى دعاية، تذكير آخر مثير للقلق بالأوقات المظلمة في الماضي غير البعيد.
يعتبر فيلم “الفتاة الدنماركية” (The Danish Girl)، من إخراج توم هوبر، الصادر في عام 2015، الذي حظي بإشادة في جميع أنحاء العالم، مثالًا نموذجيًا على كيف أن خلط الفن بالدعاية يمكن أن يغيّر عرض/ تجسيد الحقائق التاريخية. يروي الفيلم، المأخوذ بشكل فضفاض عن رواية صدرت عام 2000 التي تحمل الاسم نفسه لديفيد إبرشوف، قصة الرسامة الدنماركية ليلي إلب، بدءًا من فرضية أنها كانت أول شخص متحول جنسيًا يخضع لجراحة تغيير الجنس في منتصف العشرينيات من القرن العشرين في كوبنهاجن. هذه أخبار مزيفة. في الواقع، كانت إلب خُنثى، حيث كان لديها مبيضان وخصيتان، وخضعت لعملية لإزالة الخصيتين. هذا لا علاقة له بالمتحولين جنسيًا، لا علاقة له باضطراب الهوية الجنسية، لا علاقة له بالضمائر (هو/ هي).
لكن القصة الرائعة والمؤثرة لواحدة من أولى الفنانين المخنثين الذين نمتلك سجلًا لهم قد محيت من الثقافة الشعبية وضُحي بها على مذبح أيديولوجية التحول الجنسي. الاعتذار الذي ينطوي على نفاق الذي قدمه الفنان الإنجليزي أيدي ريدماين الذي لعب دور ليلي إلب في حين أنه ليس مخنثًا نفسه، في نوفمبر 2021 -بعد قرابة سبع سنوات من صدور الفيلم- كان أحد أكثر الأشياء السخيفة التي حدثت في العام الماضي.
في نهاية الثورة الفرنسية، وصف جان بول مارات تلك الكارثة برمتها بأنها ليست سوى “مجموعة متشابكة من المشاهد الهزلية”، أعتقد أنه لا يمكن أن يكون هناك وصف أكثر بلاغة من هذا لمحاولات دُعاة الصحوة الحالية لإحداث ثورة في اللغة، والتاريخ، والحس السليم، والمنطق.
* محلل سياسي مستقل، حاصل على دكتوراه في الفلسفة من جامعة كارديف. مهتم بالدراسات التنظيرية حول حقوق الإنسان وحرية التعبير والعلمانية.