في أوائل مارس، أرسل “التحالف الدولي ضد الإسلاموفوبيا” رسالة إلى رئيسة المفوضية الأوروبية؛ أورسولا فون دير لاين، منددًا بـ”القوانين الفرنسية المعادية للإسلام”. تقدِّم هذه الوثيقة المُغرضة نفسها على أنها “دعوة عاجلة” لحماية المسلمين، الذين يُزعم أنهم مهددون من رد فعل مفرط وقمعي من الدولة الفرنسية في أعقاب مقتل المدرس صامويل باتي على يد جهادي اتهمه بالتجديف. المجموعات الخمس والعشرين التي وقعت على الرسالة تصف نفسها بأنها “منظمات وأفراد.. يتألفون من مواطنين فرنسيين مسلمين أو يمثلونهم”؛ هذا غير صحيح من جميع النواحي. الموقعون هم متطرفون إسلامويون، كثير منهم مرتبطون بجماعة “الإخوان المسلمون”، والغالبية العظمى منهم ليسوا فرنسيين.
الرسالة
طوال الرسالة التي تتألف من 22 صفحة، وتحتوي على قرابة 5,000 كلمة، لم يرد اسم صامويل باتي سوى أربع مرات فقط، وفي جميع المناسبات كأداة في محاولة المؤلفين لصرف الانتباه عما حدث لباتي، وانتقاد رد فعل الدولة الفرنسية عليه. وهكذا، فإن الادّعاء هو أن “الحكومة الفرنسية استغلت قتل صامويل باتي لمصلحة أجندتها العنصرية والتمييزية والكارهة للإسلام… [من أجل] السيطرة السياسية والأيديولوجية والدينية والمالية غير المبررة على المجتمعات المسلمة”.
ولم تشر الرسالة إلى عبد الله أنزوروف، الإسلاموي الشيشاني الذي قطع رأس باتي في الشارع، ولا إلى أن جريمة أنزوروف كانت مدفوعة باعتقاده الأيديولوجي بأن باتي انتهك القوانين الإسلامية. أقرب شيء تتطرق إليه الرسالة فيما يتعلق بهذه الجريمة هي عندما تشجب المداهمات التي شنتها سلطات مكافحة الإرهاب، منذ حادثة القتل، ضد من تآمروا مع أنزوروف وساعدوه: بدلًا من الحديث عن تدابير القانون والنظام المعقولة، يقول كاتبو الرسالة إن هذه هي “الرسالة التي تبعثها” الدولة الفرنسية.
بالنظر إلى أن مدى براعة الرسالة في وصف الأمور الحساسة لدرجة الإشارة إلى “الأطفال المصدومين” من مشاهدة الأشخاص الذين اعتقلوا في هذه المداهمات، فمن المستغرب أنه لا توجد حتى إدانة شكلية لقتل باتي في أي مكان في الرسالة. وبدلًا من ذلك، تزعم الرسالة أنه “لا يوجد حل حقيقي أو فعّال في النظام القانوني الفرنسي لوقف استمرار الحكومة الفرنسية في الكراهية الهيكلية والممنهجة للإسلام”، وتدعو إلى تدخل فوق وطني من الاتحاد الأوروبي لدعم حقوق الإنسان للمسلمين في فرنسا. ويبدو أن استراتيجية الحرب القانونية هذه تشمل قيام هذا “الائتلاف” بتقديم شكوى إلى مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة في شهر يناير.
وتعرض الرسالة ادّعاءات فضفاضة عن “الكراهية والسلبية الرسمية تجاه الإسلام” في فرنسا التي “ازدادت إلى درجة مخيفة وغير مقبولة”. ولكن عندما تقدم الرسالة أدلة على ذلك، يتضح أن الشكوى هي أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعتزم إنفاذ القوانين في بلاده، بما في ذلك العلمانية الدستورية (laïcité)، التي تشمل موافقة الدولة على رجال الدين، وحظر التعليم المنزلي.
كما أن الموقعين على الرسالة غاضبون أيضًا -ولا عجب في ذلك بالنظر إلى طبيعتهم- من مساهمة سكان فرنسا المسلمين في برامج مكافحة التطرف، لا سيما من التدابير الصارمة التي أغلقت قرابة خمسين “جمعية خيرية” كانت توجه الأموال لدعم نشر التطرف، إن لم يكن الإرهاب الصريح.
وتزعم الرسالة أن ماكرون انخرط في “سياسات عدائية وغير متناسبة”، مثل “حملات قمع للمعارضين”، و”انتهك المواثيق الدولية المتعلقة بحرية الدين” من خلال محاولة إعداد “ميثاق القيم الجمهورية” مع المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، (هيئة يمكنها في الواقع القول إنها تمثل المسلمين الفرنسيين) وتوجه الرسالة اتهامات بأن الميثاق “تمييزي بطبيعته”، ويعتبر وثيقة إلزامية “عدوانية” على المسلمين، لا صلة له بمكافحة التطرف. ولا توجد حتى محاولة لتقديم أدلة على أن الأمر كذلك.
يمكن القول إن النوايا الحقيقية للرسالة -والالتزامات الأيديولوجية لمن كتبوها- تتضح في ثلاثٍ من التهم المحددة الموجهة إلى فرنسا.
أولًا، تدعم الرسالة مباشرة فرض قانون إسلامي للتجديف في فرنسا من النوع الذي اعتقد أنزوروف أنه كان يفرضه عندما طعن باتي حتى الموت. وتقول الرسالة إن “الرسوم الكاريكاتورية التي تشوه سمعة النبي (صلى الله عليه وسلم) تنتهك قانون الأمم المتحدة”، وأن “إهانة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) لا تندرج تحت الحق في حرية التعبير”، وهي ادعاءات مطعون فيها من الناحية الواقعية بقدر ما هي مقيتة أخلاقيًا.
ثانيًا، تعلن الرسالة أن حملة ماكرون ضد الإسلام السياسي تمثل “إشكالية”، وأنها في الواقع “محاولة واضحة لإبعاد المسلمين عن المجتمع المدني والحياة العامة في فرنسا”. والحقيقة هي أن هذا المصطلح مفهوم جيدًا -كما يوضح المؤلفون أنفسهم جزئيًا عندما يبدون قلقًا من أنه سيضم مجموعة مثل جماعة التبليغ- ويعارض المؤلفون ببساطة محاولة الحكومة الفرنسية الحد من انتشار هذه العقيدة المتطرفة.
ثالثًا وأخيرًا، تهاجم الرسالة فرنسا لمحاولتها جعل مسلميها يدينون بولائهم الأساسي للدولة التي منحتهم المأوى، في مقابل الأمة الإسلامية العالمية كما يتصورها الإسلامويون. وهذا التصور يُصاغ بعباراتٍ “ليبرالية” من قبيل حرية التعبير وكانتقاد لمحاولة فرنسا الحد من “المخاوف الطبيعية للمسلمين الذين يعيشون في عالم معولم في بقية أوروبا والعالم”.
وتختتم الرسالة بتهديداتٍ ماكرة، قائلة إن الإجراءات التي تتخذها باريس سيكون “لها نتائج سلبية للغاية على الأهداف المعلنة التي تهدف إلى الحد من “التطرف”، و”إذا استمر هذا التمييز، فسيكون له نتائج عكسية على فرنسا على المدى الطويل”.
الموقعون
الجدير بالذكر أن الرسالة قدِّمت إلى الاتحاد الأوروبي من قبل مكتب محاماة مقره روتردام، “خدمات صابر القانونية” (SLS)، مكتب لديه تاريخ في مناصرة قضايا الإسلامويين. ولم يكن مستغربًا أن المنفذ الوحيد الذي أتيح للمتحدث باسم المكتب هو وكالة أنباء الأناضول، وسيلة الإعلام الرسمية للحكومة الإسلاموية في تركيا، التي دخلت في خلاف جيوسياسي مع فرنسا، لا سيما حول القضايا التي تنطوي عليها هذه الرسالة- قتل باتي، وكراهية الإسلام، والتأثير الأجنبي على المساجد الفرنسية.
وقالت السيدة صابر لـوكالة أنباء الأناضول: “إن كراهية الإسلام ليست ظاهرة واسعة الانتشار وخطيرة في الأوساط اليمينية فحسب، بل هي أيضًا متأصلة في التيار الرئيس للمجتمعات الأوروبية”. ولا شك أن هذا يتماشى مع استراتيجية الحكومة التركية برئاسة رجب طيب أردوغان لاستخدام “الإسلاموفوبيا” كأداة ضغط على الحكومات الغربية.
لقد اتخذ أردوغان من المبالغة في مدى كراهية الإسلام في أوروبا محورًا أساسيًا لدعايته السياسية، على سبيل المثال من خلال مراكز أبحاث مثل “سيتا” (SETA) الموالية لحكومته التي تقدم منشورات تصب في صميم هذه الرواية. والغرض من ذلك هو جعل المسلمين يشعرون بأنهم تحت التهديد، وتقديم تركيا أردوغان على أنها حاميتهم. إنها استراتيجية حققت بعض النجاح، ليس أقلها أن الكثيرين في الغرب قد أدخلوا أنفسهم في حالة من الذعر الأخلاقي حول حجم حركات تفوق البيض وقوتها.
وفيما يتعلق بالجماعات الفردية من الموقعين على الرسالة، فإن إحدى الجهات الكاشفة للطبيعة الأيديولوجية لها، هي منظمة “كيج” (CAGE) من المملكة المتحدة. تقدم منظمة كيج نفسها كمنظمة حقوق مدنية معنية بمصير الجهاديين في خليج جوانتانامو. في الواقع، كيج منظمة مناصرة للإرهاب، وهو شيء مختلف تمامًا، وهذا كان واضحًا قبل وقتٍ طويل من الحدث الذي جعل “كيج” سيئة السمعة في المملكة المتحدة.
في فبراير 2015، عقدت كيج مؤتمرًا صحفيًا، بقيادة عاصم قرشي، مدير الأبحاث في المنظمة. وكانت كيج قد تعرضت لضغوط بسبب الكشف عن صلاتها بمحمد إموازي، الذي أطلقت عليه الصحف الشعبية البريطانية اسم “الجهادي جون”، الرجل الذي قطع رؤوس العديد من الرهائن الغربيين في مقاطع فيديو مروّعة لتنظيم “داعش”. وكانت هذه محاولة من كيج للرد على، أو على الأقل للحد من الأضرار التي لحقت بسمعتها، بعد الكشف عن نمطها المقلق من الاتصالات مع الإرهابيين. لقد كان المؤتمر كارثيًا. أعلن قرشي أن إموازي كان “شابًا جميلاً”، وألقى باللوم فيما يتعلق بكل سلوكيات إموازي اللاحقة على “المضايقات” التي قامت بها أجهزة الأمن البريطانية التي جعلته يشعر بأنه “غريب”، ما يشكل عكسًا للحقيقة، وهي أن إموازي لفت انتباه أجهزة الأمن بعد رحلة إلى الصومال للانضمام إلى فرع القاعدة هناك.
الموقعون البريطانيون الآخرون على الرسالة تحوم حولهم الشكوك أيضًا. ذلك أن منظمة “المشاركة الإسلامية والتنمية” (MEND) منظمة إسلاموية سيئة السمعة تتنكر كمنظمة للحقوق المدنية، وينسحب الأمر نفسه على “مجلس الشؤون العامة للمسلمين” (MPAC).
من ناحيةٍ أخرى، يقود إحدى الجهات الأمريكية الموقعة على الرسالة، “معهد يقين”، الدكتور عمر سليمان، الذي يكرّس حياته المهنية لضمان عدم تحدي أي شخص للأيديولوجية الكامنة وراء النزعة الجهادية، إضافة إلى نشر مقالات خطيرة تمجد الخلافة.
أما الموقع الأمريكي الآخر، “مركز دراسات الإسلاموفوبيا”، فيديره حاتم بازيان، رئيس مجلس إدارة منظمة “المسلمون الأمريكيون من أجل فلسطين”، وهي متجذرة بعمق في شبكات الإخوان، وحركة حماس في الولايات المتحدة.
علاوة على ذلك، فإن الجهة الموقعة من بلجيكا، “الشبكة الأوروبية للدين والمعتقد”، تُعتبر واجهة للإخوان المسلمين في تلك الدولة. والقائمة تطول.
الخلاصة
لا شك أن تحليل التكلفة والعائد، بحسن نيّة، ومناقشته، أمر جوهري عندما يتعلق الأمر بالتصدي للإرهاب والأيديولوجيات التي تحرِّكه. إن رسالة مارس 2021 الموجهة من “التحالف الدولي ضد الإسلاموفوبيا” إلى الاتحاد الأوروبي ليست كذلك؛ بل محاولة من متطرفين إسلامويين لإضعاف دفاعات المجتمعات التي تعاني بالفعل من ضغوط كبيرة من هذه الحركة.