في أغسطس، سقطت أفغانستان أمام تحالفٍ من الجهاديين تحت إشراف مؤسسة الاستخبارات العسكرية الباكستانية. وقد أعلن هذا التحالف عن “حكومة” لإمارة إسلامية في أفغانستان؛ تضم طالبان، والقاعدة، وشبكة حقاني، بعض أكثر الجماعات الإرهابية فتكًا في العقود الأخيرة. والسؤال المطروح الآن هو: ما الذي يمكن أن تفعله الحكومات الغربية والإقليمية حيال انتشار التطرف الإسلاموي والخطر الإرهابي.
ضرب المتطرفين بالمتطرفين؟
تتمثل إحدى الإجابات في إمكانية العمل مع هذه الإمارة الإسلامية لقمع خطرٍ أسوأ على ما يبدو، وهو فرع تنظيم داعش في جنوب آسيا، الذي يعرف باسم ولاية خراسان. وهذا هو الخيار الذي تؤيده الولايات المتحدة صراحة إلى حدٍّ ما. وبعد أن وقعت الولايات المتحدة على اتفاق انسحاب تم تسويقه كاتفاق سلامٍ في فبراير 2020 بينما كانت قطر تستضيف حركة طالبان، عمدتِ الولايات المتحدة للاقتباس من “اتفاق الدوحة” مشيرة إلى أنه يفرض على طالبان “التزامات بشأن مكافحة الإرهاب“. لا شك أن هناك صبغة سريالية لهذا الموقف.
صحيح من الناحية الفنية أن طالبان لم تُضَفْ قط إلى قائمة المنظمات الإرهابية الأجنبية الأمريكية. لكن من الثابت أيضًا أن طالبان لا تزال ملتزمة -بالعهد، والأيديولوجية، وهيكل القيادة، والعلاقات الأسرية- الخاص بتنظيمي القاعدة وشبكة حقاني، وكلاهما منظمات إرهابية أجنبية. وحتى من دون هذا الاندماج العلني الواضح لطالبان مع الجماعات المدرجة على القائمة السوداء، سيتعين على أي مراقب موضوعي أن يعتبر طالبان منظمة إرهابية؛ لأنها شقت طريقها بوحشيةٍ، واتخذت من هذه الوحشية سبيلًا للعودة إلى السلطة، من خلال الاستخدام الممنهج للعنف ضد المدنيين، بما في ذلك التفجيرات الانتحارية.
الجدير بالذكر أن الرسائل الصادرة من إدارة الرئيس جو بايدن تواصل الإشارة إلى طالبان على أنها “عدوٌّ لدودٌ” لولاية خراسان. وبقدرِ ما أن هذه العبارة دقيقة، فإنها ليست ذات صلة من ناحيتين. أولًا، لم تعطِ طالبان الأولويةَ لمواجهة ولاية خراسان. وفي هذا الصدد، قال الجنرال كينيث “فرانك” ماكنزي، قائد القيادة المركزية الأمريكية، لإذاعة “صوت أمريكا” الأسبوع الماضي، “لا أعرف أن [طالبان] تفعل أي شيء على الإطلاق من أجلنا في الوقت الحالي”، فيما يتعلق الأمر بمكافحة الإرهاب.
ثانيًا، حتى لو كان لدى حركة طالبان الإرادة، فإنها لا تملك القدرة. والتفسير الأكثر تلطفًا لمذبحة ولاية خراسان التي راح ضحيتها نحو 200 شخص في مطار كابول في 26 أغسطس، عندما اخترق انتحاري من التنظيم الطوق الأمني لطالبان، هو أن طالبان لم تتمكن من وقفه. وفي الأيام القليلة الماضية فقط، شنَّت ولاية خراسان أكثر من اثني عشر هجومًا في أفغانستان باستخدام شبكات راسخة ومعروفة، حيث كان التفسير الأكثر تلطفًا مرة أخرى هو أن طالبان لا تستطيع أن تفعل أي شيء حيالها.
العودة للواقع
في مقالٍ نشر مؤخرًا في مجلة فورين بوليسي، أوضح لورنزو فيدينو؛ مدير برنامج التطرف في جامعة جورج واشنطن ومؤلف كتاب «الدائرة المغلقة: الانضمام إلى جماعة الإخوان المسلمين في الغرب وتركها»، الذي قدم موقع عين أوروبية على التطرف عرضًا له، حماقة “تقسيم الحركة الجهادية إلى “معتدلين” (هيئة تحرير الشام، وطالبان، وحتى تنظيم القاعدة) [الذين] يمكن لواشنطن [وحلفائها] التعامل معهم، والمتطرفين (تنظيم داعش) العدو الحقيقي الوحيد”.
ويشير فيدينو إلى أن الهمجية الوقحة لتنظيم داعش دفعت إلى تشكيل تحالفٍ عالمي لشنِّ حرب ضده، في حين وسّع فرع تنظيم القاعدة في سوريا، الذي كان آنذاك جبهة النصرة، والآن “هيئة تحرير الشام”، قبضته على الأراضي، ولم يتعرّض إلا “لبعض الضربات المستهدفة”. “الدرس كان واضحًا”، حسبما يقول فيدينو: “ابتعدوا عن الأنظار، لا تقطعوا رؤوس الغربيين، لا تخططوا لهجمات في الغرب، وواشنطن ستدعكم وشأنكم.. وقد تأكَّد الدرس السوري مؤخرًا في أفغانستان”. واتخذت جماعات القاعدة في غرب إفريقيا موقفًا مماثلًا، حيث تقاتل ضد القوات الفرنسية التي تدعم الحكومات الإقليمية، لكنها تتخلى صراحة عن خططها لمهاجمة الأراضي الفرنسية.
وكما يوضح فيدينو، فإن العرض المقدم من الجهاديين في “المجتمع الموالي للقاعدة” يستغل حالة “الإرهاق من الحرب” المعلن عنها من قبل الغرب:
“دعونا لشأننا، وسنترككم وشأنكم. نحن نعلم أنكم تريدون الخروج من المنطقة، ولم تعودوا مهتمين بإزهاق أرواحكم وأموالكم للدفاع عن أماكن بعيدة ذات قيمة استراتيجية ضئيلة لك. اسمحوا لنا أن نحكمهم، ولن نزعجكم. بل على العكس من ذلك، سنساعدكم في الواقع على تحييد المجموعة الوحيدة التي تهددكم، أي داعش، الذي هو أيضًا عدونا اللدود. نعم، سنشجبكم في دعايتنا لدعمكم لإسرائيل والأنظمة الأخرى في المنطقة أو لإساءتكم للنبي محمد. لكننا أصبحنا فاعلين سياسيين براجماتيين ومستعدين للتوصل إلى اتفاق معكم يسمح لكم بالخروج من أجزاء كبيرة من المنطقة دون أي تداعيات سلبية”.
علاوة على ما سبق، فهناك أسباب تدعو إلى الشك في أن حالة “الإنهاك من الحرب” التي تعتري الدول الغربية ظاهرة حقيقية، وهي بالتأكيد ليست ظاهرة عضوية. سامانثا باور، المديرة الحالية لوكالة التنمية الدولية الأمريكية، التي وصفت في كتابها الكلاسيكي، الذي صدر عام 2002 عن رد فعل الدول تجاه الإبادة الجماعية، «مشكلة من الجحيم: أمريكا وعصر الإبادة الجماعية»، ما أسمتها العلاقة “العقيمة” أو الحلقة المفرغة بين القادة الديمقراطيين والرأي العام الذي يزعمون أنهم محاصرون به: “نادرًا ما تحرّك الأزمات الخارجية الدوائر [الانتخابية].. في ظلِّ غياب القيادة السياسية، ومع ذلك، يشير المسؤولون [الحكوميون] باستمرار إلى غياب الدعم الرأي العام كذريعة للتقاعس”.
وعلى الرغم من ذلك، فإن معظم القادة السياسيين الغربيين غير مستعدين الآن لإقناع جمهورهم بقضية الحاجة إلى عمليات نشر في الخارج، وقد اغتنم تنظيم القاعدة الفرصة. ويشير فيدينو إلى أن “شروط الاتفاق لا يُعبر عنها بكلمات واضحة، نظرًا لأن ذلك سيعطي ذخيرة لدعاة تنظيم داعش، الذين يصورون بالفعل القاعدة وطالبان على أنهم متعاونون مع الولايات المتحدة ودمى في يديها، وتخلوا عن المسار الحقيقي للجهاد”.
من وجهة النظر الغربية، يتم تبرير “تكليف “الجهاديين المعتدلين” بالحكم في المناطق التي تبدو غير قابلة للحكم من قبل أي قوة أخرى على أنه “شكل من أشكال السياسة الواقعية”، كما يشير فيدينو: هذا الأمر يُسوّق على أنه بديل أرخص كلفة، و”يصاحب ذلك برواية تُصوّر “الجهاديين المعتدلين” على أنهم تعبير أصيل عن السكان المحليين”، ولا مانع من توجيه “إدانات عرضية لهم بارتكاب انتهاكات ضد حقوق الإنسان أو حتى فرض بعض العقوبات عديمة الفعالية”. لكن هذه “الصفقة مع الشيطان” أقل “معقولية” بكثير مما يصورها مؤيديها، حسبما يرى فيدينو.
ويوضح فيدينو أن هذه الصفقة “لن تعني نهاية الإرهاب في الغرب”: إن نجاح الجهاديين مثل طالبان يمكن أن يلهم بسهولة الذئاب المنفردة؛ كما أن مثل هذه الحوافز تدفع تنظيم داعش في الواقع إلى الانخراط في المزيد من الإرهاب في الغرب، وإحراج تحالف القاعدة وإزاحته؛ و”الأهم من ذلك”، أن نموذج المعتدلين مقابل المتطرفين معيبٌ بشكلٍ قاتل.
إذا كان هناك ثمة تمييز بين الجهاديين، كما يقول فيدينو، “فإن التصنيف الأكثر ملاءمة هو بين الجهادية التَدرُّجيّة والجهادية العجولة”. ويؤكد فيدينو: “الجهادية التَدرُّجيّة ليست أكثر اعتدالًا، بل هي ببساطة أكثر ذكاء من الناحية التكتيكية، حيث تتكيف على المدى القصير لتكون في وضع أفضل لتحقيق الأهداف الأساسية لجميع الجهاديين: زعزعة استقرار المنطقة الأكبر ومهاجمة الغرب”.
وختامًا، يخلص فيدينو، وهنا يظهر كعب أخيل الغرب بجلاء، إلى أن “الفرق بين الاثنين ليس كبيرًا في الأهداف النهائية ولكن في الإطار الزمني”. لذا، فإن التعامل مع التشدد الإسلامي يتطلب من “صناع السياسات الغربيين أن يفكروا فيما وراء الإطار الزمني للدورات الإخبارية والحملات الانتخابية الدائمة على مدار 24 ساعة إلى سنواتٍ وعقود، كما يفعل الجهاديون”. ومن أسف أنه لا يوجد، في الوقت الحاضر، دليل يُذكر على أنه يمكن القيام بذلك.