يبدو المشهد في أفغانستان شديد التعقيد، فقد أعلنت الولايات المتحدة بوضوح أنها ستنسحب من أفغانستان بحلول أوائل شهر سبتمبر، وفقًا لشروط الاتفاق الذي أبرمته واشنطن مع حركة طالبان في عهد الرئيس دونالد ترامب في فبراير 2020. من جانب آخر، فإنه خلال الأشهر الستة عشر الماضية وحتى الآن، حققت حركة طالبان وحلفاؤها في تنظيم القاعدة مكاسب متزايدة في جميع أنحاء الدولة، بما في ذلك تقدم سريع ومثير للقلق نحو عواصم المقاطعات وكابول نفسها في الأسابيع القليلة الماضية، وفي خضم ذلك كله يزداد تنظيم “داعش” قوة. يُضاف إلى ذلك تدخل دول أجنبية متعددة في الصراع. ورغم أن هناك جهودًا لمحاولة وقف الانحدار إلى الفوضى وتدهور الأوضاع بصورة أسوأ، فإن إمكانية تحقق ذلك في هذه المرحلة المتأخرة تبدو بعيدة المنال، أخذًا في الاعتبار ضيق الوقت المتبقي قبل مغادرة الولايات المتحدة وحلف الناتو.
الجدير بالذكر أن طالبان توغلت في عاصمتي مقاطعتين، هما قندوز وميمانا، في 20 يونيو، وعلى الرغم من أن الجهاديين سرعان ما انسحبوا وتفرقوا بين السكان، فإنهم احتلوا اثنتي عشرة منطقة في غضون الساعات الأربع والعشرين نفسها، إضافة إلى المناطق الخمسين التي تم الاستيلاء عليها في الأسابيع الستة السابقة. وتتفاوض وحدات كاملة من الجيش الأفغاني من أجل تسليم قواعدها وأسلحتها، والاختيار بين العودة إلى ديارها، بعد أن وعدت طالبان بعدم العودة إلى القتال لإنقاذ الجمهورية، أو الانشقاق والانضمام إلى صفوف الجهاديين. وفي أحدث التطورات، استولت حركة طالبان على الحدود مع طاجيكستان.
أدّت هذه التطورات الأخيرة إلى إجراء تعديل وزاري في الحكومة الأفغانية في الوقت الذي ينتاب فيه الذعر الحكومة في كابول. وهذا الذعر ليس من دون مبرر، فرغم أن فقدان الدولة السيطرة في الجنوب يحدث منذ بعض الوقت، فإن الانهيار الأخير لسلطة الحكومة يحدث في شمال الدولة، الذي لا يُعتبر تاريخيًا معقل طالبان. وبالنسبة للجهاديين الذين يحققون نجاحات بهذه الخطورة في تلك المناطق، فإنه يشير إلى وجود حلقة متسلسلة من ردود الفعل التي من شأنها أن تقود إلى تفكك الحكومة الأفغانية، عاجلًا وليس آجلًا.
على الرغم من الحملة الدعائية المستمرة منذ سنوات عدة، من جانب كابول والقوى التابعة لحلف الناتو، التي تقلل من شأن التهديد الذي تُشكِّله ولاية خراسان التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية، إن لم يكن السخرية منه، فإن التنظيم لم يُدمّر. بل على العكس من ذلك، كان اختفاء ولاية خراسان بعيدًا عن الأنظار قرارًا استراتيجيًا اتخذته الجماعة نفسها، بالتزامن مع قرار تنظيم داعش “المركزي” في سوريا والعراق، بتجنب التشبث بالأراضي، والعمل على الذوبان وسط السكان في المناطق المحلية، وانتظار اللحظة المناسبة للانقضاض مرة أخرى، كما فعل في العراق بعد انسحاب القوات الأمريكية من هناك.
وهناك البُعد الدولي أيضًا. فرغم أن الولايات المتحدة الأمريكية تنسحب، فإنها جزء من “الترويكا الموسعة” مع روسيا والصين (بالإضافة إلى باكستان، ومن الناحية النظرية إيران)، التي يُفترض أنها تطمح إلى لعب دور في الحفاظ على الاستقرار والأمن، وفي الإرهاب، بطبيعة الحال، وأيضًا في قضايا أخرى مثل الاتجار بالمخدرات. وفي حين أن الإرادة الفعلية للولايات المتحدة في البقاء منخرطة هي موضع شك كبير، فإن روسيا والصين وإيران يناورون بالتأكيد من أجل خلق واقع جديد على الأرض. وهناك كذلك طرف لا يمكن التنبؤ بما سيفعله، وهو تركيا التي لا تتمتع بنفوذ أوسع من اللاعبين الآخرين، ومع ذلك تطمح إلى السيطرة على أجزاء رئيسة من البنية التحتية الحيوية بعد رحيل حلف الناتو.
ويبقى أن نرى كيف ستتصرف هذه الدول- تعاونًا أو منافسة مع بعضها البعض، وقبل كل شيء ضد الغرب- ولكن من المرجح جدًا أن تحدد هي أكثر من الولايات المتحدة نتيجة ما بعد الانسحاب في أفغانستان، حتى لو التزمت الولايات المتحدة بوعودها بالمشاركة الدبلوماسية والتبرعات المالية للحكومة الأفغانية.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن المملكة العربية السعودية هي واحدة من بين الدول الخارجية التي تبذل مساهمة بناءّة. وفي هذا الصدد، اختتم المؤتمر الإسلامي حول إعلان السلام في أفغانستان جدول أعماله في 10 يونيو الماضي في مكة المكرمة، بعد أن دعت إليه رابطة العالم الإسلامي تحت رعاية الحكومة السعودية. وقد ناقش المؤتمر، الذي جمع مسؤولين بارزين من أفغانستان وباكستان، بالإضافة إلى عشرين من كبار علماء الإسلام من كلا البلدين، خلال خمس جلسات قضايا السلام والتسامح والمصالحة في أفغانستان، وخلص إلى أنه لا يوجد مبرر لمواصلة الحرب.
وفي هذا الإطار، لخص الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد بن عبدالكريم العيسى الهدف من المؤتمر خلال مراسم التوقيع على البيان الختامي، قائلًا إنه إيجاد تسوية سياسية في أفغانستان تجمع بين مختلف الأطراف المتحاربة، وتنحي جانبًا خلافاتها العرقية والإقليمية والاجتماعية والاقتصادية.
اللافت للنظر أن الإعلان الختامي للمؤتمر ضم قسمًا مهمًا، أدان التفجيرات الانتحارية باعتبارها انتهاكًا لمبادئ الإسلام. وهذا أمر مهم للغاية؛ لأن بعض العلماء ذوي النفوذ الكبير، وأبرزهم رجل الدين الإخواني يوسف القرضاوي، المقيم في قطر، روجوا لفكرة أن الإسلام يجيز الهجمات الانتحارية، وقد انتشرت هذه الفكرة على نطاق واسع، مع ما يترتب عليها من عواقب كارثية على جميع أنحاء العالم، على الرغم من أن الهجمات الانتحارية تستهدف المسلمين أكثر من غيرهم. ويتعين على أكبر عدد ممكن من رموز السلطة، الدينية والسياسية، التصدي لهذه المفاهيم المتطرفة لدفعها إلى الهامش.
إن مساهمة رابطة العالم الإسلامي في الحرب الإيديولوجية ضد التطرف أمر مُرحّب به، ويمكن أن يسهم بصورة إيجابية إلى جوار باقي الآليات التي تعمل على وقف انحدار أفغانستان إلى دوامة الفوضى.
أفغانستان، التي كانت في حالة حرب شبه مستمرة منذ الانقلاب الشيوعي في عام 1978 والغزو السوفييتي بعد ذلك بعام، تنهار الآن بسرعة كبيرة مع مغادرة قوات حلف الناتو، ومع تقدم جهاديين من جميع المشارب ضد الحكومة الأفغانية. كان من المفترض أن يحقق الاتفاق بين الولايات المتحدة وطالبان السلام، لكنه أخطأ التقدير: ففي حين توقفت الولايات المتحدة/حلف الناتو وحركة طالبان عن العمليات الهجومية ضد بعضهما البعض، فإن هذا خفف ببساطة من الضغط على طالبان وسمح لهما بتركيز قوتهما الهجومية الكاملة ضد الحكومة الأفغانية. لقد كانت الولايات المتحدة مصممة على الانسحاب، ورفضت التدخل لمنع هذه التوغلات من قبل طالبان.
وختامًا، تُعد المبادرة السعودية فكرة صائبة وخطوة نحو إيجاد تحركات تسعى إلى التوفيق بين الفاعلين في المشهد المجزأ في أفغانستان حتى تتمكن الدولة والمجتمع من إيجاد مركز تلتف حوله. لكن في مقابل مثل هذه الجهود السلمية لا تزال المؤشرات على الأرض تشير إلى أن الديناميات تطورت إلى نقطة تبدو فيها الحكومة الحالية أقرب إلى الزوال منها إلى الثبات في وجه تغول جهادي آخر.