أجمل سهيل*
عندما غادر البريطانيون شبه القارة الهندية في عام 1947، أُنشئت دولتان جديدتان؛ هما الهند وباكستان. رسميًا، كانت الهند غير منحازة، وإن كانت في الواقع تميل إلى الاتحاد السوفييتي. أما باكستان، فقد كان يُنظر إليها على أنها أكثر ميلًا للغرب، وتحتفظ بروابط وثيقة مع بريطانيا -حتى عام 1959، كان رئيس الاستخبارات الباكستانية هو الجنرال البريطاني روبرت كاوثوم- وكانت تسعى إلى تطوير علاقاتٍ أوثق مع الولايات المتحدة في بداية الحرب الباردة، خاصة بعد أن نجح الاتحاد السوفيتي في اختبار سلاح نووي في أغسطس 1949.
كانت المشكلات حاضرة بين باكستان والهند منذ البداية. فعلى الرغم من الدعم السياسي والعسكري والمالي الذي تلقته باكستان من الغرب، أعطت الدولة الباكستانية الأولوية لصراعها الأيديولوجي مع الهند، وما يرتبط بذلك من مطالباتٍ بعملية مراجعة تاريخية إقليمية بشأن كشمير، باستخدام الموارد الغربية التي قُدِّمت لها لهذا الغرض، بدلًا من احتواء الشيوعية. وكان الإرهاب الأداة الرئيسة لباكستان في السعي لتحقيق هذه الأهداف منذ الأيام الأولى بعد الاستقلال، وبعد غزو السوفييت لأفغانستان في عام 1979، سعى الباكستانيون لجرِّ الولايات المتحدة إلى دعم عملياتها في تلك الدولة باستخدام المتشددين الإسلامويين. وفي هذه البيئة نشأت حركة الجهاد العالمي.
لقد تلقى قسم كبير من المجاهدين الذين تسيطر عليهم الاستخبارات الباكستانية – المدعومة من الغرب بغية مقاومة الاحتلال السوفيتي لأفغانستان – أفكارهم المتطرفة في “دار العلوم الحقانية” في باكستان. وكانت الدار مركزا مهما للحركة الجهادية العابرة للحدود، التي نشأت في أواخر سبعينيات القرن الماضي. كان أحد مؤسسي دار العلوم الحقانية في عام 1945؛ شبير أحمد عثماني، رجلَ دين وناشطًا لعب دورًا فعالًا في إقرار “إعلان المبادئ التأسيسية” الذي شكَّل باكستان كدولةٍ إسلامية.
أنشأ عثماني جماعة علماء الإسلام في عام 1947 بعد الانشقاق عن الفرع الرئيس للجماعة. تألفت مجموعة عثماني بالأساس من علماء دين يتبعون الطائفة الديوباندية من بين أعضاء الفصيل الذي أيّد التقسيم لإنشاء باكستان. تنقسم الجماعة بدورها إلى ثلاث مجموعات: (1) جماعة علماء الإسلام بقيادة فضل الرحمن؛ (2) جماعة علماء الإسلام الباكستانية بقيادة مولانا سامي الحق؛ (3) جماعة علماء الإسلام في بنجلاديش.
في وقتٍ لاحق، سيصبح فضل الرحمن داعمًا رئيسيًا لحركة طالبان خلال صعودها إلى السلطة في فترة التسعينيات، ويُعرف سامي الحق باسم “الأب الروحي لطالبان”. انشق سامي الحق بفصيله عن فضل الرحمن بسبب خلافات تكتيكية جوهرية في التعامل مع الدولة الباكستانية: كان سامي الحق مؤيدًا للدولة علنًا، ويدعم سياسات الأسلمة، والجهاد الأفغاني الذي كان جزءًا من هذا الأمر، تحت حكم الجنرال محمد ضياء الحق من عام 1977 إلى عام 1988. وأصبح سامي الحق مستشارًا لدار العلوم الحقانية في عام 1988، بعد وفاة والده، عبد الحق، وشغل المنصب حتى وفاته في عام 2008.
ربما يكون الخريج الأكثر شهرة من دار العلوم الحقانية هو جلال الدين حقاني، الذي اضطلعت جماعته، “شبكة حقاني”، بدعمٍ من الاستخبارات الباكستانية، بدورٍ محوري في أوساط المجاهدين في فترة الثمانينيات. واستطاع حقاني استخدام الأشخاص الذين تعرّف عليهم من خلال المعهد الديني لأغراض التجنيد في جميع أنحاء باكستان، حتى أن الرئيس الأمريكي رونالد ريجان أشاد به، واعتبره “مناضلًا من أجل الحرية”. وفي وقتٍ لاحق، أصبح حقاني مقربًا من تنظيم القاعدة، ولعب دورًا حاسمًا في صعود طالبان.
الجدير بالذكر أن أهم جماعات المجاهدين التي تسيطر عليها الاستخبارات الباكستانية هي الحزب الإسلامي، الذي يديره قلب الدين حكمتيار. وكان سراج الحق، أحد الأصدقاء المقربين من حكمتيار، رئيس جماعة الطلبة الإسلامية. كلٌّ من حكمتيار وسراج هما تلميذان لأبي الأعلى المودودي، المُنظِّر الإسلاموي الأكثر نفوذًا في شبه القارة الهندية.
في الوقت الذي كان فيه السوفييت ينسحبون من أفغانستان في عام 1989، ذهب حكمتيار وسراج إلى قندهار للقاء حجي عبد اللطيف خان، زعيم قبيلة براكزاي، ووالد جول آغا شيرزاي. ثم التقيا بزعيم قبيلة دالكوزو، مولى نقيب الله أخوند. كان خان وأخوند متعاونين مهمين مع حكمتيار في المرحلة التالية من الحرب الأفغانية، ضد النظام الشيوعي الذي تركه السوفييت، وعملًا على اجتثاث الشيوعية من المنطقة الجنوبية الغربية من أفغانستان.
في أعقاب الانسحاب السوفيتي، أضحى دور سراج في أفغانستان ضئيلًا للغاية، سواء خلال الحرب ضد النظام الشيوعي الأفغاني، من عام 1989 إلى عام 1992، أو خلال استيلاء طالبان على السلطة من عام 1994 إلى عام 1996، لأن الاستخبارات الباكستانية حولته إلى كشمير، حيث نجح الباكستانيون أخيرًا في بدء حربٍ داخلية في عام 1989، باستخدام العديد من الجهاديين الذين اكتسبوا خبرة في حرب أفغانستان.
أصبح سراج الزعيم الروحي لمجموعة البدر في عام 1998 في كشمير. في الأصل، كان حزب البدر، الذي تشكَّل بمساعدة الاستخبارات الباكستانية، يعمل كفصيل من الحزب الإسلامي بزعامة حكمتيار، وكان المجاهدون فيه عمومًا هم رجال حكمتيار الذين أرسلوا من أفغانستان. وبمرور الوقت، بدأت الاستخبارات الباكستانية في ضخِّ مجموعاتٍ أخرى في مسرح الصراع في كشمير، مثل “عسكر طيبة”، و”جيش محمد”.
تجدر الإشارة هنا إلى أن العديد من المقاتلين في هذه الجماعات “الكشميرية” قد درسوا في المعاهد الإسلامية الباكستانية، مثل دار العلوم الحقانية. وتفيد بعض المصادر بأن سراج قد مُنح لقب “الأب الروحي للمناضلين من أجل الحرية في جامو وكشمير” من الاستخبارات والجيش الباكستاني في عام 2001.
وهكذا، فإن ما بدأ مع تأسيس باكستان وتصاعد، بمساعدةٍ غربية، خلال الحرب السوفيتية-الأفغانية في فترة الثمانينيات، قد عاد سيرته الأولى، ولم نتعلم أي دروس. عندما نجحت الاستخبارات الباكستانية في إعادة تنصيب طالبان في السلطة في أفغانستان في أغسطس 2021، وصف سراج حركة طالبان علنًا بأنها حركة “مناضلة من أجل الحرية”، وأكد أن لدى المجاهدين، الذين ترعاهم الاستخبارات الباكستانية، “رؤية” عالمية، مشيرًا إلى أن فلسطين أحد أهداف هذه الجماعات.
وعلى الرغم من أن وكلاء وكالة الاستخبارات الباكستانية يخططون علنًا لعملياتٍ إرهابية عالمية، انطلاقًا من قاعدتهم في أفغانستان، حيث قتلوا مئات الجنود الغربيين، وآلاف المدنيين الأفغان، فلا تزال الولايات المتحدة تقول: “نحن نثمَّن علاقاتنا الثنائية” مع باكستان.
* المؤسس والرئيس المشارك لـ “تحالف مكافحة المخدرات والإرهاب” في ألمانيا، ومحلل في شؤون الأمن القومي ومكافحة الإرهاب.