د. محمد الحداد*
على غرار النسر الذي ينقض على فريسة منهكة، استغل حزب النهضة الإسلاموي وضع تونس الهش بعد ثورة يناير 2011 التي أطاحت بالرئيس السابق زين العابدين بن علي. كان جناحه الأيمن العنفَ، الذي يجسّده حليفه الأول (الذي يشبهه في الواقع)، ما يسمى بائتلاف الكرامة، الذي يضم نوابًا كانت لهم علاقات مضطربة مع الإرهابيين، و”الرابطة الوطنية لحماية الثورة” الشريرة التي حُظرت بأمر من المحكمة.
وكان جناحه الأيسر الفسادَ، الذي تجسّد في حليفه الثاني، حزب قلب تونس، الذي أنشأه من الصفر وحوكم رسميًا بتهمة غسل الأموال. ومن المحتمل أن يكون قلب تونس قد عرض على راشد الغنوشي، رئيس حزب النهضة، على طبق من ذهب، العمل تابعًا له مقابل إطلاق سراحه من السجن.
احتكار السلطة
لا يمكننا فهم غضب التونسيين صباح يوم 25 يوليو 2021، وفرحتهم الغامرة في ذات المساء، إلا من خلال توضيح الأمور التي فجّرت هذه الموجة غير العادية من السخط العفوي والصادق. فمنذ عام 2011، وبدعوةٍ من الحكومة الانتقالية للمشاركة في عملية الانتقال الديمقراطي، بدأت النهضة في الاستيلاء على كل مقاليد السلطة: السياسية، والبيروقراطية، والقضائية، والمالية، والدبلوماسية، بل وحتى العلمية، والشاهد على ذلك مراكز البحث والجمعيات التي اخترقت أو تم استمالتها.
لم يمض يوم دون أن تحاول النهضة توسيع نطاق نفوذها، بشكل واضح أو خفي. وهكذا وضع قصر قرطاج (مقر رئاسة الجمهورية) والقصبة (مقر رئاسة الحكومة) في الظلِّ من قبل مبنى ضخم يقع في حي الأعمال في تونس العاصمة، في مونبليزير، الذي يضم مقر حزب النهضة، ومكتب زعيمه على مدى السنوات الأربعين الماضية، راشد الغنوشي. لقد حكم هذا الحزب تونس بشكل مباشر أو غير مباشر لأكثر من عقد من الزمان، بعد القول المأثور لأحد قادته التاريخيين، عبد الفتاح مورو: “مارسوا السلطة سواء كنتم في الحكومة أو خارجها”.
على الرغم من أن حزب النهضة لم يشارك رسميًا في أول حكومةٍ انتقالية، لكنه كان يملي القرارات بالفعل على زعيمها، على سبيل المثال، من خلال تعبئة الناس في الشوارع لمحاصرة مكاتبها في القصبة.
وهكذا، وضع حزب النهضة يده على إصدار قانون العفو، الذي غادر بفضله مئاتُ الإرهابيين السجون؛ هذا القرار الذي يُعتبر “الخطيئة الأصلية“، على حد وصف أحد المؤلفين له (لقرار العفو)، لحكومةِ ما بعد الثورة التي بدأت المنحدر إلى الجحيم لأعدادٍ لا حصر لها من الناس، في تونس وخارجها.
في الانتخابات التي عقدت في أكتوبر 2011، فاز حزب النهضة بأغلبية المقاعد في الجمعية التأسيسية بفضل المساهمات المالية السخية للغاية من الخارج، وابتزاز رجال الأعمال المقربين من النظام المخلوع. ثم قرر أن يعهد بالحكومة إلى قادة ليس لديهم خبرة في إدارة الشؤون العامة، لدرجة أن الشخص المعين في منصب رئيس الحكومة كان لا يزال يحلم بتطبيق الخلافة السادسة!
وعلى الرغم من أن حزب النهضة قد أُجبر في أوائل عام 2014 على التخلي عن السلطة العلنية، في أعقاب حالة من الفوضى التامة، في المجالين الأمني والاقتصادي، فإنه تشبث بموقفه ورفض تقديم تنازلات. وكان لا يزال يتمتع بالأغلبية في الجمعية التأسيسية، وكان المئات من مؤيديه يشغلون مناصب رئيسة في جميع أنحاء الدولة، بما في ذلك وزارتا الداخلية والعدل. (وزارة الدفاع هي الوحيدة التي أثبتت مقاومتها للنهضة إلى حد ما).
في انتخابات عام 2014، خرج حزب النهضة خاسرًا لكنه تمكّن مع ذلك من المشاركة في أول حكومة يعينها الباجي قائد السبسي. وكان هدف هذا الأخير تجسيد وحدة الأمة من خلال وجود حزب النهضة، الذي أراد أن يكون تمثيله رمزيًا. ولكنه لم يأخذ في الاعتبار مكيافيلية الغنوشي، الذي استغل تقدم سن الرئيس والانقسامات الخطيرة داخل حزبه. ويعود خزي السبسي وسقوطه في النهاية جزئيًا إلى مخططات الغنوشي الخفية.
في انتخابات عام 2019، احتل حزب النهضة المركز الأول لكنه لم يحقق الأغلبية المطلقة، بعد أن خسر قرابة نصف ناخبيه مقارنة بعام 2011. ومن دون ذرة حرج، استولى الغنوشي على رئاسة البرلمان، وحاول فرض تابع له ليشغل منصب رئيس الحكومة. لم تحقق حيلته سوى نصف إنجاز. كما فشل في إنجاح عملية انتخاب صديقه عبد الفتاح مورو لرئاسة الجمهورية. وبعد عملية الاستبعاد، انتهت الانتخابات بفوز قيس سعيّد، وهو رجل من خارج المجال السياسي، وأستاذ سابق للقانون الدستوري، كرئيس، بفارق كبير (أكثر من 70% من الأصوات)، واكتساب شرعية لا يمكن الطعن فيها.
لم يأخذ الغنوشي هذا المبتدئ في السياسة على محمَل الجد، وربما كان بإمكانه أن يفعل بقيس سعيّد ما فعله مع الباجي قائد السبسي: عزله وحصره في وظائف فخرية، في حين تمارس النهضة السلطة الحقيقية. في نظره هو شخصيًا ونظر مؤيديه، وكذلك بالنسبة للعديد من التونسيين والمستشاريات الغربية، كان الغنوشي رجلًا لا يُهزم. وبدت قدرته المطلقة أبدية، وتمكّن من إحباط محاولة توجيه اللوم إليه، والتزم الصمت إزاء مطالب زملائه النواب الذين طلبوا منه الاستقالة من رئاسة البرلمان حتى لا يخلط قيادة حزبه مع قيادة مؤسسة حكومية ذات سيادة. وفي داخل حزبه، تحدى القوانين الداخلية التي تتطلب منه ترك منصب رئيس الحزب في نهاية فترة ولايته الثانية، في عام 2020.
تدهور الأوضاع
في الخلفية، كان الوضع يزداد ظلمة. ذلك أن الاقتصاد كان في حالةٍ يُرثى لها. وفي نهاية هذا العقد، تراجع ترتيب تونس في مؤشر دافوس لممارسة أنشطة الأعمال من 48 في عام 2012 إلى 78 في عام 2020. ومعدل النمو سلبي حاليًا. ويبلغ الدين الخارجي الآن 102% من الناتج المحلي الإجمالي، بعد أن كان 48% في عام 2010. وانخفض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي من 4,140 دولار في عام 2010 إلى 3,320 دولار في عام 2019. فلقد ارتفع التضخم باطراد لمدة عشر سنوات إلى متوسط سنوي قدره 5%.
ويبلغ معدل الفقر حاليًا 21%. وتبلغ نسبة البطالة 18% (أكثر من 40 % هم من الشباب). ووفقًا لتقرير صدر مؤخرًا عن منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) يعاني نصف مليون تونسي من نقص التغذية. وأكثر من نصف المهاجرين غير الشرعيين الذين يصلون إلى الساحل الإيطالي هم من التونسيين.
يُضاف إلى هذه الإدارة الكارثية للاقتصاد سوء إدارة الأزمة الصحية الناجمة عن وباء فيروس كورونا. ففي بداية تفشي الوباء، دفع وزير الصحة، الذي ينتمي لحزب النهضة، التونسيين إلى الاعتقاد بأن معدل العدوى قد يكون صفرًا، مشيرًا إلى الوضع الصحي في تونس يمثل استثناءً. ومن الواضح الآن، إن لم يكن في ذلك الحين، أن هذا كان خداعًا كبيرًا.
وقد تضررت تونس بشكل غير متناسب من كلا طرفي الوباء: المزيد من الوفيات الناجمة عن الفيروس (20,000 في عدد سكان يبلغ عشرة ملايين نسمة، وهو واحد من أعلى معدلات الوفيات في العالم)، ثم تضررت أيضًا من فرض الإغلاقات المتأخرة التي أطالت أمد المعاناة الاقتصادية. وهكذا، فإن الدولة التي قدمتها منظمة الصحة العالمية في الستينيات والسبعينيات كنموذج للنجاح في حملات التحصين الجماعي تفشل الآن فشلًا ذريعًا في تحصين سكانها.
وحتى في خضم الاضطرابات الاقتصادية، ووسط تفشي هذا الوباء، لم تتوقف النهضة عن ألعابها السياسية. ففي لحظة حرجة، اختار حزب النهضة دفع حليفه السابق، رئيس الحكومة، إلى الاستقالة، رسميًا بسبب “تضارب المصالح”، وفي الواقع لأنه كان قد بدأ يعرقل الإسلامويين، ما ألقى بالبلاد في دوامةٍ أخرى من عدم الاستقرار السياسي.
انتهت اللعبة
وبالتالي، فإن هذه الأزمة المتعددة الجوانب التي كانت تخنق التونسيين وتنتهك حقوقهم، هي التي أدّت إلى الثورة ضد النظام. كان من المقرر أن يكون يوم 25 يوليو، ذكرى إعلان الجمهورية، آخر يوم لحزب النهضة في منصبه. وكما كان الحال مع ابن علي في يناير 2011، وعلى الرغم من ترؤسهم لوضع متدهور، فإنهم لم يروا ذلك اليوم قادمًا أبدًا. لقد أساء الغنوشي الحكم على سعيّد، الذي أقال الآن الحكومة المدعومة من النهضة.
ولفهم مدى انفصام حزب النهضة عن الواقع، فلا بد فقط من النظر إلى الطريقة التي دعا بها الغنوشي أتباعه عبر وسائل الإعلام إلى “محاصرة” البرلمان لإلغاء قرار سعيّد، متخيلًا أنه يمكن أن يحاكي دعوة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في يوليو 2016 لمؤيديه لمقاومة محاولة الانقلاب العسكري.
وعلى عكس ما حدث في تركيا، فشلت جهود الغنوشي لحشد مؤيديه: فقد حضر أقل من مائة شخص خارج البرلمان، وحتى معظم نواب النهضة لم ينضموا إلى الاحتجاج. ولما أدرك الغنوشي مدى سخافة هذا الأمر، سعى إلى حشد ضغوطٍ خارجية ضد سعيّد باستخدام جماعات الضغط التابعة لجماعة الإخوان المسلمين وحلفائها لتصنيف تجميد البرلمان على أنه “انقلاب”. لكن هذه الخطوة فشلت أيضًا. واضطر الغنوشي، خالي الوفاض، إلى قبول الأمر الواقع.
قطعت النهضة وعودًا للتونسيين بأنها ستخلق جنة على الأرض، ومُنحت عشر سنوات لمحاولة ذلك، لكن ما حدث يوضحه سجلها كما هو موضح أعلاه. وقد سئم التونسيون هذا الوضع، ومن ثم أيدوا بأغلبيةٍ ساحقة القرارات التي اتخذها سعيّد؛ فالنسبة لهم، هذه ثورة ثانية أو على الأقل فرصة لاستعادة الأولى.
الخلاصة
لقد كرر الغنوشي خطأ ابن علي، وأصبح منفصمًا عن الواقع لدرجة أنه لم يبصر المؤشرات المظلمة التي أدّت إلى هذه الثورة الشعبية. سيّطر حزب النهضة على تونس عشر سنوات، ولم يجعل الدولة أفضل حالًا، ويبدو أنه لم يعد يحاول: اختفت كل الأفكار الطوباوية، والآن تحولت إلى سلسلة لا نهاية لها من الألاعيب السياسية فقط حتى يتمكنوا من البقاء في السلطة. بدأت النهضة بوعودٍ كاذبة وانتهت بوعودٍ كاذبة، قُدمت في مايو بعد زيارة الغنوشي إلى قطر (رحلة غير قانونية، ناهيك عن أي شيء آخر: لأنه لا يجوز للمسؤولين التونسيين القيام بزيارات رسمية إلى دول أجنبية دون إذن من رئيس الجمهورية). الأموال التي احتاجتها النهضة من القطريين لحل الأزمات لم تأت أبدًا؛ ويبدو أنهم كانوا يرون أن قوة الجماعة التي يرعونها في تونس بدأت تنحسر.
وأيًا ما كان سيحدث في تونس في المستقبل القريب، يبدو أن هناك شيئًا واحدًا لا رجعة فيه: أفول نجم الغنوشي. فرغم أنه ماهر على المستوى التكتيكي، فإنه ضعيف على المستوى الاستراتيجي. وقد يتم حظر حزبه اعتمادًا على ما تكشفه محاكمات الإرهاب، وغسل الأموال. ويمكن إنقاذه إذا ما تم تفضيل السلام الاجتماعي مرة أخرى على الحقيقة والعدالة. ولكن من المرجح أن يتم ذلك من دون مؤسسه وزعيمه التاريخي. وبعد أن تمكّن مرارًا وتكرارًا من إيجاد طريقة للخروج من المآزق، يبدو أنه لا مهرب اليوم.
*كاتب وباحث تونسي متخصص فى الإسلاميات وتاريخ الأديان، حاصل على الدكتوراه من جامعة السوربون بباريس، أستاذ جامعي وخبير دولي وناشط في مجال حوار الأديان