ويل بالدات*
ما زالت جماعة “المهاجرون” الإرهابية المحظورة تشكِّل تهديدًا وتثير فضولًا لدى الرأي العام. ويبدو أن العلاقة التكافلية بين الخطاب التهديدي الذي تستخدمه الجماعة، وما ينتج عن ذلك من افتتان بأنشطتها، قد صبَّ في صالح استراتيجية الجماعة المتمثلة في لفت الانتباه ونشر أيديولوجيتها بين جمهورٍ أكبر. وقد غذّت وسائلُ الإعلام لسنواتٍ عديدة هذا الاهتمام من خلال الترويج للمآثر الاستفزازية للجماعة، ونشر مقابلات مع أبرز المتحدثين باسمها؛ أنجم شودري، الشخصية المخادعة وغريبة الأطوار.
الجدير بالذكر أن إدانة بروستوم زياميني مؤخرًا في المملكة المتحدة، وهو إرهابي مسجون على علاقة بجماعة المهاجرين، ومُدان الآن بارتكاب أول هجوم إرهابي في بريطانيا داخل أحد السجون، أعادت تسليطَ الضوء على الجماعة. وفي حين أن وسائل الإعلام والجمهور لا تزال تلهث لمعرفة المزيد عن المغامرات المستمرة للجماعة وأتباعها، فإن الأوساط الأكاديمية هي التي أظهرت أكبر قدر من الاهتمام بها.
تبدو العلاقة بين نشطاء الجماعة وكثير من الأكاديميين الذين يدرسون مكافحة الإرهاب والتطرف أقرب ما تكون إلى الاستغلال في بعض الأحيان وبشكل واضح. ذلك أن بعضَ النشطاء يعتبر الأوساط الأكاديمية حليفاً غير منتقد -بل متعاطف- يمكن أن يعفيه من ذنبه في التهديد الإرهابي المستمر في المملكة المتحدة. في الحالات الأكثر فظاعة، هناك نشطاء استخدموا الاهتمام الأكاديمي لتضخيم أيديولوجيا جماعة المهاجرين بطرق قد تصبّ في صالحها.
اهتمام أكاديمي بالجماعة
وفي هذا الصدد، هناك كتابان حديثان حول هذا الموضوع، «تنظيم الدولة الإسلامية في بريطانيا» لمايكل كيني و«المهاجرون: دراسة حالة في النشاط الإسلامي المعاصر» لدوج ويكس، يحاولان تعزيز فهمنا لهذه الجماعة. وينبغي الإشادة بكلا الكتابين لما يحتويانه من تفاصيل غنية في رصد تطور الجماعة وأساليبها. من جانبه، يتعمق كيني في سبر أغوار أحدث هياكلها التنظيمية ويحدِّد الغرض من “أكشاك” الدعوة، التي تُستخدم في نشر الدعاية وتجنيد الأتباع ودعوة الناس إلى حلقات العلم. ويقدم دليلًا مفيدًا للدور الذي تلعبه هذه الحلقات في تعزيز النظرة العالمية للجماعة، وكذا الشبكات الاجتماعية والأسرية.
على النقيضِ من ذلك، جمع ويكس كمية من البيانات لا مثيل لها في الأوساط الأكاديمية. وربما لا يكون من قبيل المبالغة القول إن هذه الكمية من المواد الأولية عن تاريخ وتطور جماعة المهاجرين على مرّ السنين تُعتبر عملًا غير مسبوق. وعلى الرغم من أن الكثيرَ من السرد يأتي مباشرة من مقابلاتٍ استمرت ثلاثة أيام مع مؤسس الجماعة، عمر بكري محمد -ومن ثم ينبغي توخي الحذر- فمن الإنصاف القول إن صانعي السياسات، ووكالات إنفاذ القانون، ووكالات الاستخبارات، والأكاديميين سوف يستفيدون مما ورد فيها كونها تساعد في تحسن فهمهم للتطور الأيديولوجي المبكر للجماعة. وعلى وجه الخصوص، يوفر هذا مستوى غير مسبوق من التفاصيل بشأن تبني الجماعة للنزعة السلفية الجهادية.
تقييم وضع الجماعة
يدرك المؤلفان أن جماعة المهاجرين أضحت تنظيمًا يعاني التدهور إلى حد كبير. ويقدمان، على حد سواء، نسخة من الجماعة قد تكون غير معبرة بدقة عن “الذيل الطويل” لهذه الأفعى، خاصة التهديد الذي لا تزال تشكِّله. قد يكونان محقَّين في القول إنها كجماعةٍ منظمة أصبحت في حالة من الفوضى، حيث أصبح ما تبقى من نشطائها أقرب إلى حركة اجتماعية ممزقة (وعنيدة). ومع ذلك، ورغم أنها تفتقر حاليًا إلى زخارف المنظمات الأكثر رسمية، فإنها تحورت للتكيف مع ضغوط وكالات إنفاذ القانون، وسيكون من قبيل الخطأ التقليل من شأن التهديد المحتمل الذي ما زالت بقاياها التنظيمية تمثِّله. ومن شأن عدم الاعتراف بهذا الواقع أن يخاطر بالنظر إلى أعضائها السابقين كنشطاء حميدين وليس أتباعًا لجماعةٍ إرهابية محظورة. ذلك أن قضاء وقت كبير مع النشطاء الأفراد وتطوير تعاطف مكثف معهم ربما يخفي الطبيعة الشريرة الأساسية للجماعة. وفي حين أن درجة من التعاطف أمر حيوي لفهم التطرف وتسهيل الانفكاك من براثنه، ينبغي علينا ألا نغفل الأهداف التي تنشدها الجماعة ولا مدى خطورة الأتباع إذا ما تضافرت العوامل المناسبة.
جماعة داعش خطر مختلف
الأمر المحبط هو أن ينتهي كتاب كيني قبل تأسيس تنظيم داعش، وإعلان جماعة المهاجرين البيعة لخليفة التنظيم: وربما كان هذا هو الحدث الأكثر أهمية في تاريخ الجماعة. بالإضافة إلى ذلك، مهما كانت إمكانيات كيني للوصول إلى الجماعة، يقتصر الكتاب على ما يبدو على عددٍ من المقابلات المتناثرة على مدى بضع سنوات وحضور المؤلف العديد من فعاليات أكشاك الدعوة. وقد يتساءَل المرءُ عما إذا كان هناك خللٌ في منهجية المؤلف “الإثنوجرافيا”، وهي عملية تنطوي عادة على غمر الذات في الجماعة على مدى فترة طويلة، والعيش بين المشاركين في البحث والانخراط في الأنشطة اليومية معهم. ومع ذلك، فينبغي الاعتراف بأن مهمة دراسة مجموعة تم حظرها كمنظمة إرهابية ليست سهلة؛ لأن الحظر ربما قد قيّد حتمًا انفتاح المستجيبين في تفاعلاتهم مع الأكاديميين.
على النقيضِ من المنهجية التي تدّعم كتاب كيني، انغمس ويكس في كلِّ جانب من جوانب الجماعة لمدة تسع سنوات. وشارك في الحلقات التعليمية الخاصة، وحضر محاكماتهم وتحاور مع أسرهم. ومع ذلك، فبمجرد أن ينتقل الكتاب من توثيق تاريخ جماعة المهاجرين إلى توثيق معتقداتهم، فإنه يبدأ في التفكك، ويفشل بشكلٍ كبير في وضع هذه المعتقدات في سياقها. على سبيلِ المثال، هناك العديد من الصفحات التي تُعبّر عن الأسس الإسلامية للعقيدة الدينية للجماعة، والتي بطبيعتها مشتركة بين العديد من فروع التقاليد الإسلامية السُنيّة. لكن هناك أيضًا عددًا قليلًا نسبيًا من الجوانب الأيديولوجية التي تنفرد بها الجماعة؛ مثل رؤيتها لكيفية تطبيق الشريعة الإسلامية في المملكة المتحدة. ومن ثم، فقد يخلط القراء، الذين يفتقرون للدراية الكافية، بين الإسلام السياسي المتطرف للجماعة، والإسلام التقليدي، وهي نتيجة تسعد بلا شك كلًّا من بكري وشودري.
تقييم للجماعة
يستنتج ويكس أن الانخراط في جماعة المهاجرين يمثل “صمام أمان” للأتباع يمكنه الحد من خطر الوقوع في العنف من خلال الأنشطة السياسية. وهذا استنتاج مضلِّل بشكلٍ خطير. فرغم أن الأفراد المرتبطين بالجماعة يشكِّلون أقل من 0.001% من السكان المسلمين في المملكة المتحدة فإنه تم ربطهم بنسبة 50% من الهجمات الإرهابية. هناك جماعاتٌ تُحرِّض على الإسلام السياسي التي يمكن تصورها بمثابة صمامات ضغط، قادرة على تلبية نفس الاحتياجات النفسية الاجتماعية دون تشجيع العنف صراحة، ولكن جماعة المهاجرين ليست واحدة منها. بل على العكس من ذلك، فإن جماعة مثل المهاجرين ترفع الضغط نحو الخلاف العنيف بدلًا من أن تخفضه. والواقع أن هذا جزءٌ من جاذبيتها لمن ينضمون إليها.
ويمضي ويكس في الإشارة إلى أن قمع أنشطة الجماعة قد يزيد في الواقع من المخاطر من خلال دفع شخصٍ ما نحو العنف. وبالنظر إلى أن جميع الجماعات الإرهابية تلقي مسؤولية العنف على أعدائها السياسيين، فإن هذا تأكيدٌ خطير، وإن لم يكن مفاجئًا. علاوة على ذلك، فلا يوجد دليل تجريبي يدعم هذا الاستنتاج. وينبغي أن نتذكر أن حماسة جماعة المهاجرين للعنف الجماعي ضد المدنيين يرجع إلى ما قبل حظر الحكومة البريطانية للجماعة لعدة سنوات.
يناقش كلا الكتابين بشكلٍ مكثف مفهوم “عهد الأمن”؛ الاتفاق الذي يحظر شنَّ هجماتٍ ضد غير المسلمين في ظروف محددة. وفي الواقع، يمكن القول إن هذه الأطروحات تمنح أهمية أكبر لهذا المفهوم مما توضحه الدعاية التي تروّج لها الجماعة (وهذا أمر مستغرب)، حيث يؤكد المؤلفان أن العهد مبدأ أساسي للجماعة وحاجز أمام أعضائها الذين يمارسون العنف. وإذا كان الأمر كذلك، فمن الجدير بالذكر أن الدراسة لا تقدم أي تفسير لكيفية قيام أعضاء الجماعة بالتوفيق بين العهد والتزاماتهم تجاه الخلافة التي كانت في حالة حرب نشطة مع الغرب. وبصراحة، يمكنني القول إنهم لم يفعلوا ذلك. فمن منظور الفقه الإسلامي الذي تعتقد فيه جماعة المهاجرين، تقع العلاقات الدبلوماسية تحت سلطة الخليفة، ولا يمكن للأفراد مخالفته بالدخول في معاهدات سلام فردية خاصة بهم مع دولٍ في حالة حرب مع الخلافة.
تقييم للدراسات الأكاديمية
تكمن قوة المصادر الأكاديمية؛ مثل كيني وويكس، في قوة الوصف الذي يقدِّمانه. وتأتي نقاط ضعفهما من اعتماد المؤلفين على البيانات التي تم جمعها من الأفراد الرئيسيين الذين جرى مقابلتهم، الذين يتمثل دافعهم الرئيس في التأثير على الآخرين، وليس تقديم المعلومات. والنتيجة هي تقييم تفصيلي ممتاز لشبكات مثل جماعة المهاجرين، لكنه يغفل للأسف الغرض الأوسع لمشروع الجماعة. وهذا ينسحب بشكل خاص على رواية الكتابين عن فصل “الأعضاء” عن “الفروع الفكرية”. فالحجة القائلة بأن الأعضاء لا يؤيدون العنف وأن الأعضاء السابقين الساخطين فقط، أو الأفراد الذين ينتمون إلى الجماعة فكريًا، هم الذين يشكِّلون خطر العنف، تستند إلى تمييز مشكوكٍ فيه. وهو، في الواقع، يوفِّر عذرًا لا تستحقه الجماعةُ.
صحيح أن الخطر الرئيس للعنف لا يأتي من المُنظّرين الأساسيين الذين قابلهم الأكاديميان. ولكن أيًّا من المؤلفين لا يتعرف بأن هؤلاء الأفراد يرون دورهم بمثابة تشجيع للآخرين على التعبئة، دون القيام بذلك بأنفسهم. علاوة على ذلك، فنحن نعلم أن الذيل الطويل لجماعة المهاجرين لا يزال يشكِّل تهديدًا كبيرًا. وفي الآونةِ الأخيرة، تجلى ذلك التهديد في مؤامرة إرهابية أحبطت كانت تستهدف كاتدرائية القديس بولس في لندن، حيث تم نشر دعايتها على الإنترنت، وانساقت وراءَها سيدة تُدعى صفية شيخ التي أدينت الآن. لذا، فينبغي لأي نقاش حول هذه الجماعة أن يعترف بتوافر أيديولوجيتها على الإنترنت، وبقدرتها المستمرة على إلهام الإرهابيين.
وبما أنه من غيرِ المرجَّح أن يتضاءَل اهتمام الجمهور أو وسائل الإعلام في جماعة المهاجرين في أي وقتٍ قريب، فمن الأهمية بمكان ألَّا يتم “تبييض” أعضائها كمحرضين سياسيين شرعيين يتم عرقلة نشاطهم الحميد بشكلٍ غير عادل وغير صحيح. ذلك أن جماعة المهاجرين تهدف إلى الاستفزاز، وزرع الانقسام، ونشر التطرف، وتعبئة الناس خارج دوائرها المباشرة. بعبارةٍ أكثر وضوحًا: ليس من قبيل الصدفة أن يخرج أتباع مؤدلجون مثل بروستوم زياماني أو عثمان خان ويرتكبون أعمالًا إرهابية، بل هي النتيجة المبتغاة.
*باحث في مركز “تحليل اليمين المتطرف” ومنسق “استراتيجية منع التطرف”