معهد البحوث للدراسات الأوروبية والأمريكية*
تبدو تركيا، التي نصّبت نفسَها “قوة عظمى” إسلاموية، محبطةً هذه الأيام. تسعى تركيا “العثمانية الجديدة” عبر احتلال الفضاء الجغرافي الاستراتيجي بين أوروبا والمناطق النائية الآسيوية، ومن خلال قرارات رئيسها رجب طيب أردوغان الذي يشبه الفرعون، أن تثبت قدرتها على اللعب على العديد من ألواح الشطرنج الاستراتيجية المترابطة في وقتٍ واحد.
تركيا تصدم بطرقٍ مسدودة في سوريا وليبيا
عندما نفحص الحقائق بعناية، نلاحظ أن تركيا تواجه صعوباتٍ جمَّة في المنطقة. ففي سوريا، وصل أردوغان إلى طريقٍ مسدود. فيجد نفسه متورطًا في “عملية سلام” مربكة بشكلٍ خطير في شمال سوريا، حيث ذبح “الإرهابيين” الأكراد المتحالفين مع الغرب، بينما كان يسعى بنهمٍ لالتهام هلال طويل من الأراضي السورية، على طول حدوده، للحفاظ ظاهريًا على “منطقة أمنية” تركية. كما يرعى أردوغان “تحالفًا” مهتزًّا مع روسيا، التي ينفد صبر قيصرها البارد الوجه؛ فلاديمير بوتين، يومًا بعد يوم بسبب انعطافاتِ أنقرة الهستيرية في سوريا. وفي الوقت نفسه، لا يزال يتودد إلى الملالي الإيرانيين الطموحين إلى الأسلحة النووية، الذين لم يتفاعلوا مع طموحاته بالحماس ذاته.
وفي ليبيا، جرّ أردوغان تركيا إلى كارثةٍ تشبه فيتنام. وقد أوصله انحيازه إلى الحكومة التي تدعي “الشرعية” بقيادة فايز السراج في طرابلس، وإرساله أسلحة وإرهابيين إسلامويين سوريين، إلى طريق مسدود آخر. ويرفض مُنافس السراج، المشير خليفة حفتر -على الرغم من إجباره على التخلِّي عن جزءٍ كبير من الأراضي التي انتزعها من إدارة طرابلس- التفاوض، ولن يتم إخضاعه في أي وقت قريب. ورغم حديث أردوغان الخشن، فإنه لا يملك الموارد الاقتصادية ولا العسكرية للفوز على منافسيه في ليبيا، خاصة مع موقف الدعم المصري الإماراتي للمشير حفتر.
اقتصاد تركي متردي
علاوة على ذلك، فمن الملاحظ أن طموحات أردوغان الإقليمية صرفت انتباهه عن معالجة أخطر تهديد تواجهه تركيا الذي يتمثل في اقتصادها المتردي. ورغم أن الاقتصاد التركي بدأ في التدهور بشكل مطرد في السنوات الأخيرة، فإن الآثار الاقتصادية لوباء فيروس كورونا العالمي قد دمرته. وقد تعرضت الليرة التركية لضربة هائلة، وتعاني الشركات الكبيرة والصغيرة على حد سواء الضغوط. وقد أعاقت الأزمة الاقتصادية قدرة أردوغان على خوض ألعاب القوة الإقليمية، لكن في سبيل الحفاظ على إظهار تركيا بمظهرِ القوة ذات الوزن الثقيل، أساء أردوغان بشكلٍ صارخ قراءة التأثير الحقيقي للوباء. وبدلًا من أن يكون زعيمًا مسؤولًا ويتراجع عن نزعة المغامرة في المنطقة، يواصل أردوغان التصرف مثل “الثور الذي يعيثُ فسادًا في متجر خزفٍ صيني”.
المغامرات التركية في البحر الأبيض المتوسط
يتجلى ذلك في التوسع التركي في بحر إيجه، وشرق البحر الأبيض المتوسط. وفي مواجهة ذلك، اضطرت اليونان- الهدف الرئيس للعدوان التركي- أن تنشر سفنًا بحرية للدفاع عن نفسها من سفن المهاجرين الأفارقة والآسيويين، الذين لا يحملون وثائق، التي توجهها تركيا إلى جزر بحر إيجه الشرقية في اليونان. وقد عانتِ اليونان بالفعل غزو غير الشرعيين الذي دفعت به منظماتٌ غير حكومية معادية في كثيرٍ من الأحيان. وما زاد الطين بلّة أن عدم اكتراث الاتحاد الأوروبي بغزو المهاجرين غير الشرعيين قد شجع أردوغان على تصعيد استفزازاته.
وقبالة شواطئ ليبيا، زعم أردوغان أحقيته في منطقة ضخمة في شرق البحر الأبيض المتوسط باعتبارها “المنطقة الاقتصادية الخالصة” لتركيا، في تواطؤ مع حكومة السراج العميلة التي تتخذ من طرابلس مقرًّا لها. اللافت أن الأمم المتحدة صدقت بشكل فاضح على عملية الاستيلاء الاستفزازية هذه، والموجهة إلى الشراكة الثلاثية لليونان وقبرص وإسرائيل، ما زاد من جرأة تركيا على مواصلة هذه السلوكيات الحربية المشينة. ويبدو أن استفزازات أنقرة في البحر الأبيض المتوسط تنبع من خوفها من أنها إذا تخلَّفَت عن التنقيب عن الغاز الطبيعي، فإنها ستكون معزولة دبلوماسيًّا في المنطقة، وبالتالي فهي مصممة على تنفيذ حلولٍ عسكرية محسوبة ضد اليونان وقبرص وإسرائيل.
وبدلًا من تضييق الخناق على المغامرة التركية، لعبت الدول الغربية لعبة قديمة وخطيرة من التلميح حول سلوك أنقرة المهووس. وقد فسر أردوغان “الدبلوماسية الهادئة” للغرب على أنها تفويض دائم مطلق للدفع باتجاه الحصول على “الحقوق التركية” الغريبة، أكثر من أي وقتٍ مضى، على حساب جيرانها المباشرين والسلام العالمي.
الخلاصة
الدول الغربية ترتكب خطأ قاتلًا بتجاهل انتقادات أردوغان المسمومة والمستمرة ضد الغرب “الكافر”؛ باعتبارها مجرد مبالغة محسوبة. إذا كان الغربُ -خاصة الولايات المتحدة- قد تعلَّم درسًا واحدًا بعد هجمات 11 سبتمبر، فهو أن إسلامويًّا مهووسًا، وخارجًا عن السيطرة؛ مثل أردوغان لا يخادع أبدًا. خطابه لا يأتي ببساطة من الجانب الأيسر من دماغه، ولكن من تعطُّش لا يُروى لمعاقبة الكافر وسحقه وتدميره. وإذا لم يأخذِ الغربُ هذا التهديدَ على محمل الجد، فسوف يعاني بكل تأكيد العواقبَ.
*(Research Institute for European and American Studies (RIEAS