طاهر عباس، * بروفيسور دراسات التطرف في معهد الأمن والشؤون العالمية في جامعة ليدن في لاهاي، هولندا.
أثار الهجوم المروّع على المارة الأبرياء من ذوي البشرة الملونة، في بوفالو بالولايات المتحدة مؤخرًا، مخاوف بشأن التأثيرات الجديّة لنظرية الاستبدال العظيم. لكن ما يتجاهله كثيرٌ من المحللين والمراقبين هو أن هذه النظرية ليست جديدة، بل تُستخدم -منذ وقتٍ ليس بالقصير- من قبل مثيري القلاقل في اليمين المتطرف واليمين المتشدد.
تتمثل الفكرة -التي شاعت في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، في أجزاء من أوروبا- في أن بعض الجيوب السكانية المرتبطة بالأقليات المسلمة قد تنمو بشكلٍ كبير، ما يطرح تحدياتٍ استثنائية للدول القومية في أوروبا الغربية. في المملكة المتحدة، وفي الوقت الذي كانت فيه حرب العراق جاريةً على قدمٍ وساق، وكانت المخاوف بشأن تطرف الشباب الأوروبي مدرجة بالفعل على جدول الأعمال، بدأ حزب استقلال المملكة المتحدة في الظهور، أولًا كمهزلة، ثم كمأساة، لأن سياسة حزبهم الواحد المتمثلة في الخروج من الاتحاد الأوروبي قد دمجت في نهاية المطاف من قبل حزب المحافظين.
يمكن عزو العداء تجاه المهاجرين والأقليات إلى “جيل ويندراش” (Windrush generation) والمناخ السام الذي أنتجوه. ولكن النظرية ترسّخت في فرنسا، بعد نشر كتاب رينو كامو “الاستبدال العظيم” في عام 2011، الذي أحدث ضجة كبيرة عند نشره. لقد كانت فكرة الكتاب الأساسية واضحة ومباشرة: المسلمون في طريقهم للاستيلاء على فرنسا، وبالتالي فإنهم يمثلون تهديدًا للنسيج الأساسي للمجتمع الفرنسي.
قبل الحادث الأخير في بوفالو، كانت العديد من الجماعات اليمينية المتطرفة قد نشرت بياناتٍ تدعو إلى فرض قيود على الهجرة والأقليات بغية حماية العرق الأبيض من أولئك الذين يهددون نقاءه. فلقد أشار أندرياس بريفيك إلى هذه النظرية في عام 2011، والهجمات في كرايستشيرش ونيوزيلندا وهالي وإل باسو في عام 2019، ومن ثم الهجوم الأخير في عام 2022، كلها تتعلق بالمجموعة نفسها من المبادئ العريضة. الادّعاء الأساس هو أن موارد العالم غير كافيةٍ للجميع. وأن المهاجرين والأقليات يهددون سلامة الشعوب الأصلية في الدول القومية، لذلك يجب أن تكون أعدادهم محدودةً. تفوح من هذه الأفكار رائحةُ علم تحسين النسل، والعنصرية العلمية، وهما اللتان تمتدان إلى أواخرِ القرن الثامن عشر، واللتان استمرتا حتى الحرب العالمية الثانية، عندما كانت الحكومة النازية تمثل ذروة العنصرية العلمية الأوروبية.
السؤال الجوهري هو: لماذا يوجد هذا الشكل من التطرف العنيف في الوقت الحاضر، وكيف يبدو أنه مبرر من قبل الأفراد الذين يعبرون عن مخاوف محددة بشأن الأقليات، والتعددية الثقافية، والتباينات المجتمعية التي تمثل تهديدًا لمفهوم الأمة نفسها؟
تنبغي الإشارة هنا إلى ثلاث نقاط: أولًا، عدم وجود دور للدولة في الحياة الاجتماعية للناس العاديين يؤثر على الهويات الفردية. ثانيًا، برزت الإسلاموفوبيا على نطاقٍ واسع باعتبارها الوضع الطبيعي الجديد. وأخيرًا، دور الذكورة مهم جدًا لدرجة أنه في كثير من الحالات التي ينخرط فيها الرجال في التطرف العنيف أو الإرهاب، تتشابك مفاهيمهم حول ماهية أن يكون المرءُ رجلًا بشكلٍ وثيق مع أفعالهم في نهاية المطاف.
تفتقر النخب السياسية في الشمال العالمي إلى الخيال، بسبب اهتمامها الطويل الأمد باقتصاديات السوق الحرة، وإلغاء القيود التنظيمية، واللا مركزية. ونتيجة لذلك، هناك نقص في التركيز على فكرة أن الدولة توفر شبكة أمان لسكانها، ما يترك الأفراد دون خيار سوى الدفاع عن أنفسهم.
تواجه الولايات المتحدة صعوبةً محددة في فرض قيود على امتلاك الأسلحة النارية، التي تصدّرت عناوين الأخبار مرة أخرى هذا الأسبوع، إثر الهجوم الذي وقع في مدرسة أوفالدي. ومع ذلك، انسحبت الولايات المتحدة وبقية الشمال العالمي لمصلحة تلبية الاحتياجات والرغبات الفردية على ما هو الأمثل للمجتمع. وبسبب الافتقار إلى الأصالة في التفكير السياسي، تراجعت الدول بشكلٍ أعمق إلى إطار متقلص للهوية الوطنية، الذي أصبح أكثر انتقائية وإقصائية في العقود الأخيرة. كما أن دور الإسلاموفوبيا مهم بشكلٍ خاص، لأنه لا يظهر في السياسة والثقافة اليومية فحسب، بل في معايير مكافحة الإرهاب، ومكافحة التطرف، وإعادة تأهيل المتطرفين، التي تواجه المجتمعات المسلمة في الشمال العالمي.
علاوة على ذلك، هناك جانب جنساني خبيث في تنفيذ هذه الفظائع. وبدون دعمٍ كاف من الدولة، وفي ظل كل هذه الإسلاموفوبيا، فإن هؤلاء الأفراد يصنعون رجالًا من أنفسهم عن طريق قتل الأبرياء. لكن هؤلاء هم أيضًا الشباب الذين يعانون من مشكلات. نرى هذا الآن ونحن نراقب اليمين المتطرف، أمر كان العالم الغربي بطيئًا في إدراكه، مقارنة بالتجربة الإسلاموية المتطرفة التي لا تختلف عنه، فهي تتعلق أيضًا بالشباب الذين يسعون لإظهار أنفسهم كرجال، في وقتٍ تتآكل فيه القوى الاجتماعية التي كانت تدعم الأفكار التقليدية للذكورة. هذا لا يعني أن النساء لا يمكنهن لعب أدوارٍ متطرفة أو أن تكون لديهن قدرة كبيرة على حشد المعايير الأنثوية الجنسانية في تطرفهن. لكن الواقع يظهر أن الشباب ما زالوا هم الأكثر تورطًا.
من حيث فهم التطرف، كلُّ ما سبق يشير إلى تقاطع كل هذه العناصر؛ أي العرق والطبقة الاجتماعية ونوع الجنس. يواجه الرجالُ البيض المهمشون اجتماعيًا -الذين غالبًا ما يكونون شبابًا ويواجهون ضغوطًا بسبب الحراك الاجتماعي النزولي، حيث الإقصاء الاجتماعي واقعٌ مهمٌ وفي ظلِّ لغة السياسة اليومية التي تلاقي صدًى لدى هؤلاء الأفراد المضطربين- تحدياتٍ عديدة تمس إحساسهم بالرجولة، تحديات يجدون مخرجًا منها في تبني النظريات العنصرية التي تكون ذات مغزى في عقول المعزولين، الأفراد المنفصلين الذين يبحثون عن معنى أكبر في حياتهم. وحقيقة أن مسلح بوفالو قد تطرف بشكلٍ تام من خلال المحتوى الذي وجده على وسائل التواصل الاجتماعي مثل “4Chan ” و”Reddit” هو دليلٌ دامغ على تطبيع التطرف العنصري.
أحد الجوانب الجوهرية لنظرية الاستبدال العظيم هو أن وجود مجموعة محددة من المعتقدات يمكن أن يوفر الظروف التي تجد فيها الدولُ في جميع أنحاء الشمال العالمي نفسها، من حيث تزايد عدد السكان المسلمين القائم جنبًا إلى جنب مع الدمج الليبرالي، قادرةً على استيعاب اختلافات الأقليات. لكن الواقع يُظهر أن النخب التي تحكم الدول القريبة من التأثيرات التجارية، خاصة في وسائل الإعلام والتمويل، لديها عددٌ قليل جدًا من الأفكار الفريدة حول كيفية معالجة المشكلات الاجتماعية التي تعاني منها العديد من الدول في الشمال العالمي.
إن عدم المساواة، والاستقطاب، والشقاق، والانقسام ليست عواقب غير مقصودة لسياسات فاشلة في الماضي، بل عواقب مقصودة وصريحة لسياسةٍ قصيرة النظر تمثل فعليًا سياسة المحافظين الجدد من حيث الإعداد والتنفيذ. علاوة على ذلك، فإن هذه النخب نفسها قد حوّلت تركيزها عن احتياجات الكثيرين إلى احتياجات القلة.
تتضمن نظرية الاستبدال العظيم إقناع الأفراد سريعي التأثر بارتكاب أنشطةٍ إرهابية، تنطوي على إطلاق نارٍ جماعي أو افتعال حوادث تنطوي على إصاباتٍ جماعية يكون فيها الضحايا أشخاص من ذوي الأقليات الملونة و/أو العقيدة. ومن المرجح أن تقع المزيد من أعمال العنف هذه إذا لم تكن هناك إدانة خاصة أو واضحة من جانب الجهات الفاعلة السياسية التي ينبغي أن تعلنها بطريقةٍ يسمعها أولئك الذين هم في أمس الحاجة إلى سماعها.
وفي ظلِّ وجود عددٍ كبير جدًا من القنوات التلفزيونية الرئيسة التي تدعم عن غير قصدٍ نظريةَ الاستبدال العظيم (مثل فوكس نيوز، وجي بي نيوز)، والعديد من المعلقين الذين يعزِّزون بشكلٍ فعّال أجندةً ذات ميولٍ يمينية، يقع الأفراد سريعو التأثر ضحية حلولٍ تبدو سهلة، تشرعنها في نهاية المطاف سياسات الأغلبية.
*يسعى موقعُ «عين أوروبية على التطرف» إلى نشرِ وجهاتِ نظرٍ مختلفة، لكنه لا يؤيد بالضرورة الآراء التي يُعبِّر عنها الكتّابُ المساهمون، والآراء الواردة في هذا المقال تُعبِّر عن وجهةِ نظر الكاتب فقط.