عين أوروبية على التطرف
في أعقاب الهجوم الإرهابي الذي قام به أحد أتباع اليمين المتطرف على مسجدين في كرايست تشيرش في 15 مارس، وأسفر عن مقتل 50 مسلمًا خلال أداء الصلاة، قام الرئيس التركي رجب طيب اردوغان بِتَوْظِيفِ هذه الحادثة لأغراض سياسية، حتى أنه أعاد عرض مقطع الفيديو الذي سجله القاتل، للجمهور، مما تسبب في أزمة دبلوماسية. هذا هو الموقف الأحدث الذي يقوم فيه أردوغان باستغلال المشاعر المناهضة للغرب.
والجدير بالذكر، أن البيان الذي نشره الإرهابي الذي نفذ هجوم كرايست تشيرش، برنتون تارانت، احتوى على ثلاث إشارات تخص تركيا الحديثة.
أولًا: حدد الدولة، إلى جانب الصين أو الهند -“أو مزيج بين الثلاث”- باعتبارها المصدر الأكثر احتمالًا لغزو أوروبا.
ثانيًا: أراد تارانت إقصاء تركيا من حلف الناتو، حتى يتسنى تشكيل “جيش أوروبي موحد”، بحيث تعود تركيا “مرة أخرى إلى وضعها الحقيقي كقوة أجنبية معادية”.
ثالثًا: دعا تارانت إلى اغتيال أردوغان لأن هذا من شأنه إضعاف نفوذ تركيا في أماكن مثل دول البلقان، و”التخلص من عدوٍ رئيسٍ لروسيا”، ومن ثمّ، السماح للروس -باعتبارهم ينتمون “للعرق الأوروبي”- بملء الفراغ. بالنسبة لتارانت، سيجلب هذا الأمر ميزة إضافية؛ وهي “زعزعة استقرار الناتو وتصدع أركانه”، نظرًا لأنه ينظر إلى الحلف بازدراء بسببِ جملةٍ من الأشياء، من بينها إنقاذ كوسوفو (المسلمة) من صربيا (المسيحية).
كما أشار تارانت إلى الإمبراطورية العثمانية، آخر وأضخم الخلافات الإسلامية، التي هيمَن عليها الأتراك. وأشار إلى “نصرٍ مُظفّرٍ” لنا “نحن -الأوروبيين-” عندما تم وقف الغزو العثماني للقارة ورده على أعقابه في فيينا في سبتمبر 1683.
وأرسل تارانت، أيضًا، رسالة إلى “الأتراك” كشعب، قائلًا إنه يجب تطهيرهم عرقيًّا من “القسطنطينية” (اسطنبول)، مدينة يجب على المسيحيين استعادتها، بحسب رأيه.
علاوة على ذلك، كتب على السلاح الذي استخدمه لارتكاب جريمته الفظيعة عباراتٍ صريحة تحمل إشاراتٍ متعددة للقادة الأوربيين في المعارك الرمزية بين العالم المسيحي والخلافة العثمانية، مثل معركة كوسوفو في عام 1389، والحملة الصليبية في نيكوبوليس في عام 1396، ومعركة ليبانتو البحرية في عام 1571، ومرة أخرى، حصار فيينا في عام 1683.
حمل بيان تارانت مصطلحاتٍ ذات دلالات حضارية صارخة، وكان أردوغان سعيدًا بالرد بالمثل.
في عام 1915، حاولت قوة عسكرية تابعة للإمبراطورية البريطانية، مُعظمها من الأستراليين والنيوزلنديين، تُعرف باسم فيلق أنزاك (فيلق الجيش الأسترالي والنيوزيلندي)، دون نجاحٍ، إخراج العثمانيين من الحرب العالمية الأولى بضربةٍ حاسمةٍ من خلال عملية إنزال في جاليبولي. وفي فعالية للاحتفال بذكرى هذا الاشتباك الدموي، بعد أيام من هجوم كرايست تشيرش، قال أردوغان إن أيَّ أسترالي أو نيوزلندي يأتي إلى تركيا حاملًا “النوايا ذاتها” سيلقى مصير “أجداده”، الذين عاد الكثير منهم في “أكفان”.
تسببت تعليقات أردوغان في جاليبولي في حدوث مشكلة دبلوماسية حادة مع رئيس الوزراء الأسترالي سكوت موريسون الذي قال: إن تعليقات أردوغان “عدائية للغاية.. ومتهورة للغاية”، وتمثل “إهانة لذكرى الأنزاك”، مضيفًا: أن “كافة الخيارات مطروحة” إذا لم يتراجع أردوغان عن تصريحاته. ووصل الأمر لدرجة أن أستراليا قد درست مراجعة التوجيهات الخاصة بالسفر لمن يرغبون في السفر إلى تركيا للاحتفال بذكرى يوم أنزاك في 25 أبريل، الذي يجذب آلاف الأشخاص كل عام.
بعد مضيّ أيام قلائل، التقى وزير الخارجية النيوزلندي بأردوغان على هامش اجتماع منظمة التعاون الإسلامي في إسطنبول، وقال إنه تمت إزالة “سوء الفهم”، ونزع فتيل الأزمة الدبلوماسية.
ومع ذلك، يمكن القول إن تعليقات أردوغان واستخدامه لمقطع فيديو هجوم كرايست تشيرش، كانت مقصودة تمامًا. غير أن الحكومة التركية سعت للتقليل من أهمية التصريحات باعتبار أنها حدثت “في لحظة انفعال.. في سياق انتخابي” يبدأ اليوم. ولكن هذا ما كانوا يريدونه، تحديدًا، إشاعة شعور بالتهديد الخارجي بين الأتراك، حيث يمكن اتهام معارضي أردوغان بالتعاون مع آخرين، ومن ثمّ، يتم تصوير أردوغان على أنه المُنقذ.
تضمن الفيديو الذي تم عرضه في المسيرات الانتخابية مقطعًا من مذبحة كرايست تشيرش تخلله حديث لزعيم المعارضة التركي كمال كليتشدار حول “تجذر الإرهاب في العالم الإسلامي”، وأوصل أردوغان الرسالة التي يريدها عبر قوله “السيد كمال له علاقات وثيقة بالإرهابيين!”، مضيفًا “هذا ليس حادثة معزولة” بل عمل “مُنظم”. واتهم أردوغان الغرب “بإعداد” بيان القاتل و”تقديمه له”.
لا شيء في هذا جديد على أردوغان، ففي عام 2017، قُبيل الاستفتاء الذي وسّع نطاق صلاحيات أردوغان، منعت ألمانيا الحكومة التركية من عقد تجمع انتخابي في الدولة، الأمر الذي يحظره القانون التركي. وردًا على ذلك، أعلن أردوغان أن “الممارسات الألمانية لا تختلف عن الممارسات النازية في الماضي”، مما تسبب في حدوث أزمة دبلوماسية بين البلدين.
وبعد ذلك بأسبوع، منعت هولندا عقد فعالية انتخابية نظمتها السلطات التركية في قنصليتها في روتردام، ورد أردوغان بقوله: إن ذلك يظهر أن الحكومة الهولندية تتألف من “بقايا النازيين والفاشيين”.
علاوة على هذه الحِيَل الانتخابية، دأبت حكومة أردوغان، التي تهيمن تمامًا على وسائل الإعلام في الدولة، على استغلال موضوع “صدام الحضارات” وغيرها من نظريات المؤامرة التي تضع الأتراك في مواجهة مع الغرب.
وهناك مسلسلات تلفزيونية مثل “قيامة أرطغرل” الذي يتناول الصليبيين المسيحيين الذين يحاولون تدمير تركيا، وهي قصة رمزية تكاد تكون مكشوفة للوضع الحالي الذي يسعى فيه أردوغان لتصوير أوروبا على أنها تسعى للحيلولة دون عودة تركيا ونهضتها. يحفل العمل الأدبي بمعاداة السامية، حيث يشير إلى أن اليهود يسيطرون على الغرب. ويستدعي أردوغان بشكل متكرر عبارات مجازية معادية للسامية، خاصة عندما يريد التهرب من مسؤوليته عن الأوضاع الاقتصادية السيئة.
ورغم أن الحكومة التركية قد أصبحت سلطوية بشكل متنامٍ، وأضحت حلبة التنافس الانتخابي غير عادلة على نحو صارخ بالنسبة للمعارضة، فإن عمليات التصويت ذاتها تتم بشكل عام بحرية، ولم يتم مطلقًا إثبات تزوير في الانتخابات.
في الوقت الحالي، من الصعب بمكان التكهن بمن سيفوز في الانتخابات التركية. وهناك أمل، لا سيما في الولايات المتحدة الأمريكية، في حدوث تحسن في العلاقات مع تركيا بعد انتهاء الانتخابات، عندما لا يكون أردوغان بحاجة إلى تهييج الرأي العام لزيادة إقبال الناخبين. غير أن المشكلات الأساسية التي تسبب الخلافات التركية-الغربية، لا سيما الدعم الأمريكي للميليشيات الكردية في سوريا التي تعتبرها أنقرة جماعات إرهابية، ستظل قائمة.