أعلن الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، في مؤتمر صحفي، صباح الأحد الماضي 27 أكتوبر 2019، أن زعيم تنظيم “داعش”، أبو بكر البغدادي، قد قُتل إثر غارة أمريكية في شمال سوريا، قبل قرابة ثماني عشرة ساعة. وبهذا ينتهي حكم البغدادي الذي دام ثماني سنوات ونصف على قمة الهيكل التنظيمي للجماعة الإرهابية. لكن الظروف المحيطة بالقضاء على البغدادي تثير عددًا من القضايا التي تتعلق بالسياسة المعقدة للحرب السورية ودور الغرب فيها. بالتأكيد سيتحول الاهتمام الآن إلى استشراف مستقبل داعش، وبالتحديد قدرته على مواصلة تمرده في “المركز”؛ أي في سوريا والعراق، وبقاء ولاياته في الخارج.
الغارة في سوريا
في خطابه، قال الرئيس ترامب إنه تم تعقب البغدادي وعُلم بوجوده في مجمع يقع في محافظه إدلب في شمال سوريا، قبل حوالي أسبوعين، وأنه فرّ إلى نفق تحت المبنى مع ثلاثة من أبنائه، بعد أن اقتحمت قوات المارينز المبنى عبر أحد الجدران تجنبًا لاستخدام الباب الأمامي المُلغم. وعقب محاصرته من قبل القوات والكلاب الأمريكية، قام البغدادي بتفجير سترته الانتحارية، فقتل نفسه والأطفال الثلاثة. وقال ترامب إن البغدادي قد “ماتَ مثلَ كلب”، مضيفًا أن الزعيم الإرهابي ظل “يصيح ويصرخ ويئن.. لقد كان مذعورًا ومصدومًا”. وأضاف ترامب أن القوات الأمريكية استخرجت ما تبقى من جثة البغدادي، وأجرت اختبارًا للحمض النووي في الموقع لتأكيد هويته باستخدام العينات المأخوذة منه في عام 2004 عندما قبع في السجن لفترة وجيزة في معسكر “بوكا” في العراق.
وذكر ترامب أن العديد من الجهاديين الآخرين في داعش قتلوا خلال العملية. وتشير مصادر محلية إلى أن أحد القتلى هو مساعد رفيع المستوى للبغدادي، يُدعى أبو سعيد العراقي. كما قال ترامب إنه تم اعتقال عدد من عناصر داعش، والاستيلاء على كمياتٍ هائلة من البيانات. وفي غضونِ ساعات، أفادت تقارير بأن المواطن السعودي الذي يعمل كمتحدثٍ باسم داعش، أبو الحسن المهاجر، لقي مصرعه في غارة أمريكية لاحقة في شمال سوريا، يُفترض أنها تمت استنادًا إلى المعلومات، التي استقيت من المصادر البشرية عبر الأشخاص الذين تم القبض عليهم و/أو الرقمية عبر المعلومات التي تم الاستيلاء عليها، خلال الغارة التي استهدفت “الخليفة”.
وتعهَّد ترامب بأن تواصل الولايات المتحدة مطاردة الإرهابيين الإسلاميين، ليس التابعين لداعش فقط بل التابعين لجماعاتٍ أخرى مثل تنظيم القاعدة. وذّكر ترامب جمهوره بأن حمزة بن لادن، الذي كان “يقول أشياء سيئة للغاية” عن أمريكا وحلفائها، قد قُضي عليه في وقتٍ سابق من هذا العام.
غير أن الأمر المثير للاستغراب هو تواجد البغدادي في سوريا، وليس في العراق، والأمر الصادم جدًا هو أن يُكتشف البغدادي في هذه المنطقة تحديدًا. ذلك أن إِدلب هي المحافظة الأخيرة في سوريا التي يسيطر عليها المتمردون المناهضون للنظام، والمناهضون للتنظيم، التي يهيمن عليها الجهاديون، وقرية باريشا التي عُثر على البغدادي فيها، تخضع لسيطرة فرع تنظيم القاعدة الذي أعيد تشكيله في سوريا، الذي يعرف باسم تنظيم “حراس الدين”. وتجدر الإشارة هنا إلى أن داعش والقاعدة “حراس الدين” في حالةِ حربٍ فعلية منذ سنوات عدة في سوريا، وأحرقتِ المجموعتان جميعَ الجسور الأيديولوجية التي تربط بينهما. وأقدم داعش على تكفير حراس الدين، وحكم بأنها ليست مشروعةً فحسب، بل يتوجب قتلُ أعضائها. فكيف يمكن أن يختبئ البغدادي في منطقةٍ تابعة لحراس الدين؟ يبدو أنه كان لدى داعش عنصر في الصفوف العليا في حركة حراس الدين التي وفَّرت مأوى للبغدادي. في بدايةِ الأمر، كان هناك اعتقادٌ بأن البغدادي يتخذ إدلب كنقطة عبور فقط، ولكن مصادر موثوق بها تقول إنه كان يقيم هناك منذ أشهر عدة.
ومع ذلك، إذا كان عنصر داعش في حراس الدين قد وفَّر المكان الآمن، فمن غير الواضح لماذا اعتقد زعيم داعش أنه سيكون آمنًا في إدلب، وهي منطقه تخضع لمراقبة العديد من الدول لدرجةِ أنها أضحت مقبرة للكثير من قدامى محاربي القاعدة البارزين، بما في ذلك النائب العام للتنظيم.
من سيخلفه؟
الأثر الفوري للقضاء على البغدادي، على عمليات داعش، غيرُ مؤكد. وسوف يعتمد جزئيًا على من سيخلفه. وقد ركَّز داعش، بشكلٍ كبير، على نسبِ البغدادي لقبيلة قريش، وهي المؤهلات التقليدية للخلافة. ومن المرجح أن يُطلب ممن سيخلفه أن يكون لديه هذا العنصر المؤهل للخلافة.
على الرغم من ذلك ، هناك زعيم محتمل بارز لديه نسب قريش غير مؤكدة. هذا هو “حاجي عبد الله”. اسمه الحقيقي هو محمد سعيد عبد الرحمن محمد المولى، المعروف بلقب “حجي عبد الله العفري”، ويعرف أيضًا باسم “عبد الله قرداش”. وعندما أضيف المولى إلى قائمة المكافآت من أجل العدالة التي وضعتها وزارة الخزانة الأمريكية في شهر أغسطس، أشارت إلى أنه كان “خلفًا محتملاً لزعيم داعش أبو بكر البغدادي”. كما وصفت وزارة الخزانة المولى بأنه “أحد أقدم مُنظري داعش، الذين ساعدوا في تبرير خطف وذبح وتهريب الأقلية الدينية الإيزيدية في شمال غرب العراق، ويُعتقد أنه يشرف على بعض العمليات الإرهابية العالمية للتنظيم”. وهناك بالفعل ادعاءات من فصائل داعش المنشقة بأن المولى تولى قيادة التنظيم عقب مقتل البغدادي.
بعد ذلك ، هناك قائدان محتملان من كوادر داعش العسكرية. مرة أخرى ، كلاهما من نسب قريش غير مؤكدة. الأول هو عبد الناصر. قد يكون اسمه الحقيقي طه الخويط. إنه متطرف ، وقاد اللجنة المفوضة ذات مرة. أدرجته وزارة الخارجية الأمريكية في قائمة الإرهابيين المعينين خصيصًا. والثاني هو معتز نعمان عبد نايف نجم الجبوري أو “حاجي تيسير” ، الذي كان مع داعش منذ البداية ، عندما كان يطلق عليه اسم القاعدة في بلاد ما بين النهرين. لقد صنع قنابل لداعش. عرضت الولايات المتحدة 5 ملايين دولار للحصول عليه.
من الأهميةِ بمكان، من حيث مدى الضرر الذي ستلحقه تصفية البغدادي بتنظيم داعش، بحث الطريقة التي سوف تسير بها عملية تنصيب خليفة جديد. إذا كان البغدادي قد عيَّن خليفة أو إذا كان لدى داعش عملية تنظيمية لاختيار الخليفة، ويلتزم بها، فإن التأثير قد يكون ضئيلًا جدًا. أما إذا تحولتِ الخلافةُ إلى صراعٍ بين الفصائل، فإن الأثر الإيجابي لاغتياله يمكن أن يكون أكبر بكثير، حيث يمكن أن تتضرر صورة داعش، وكذا انتشاره الأيديولوجي، وربما يقود ذلك لحدوثِ انشقاقاتٍ أخرى في صفوفه.
السيناريو المستقبلي
ركَّز تنظيم داعش على أنشطته في “المركز” في سوريا والعراق، ومن غير الواضح أن العوامل الهيكلية التي تغذي حملته ستتغير بسبب وفاة البغدادي. بل يبدو أن الاتجاه يسير في الاتجاه الآخر: الديناميات السياسية التي سمحت لداعش بالنمو في المقام الأول في العراق وسوريا -أي الدول التي كانت في وقتٍ واحد ضعيفة للغاية وشرسة للغاية- أصبحت الآن أسوأ مما كانت عليه قبل ظهور داعش. وهكذا، تمكَّن التنظيمُ من مواصلةِ تقدمه حتى بعد فقدان “الخلافة”. ورغم أن البعد السياسي هو الأكثر أهمية لأي جماعة متمردة، فإن هناك عوامل عسكرية قد سهَّلَت الطريق لداعش.
واصل داعش تحقيقَ مكاسب مطَّرِدة، كقوةٍ متمردة في وسط العراق وشماله، خاصة في المنطقة المحيطة بكركوك حيث دفعت قواتُ الأمن التي تقودها إيران القواتِ الكردية العراقية إلى خارج المنطقة في أواخر 2017. وهذه الفجوات في البنية التحتية الأمنية، أتاحت مساحة لنمو التنظيم.
توجد دينامية مماثلة في شرق سوريا، حيث تسيطر مجموعةٌ غير متجانسة من القوات على المنطقة. فمن جهة، يوجد الهيكل الحاكم، الهش لنظام بشار الأسد المدعوم من إيران. ومن جهةٍ أخرى، أتاح الغزو التركي الأخير لشمال سوريا مساحة أكبر لتنظيم داعش.
لقد أصبحت فروعُ داعش الخارجية -خاصة في أفغانستان ومصر- قوية جدًا. وتتلقى هذه القواتُ المتمردة “توجيهات كثيرة” من داعش، فضلًا عن المال، وقد أمدَّها داعش “المركز” بعناصر محنكة ومدربة تدريبًا جيدًا. ونظرًا لهذه الروابط العضوية التي تعزِّز قوة الولايات التي لا تتأثر بوفاة البغدادي، وحساب التكلفة مقابل العائد لجانبي المعادلة، من غير المرجح أن تضعف العلاقات بين داعش وشبكاته العالمية. بل على النقيض من ذلك، هناك مؤشرات على أن داعش سيوجه ضربات انتقامية ضد الدول الغربية.
وختامًا، لقد كانت هناك بعض التكهنات التي تقول إن البغدادي كان في إدلب لترتيب عملية اندماج مع عناصر من القاعدة. وربما كان هناك فصيلٌ من حراس الدين منفتح على هذا الأمر، لكن الشقاق مع تنظيم القاعدة عميق ودائم. ومن المتوقع أن يواصل داعش محاولة التفوق على تنظيم القاعدة، في خضم التنافس على تصدر المشهد الجهادي، وستكون العودة لشن هجمات في الخارج إحدى الطرق للتأكيد على استمراريته، عقب فقدان “خليفته”. وبما أن تنظيم القاعدة توقف عن شنّ مثل هذه العمليات منذ فترة، ولم يستأنفها بعد، فإنه سيكون من المفيد لداعش منافسته في هذا المجال.