رسلان طراد**
“إن الاتجار بالأسلحة هنا أسهل مما هو عليه في أجزاء أخرى من العالم. يمكننا الاعتماد على الحدود التي تعاني المشكلات والفساد – ليس لديك أي فكرة عن عدد الأبواب التي يمكن فتحها ببضعة آلاف من اليورو…….”، وردت هذه المقولة على لسان أحد العناصر الفاعلة في تهريب الأسلحة، لا يمكن الإفصاح عن اسمه، أشار إلى تجارة الأسلحة في البلقان وجنوب أوروبا. ماضي هذا الرجل، في حد ذاته، يعتبر دليلًا قويًا على ما يقوله، حيث عمل لفترة طويلةٍ في الأنشطة الإجرامية، من دون أن يكتشف. والأسباب التي تجعل هذه الشبكات الإجرامية بعيدةً عن الرقابة وليست تحت المجهر أن مسألة الاتجار في الأسلحة إلى أوروبا تُعد بالنسبة للسلطات المحلية أكثر تعقيدًا وصعوبة وخصوصية.
في السنوات الأخيرة، قِيل وكُتب الكثير عن تهريب الأسلحة من أوروبا إلى الشرق الأوسط وأفريقيا. وقد تسبب صعود تنظيم داعش ونشاطه في حدوث طفرة في التقارير والمقالات والتحقيقات حول كيفية وقوع الأسلحة في أيدي مجموعة أو أخرى. يمكن العثور على أسلحة كرواتية وبلغارية وروسية وغربية في الأسواق السوداء في الشرق الأوسط، حيث إن الأسلحة التي تُباع رسميًا من دول مختلفة تقع بسهولة في “القطاع الرمادي” بسبب الفساد أو الحملات العسكرية ذات النهايات السيئة.
الجريمة المنظمة في أوروبا وتهريب الأسلحة
ماذا يمكننا أن نقول عن تهريب الأسلحة إلى أوروبا؟ يبدو أن عدد المقالات والبحوث المتعلقة بهذه القضية أقلُّ بكثير. وتبين الاتصالات مع العديد من المصادر بشأن هذا الموضوع أن الشبكات الإجرامية في أوروبا تتطور باستمرار. وتدخل هذه الجماعات في تحالفات واتحادات مع جماعاتٍ إجرامية خارج الاتحاد الأوروبي، وأحيانًا من خلال وسطاء يتواصلون مع المنظمات الإرهابية في منطقة الساحل وآسيا الوسطى وغرب أفريقيا.
العولمة، في نسختها الحديثة اليوم، لا تختلف عن النسخة في العصور الوسطى أو العتيقة. الآن، كما في ذلك الوقت، تتخذ المجموعات الدولية إجراءاتٍ مشتركة من أجل الربح. ولا شك أن تطور قطاع الاتصالات اليوم، والأدوات الجديدة المتاحة لتبادل المعلومات، تجعل إنشاءَ مثل هذه التكتلات أكثر ربحية، وأكثر صعوبة في التوقف. وهناك اليوم ما يمكن أن يسميه المرء فضاء “دولي إجرامي“، تنشئ فيه جماعاتٌ من مختلف أنحاء العالم صلاتٍ مع بعضها بعضًا للتحايل على مختلف العقبات، لا سيّما القوانين، التي قد تقف حجرة عثرة أمام الأعمال التجارية.
تتبع هذه التحالفات الإجرامية الدولية نهجًا عدوانيًا في الضغط لتحقيق مصالحها، حيث تحاول الاستيلاء على الأراضي، والسيطرة على المدن، وفرض الضرائب حيثما ترى ذلك ضروريًا. ويتجلى ذلك بشكل خاص في أمريكا الجنوبية، والشرق الأوسط، ولكن توجد أمثلة مماثلة حتى في جنوب وشرق أوروبا، حيث تفرض المافيا سياساتها، مما يجبر السلطات المحلية على عقد علاقة تعاونية وفاسدة معها. وتشكل هذه التحالفات الإجرامية، بدورها، أحد مصادر دخل الجماعات الإرهابية، ونقاط الاتصال الرئيسة في هياكلها الأساسية اللوجستية لنقل النشطاء والأموال. “لا يهمني إذا كان شخصٌ ما عربيًا أو كرديًا أو فلمنكيًا. لقد عملنا مع جميع الجماعات.. الشيء الوحيد المهم هو الحفاظ على القواعد. ربما بعض الأشخاص المشبوهين قد عبروا طرقنا، ولكن هذه ليست مشكلتنا”، هكذا عبَّر المصدر.
ومنذ التسعينيات، تبلغ المؤسسات الأوروبية بشكل دوري عن احتمال وجود اتصالات بين الجماعات الإرهابية وجماعات المافيا الأوروبية. وبعد عام 2004، عندما وقع تفجير مدريد، اتضح أنه تم بفضل تحالف من هذا النوع، بين المافيا والخلايا الإرهابية، وقد تم تحويل قرابة 50,000 يورو إلى مدبري الهجوم. علاوة على ذلك، وبسبب هذه التحالفات، تسهم الجريمة المنظمة في توفير الأسلحة، والخدمات اللوجستية، وفرص السفر. وبهذه الطريقة، تعتمد الجماعات الإرهابية على العصابات الإجرامية المحلية في أوروبا للعمل بحرية في القارة. وقد قدَّم هؤلاء المجرمون وثائق مزورة وأسلحةً وخدماتٍ لوجستية، إلى خلايا داعش المسؤولة عن الهجمات التي وقعت في باريس وبروكسل، في عامي 2015 و2016.
يعود اختلاط الجماعات الإرهابية بالمافيا في أوروبا إلى فترة التسعينيات على أقل تقدير. وتشمل هذه الهياكل المتطرفين اليساريين، مثل حزب العمال الكردستاني، الذي جمع الموارد من خلال الشبكات الإجرامية في أوروبا لحربه على تركيا، والجماعات اليمينية المتطرفة؛ مثل الميليشيات الأرثوذكسية في البوسنة، وكلها استفادت من إمكانية الوصول إلى السوق السوداء. وفي كثيرٍ من الحالات، يكون الاتصال بين الجريمة المنظمة والجماعات الإرهابية صارمًا وله قواعده الخاصة.
التنظيمات الإرهابية وتجارة السلاح داخل أوروبا
بعد 11 سبتمبر، يتم احترام هذه القواعد أكثر من ذي قبل من أجل تجنب اكتشاف الإدارات الحكومية لها. ومن أهم جوانب هذا التعاون إنشاء قنوات المرور، التي تشكل بندًا رئيسًا في ميزانية جميع هذه الجماعات، وبالتالي فإنها تولى اهتمامًا جادًا بحماية تلك القنوات. فعلى سبيل المثال، شارك تنظيم القاعدة بشكل جدي في تأمين قنوات الكارتل الكولومبي الذي ينقل الكوكايين من أمريكا الجنوبية، عبر غرب أفريقيا، إلى البلقان وأوروبا. وتشير التقارير الأوروبية إلى أن تنظيم القاعدة متورط في الاتجار بالمخدرات، والأسلحة، والأحجار الكريمة، ولديه اتصالات بجماعات المافيا البلقانية والإيطالية.
ويُلاحظ العاملون التنفيذيون في الجماعة الإرهابية من ألبانيا والبوسنة إلى سويسرا وألمانيا وهولندا. وتقيم حركة الشباب، فرع القاعدة في الصومال، شبكة واسعة في الدول الاسكندنافية، حيث توجد جالية صومالية كبيرة، ولدى “تنظيم القاعدة في بلاد المغرب” الإسلامي اتصالات في إسبانيا بسبب قربها من الأراضي التي يعمل فيها التنظيم. ومن المافيا الإيطالية، مرورًا بالفوضويين اليونانيين، إلى الجماعات المتطرفة الشيوعية، وحزب العمال الكردستاني، لدى الجماعات من جميع أنحاء العالم ولاءاتٌ وتحالفاتٌ فوق وطنية، توفر قنوات للاتجار وفرصًا للتمويل. وتشمل هذه القنوات، في معظم الأحيان، الاتجار بالمخدرات والأسلحة، سواء كانت جرائم قتل مأجورة أو أعمالًا إرهابية.
وحقيقة أن الانتماء السياسي أو الإِثْنِي لا يهم في هذا المجال يعني نشوء شراكاتٍ غريبة. ففي فترة الثمانينيات، أدَّى ذلك إلى نشوء علاقات خطيرة بين مافيا كامورا؛ عصابة إجرامية في صقلية تحولت لجماعةٍ سرية، والإرهابيين الشيوعيين من الألوية الحمراء الإيطالية، وفي الوقت نفسه عملتِ العصابةُ الصقلية مع الجماعات الفاشية.
وحافظ الانفصاليون اليساريون، من الجيش الجمهوري الأيرلندي، على اتصالات مع منظمة ندرانجيتا؛ جماعة إجرامية منظمة في جنوب إيطاليا، التي كانت أيضًا ضامنة لتهريب الأسلحة إلى لبنان، دولة يهيمن عليها ميليشيا حزب الله الجهادي الشيعي التابع لإيران. زوّدت مافيا كامورا منظمة إيتا، التي تتألف من متمردين يطالبون بانفصال إقليم الباسك في شمال إسبانيا، بالذخيرة. وفى عام 2002، كشفتِ السلطاتُ الإيطالية عن وجود صلات بين جماعاتٍ إرهابية في شمال أفريقيا، ومنظماتٍ إجرامية إيطالية تتاجر بالمخدرات. وهناك أيضًا أدلة على وجود صلات مع جماعات في البلقان.
الفساد في أوروبا أحد مسهلات التهريب
قال عضو آخر سابق في عصابة مافيا في صريبا: “السياسيون يستفيد من أعمالنا. قدمنا لهم هدايا مرات عدة”. وقد عملت مجموعته في بلغاريا ومقدونيا وألبانيا وإيطاليا. وكثيرًا ما يتجنب هو نفسه الاعتقال من خلال التعقيدات الإدارية. والواقع أن الإدارة هي إحدى المشكلات التي تعرقل التحقيقات. كما أن الأخطاء في الوثائق، أو حتى عدم تبادل المعلومات بين الدول الأوروبية، تُمكّن هذه المجموعات من تطوير أنشطتها دون مشكلات.
وفي هذا السياق، يجب تحديد نوعين من التحالفات التي لها تأثير مباشر على الاتحاد الأوروبي. النوع الأول هو التحالفات التي تم تشكيلها داخل الحدود الأوروبية، ولها تأثير على أمن الدول الأعضاء، بما في ذلك المؤامرات الإرهابية. أما النوع الثاني من التحالفات، فينشأ خارج الاتحاد الأوروبي أو على أطرافه -دول البلقان واليونان وصقلية وإسبانيا- التي تشكل أيضًا تهديدًا لاستقرار الاتحاد الأوروبي. وإذا تحدثنا أكثر عن دول أوروبا الغربية، ينبغي إيلاء اهتمام لمنطقة تلعب دورًا مهمًا جدًا في مجال الأمن، ولكن ذلك من خارج اهتمام وسائل الإعلام: البلقان.
ووفقًا لتقارير وكالتي “فرونتيكس” و”يوروبول”، فإن دول يوغوسلافيا السابقة وبلغاريا، هي الشريان الرئيس الذي تمر عبره كمية كبيرة من المخدرات والأسلحة إلى الدول الاسكندنافية. ومن بين النقاط الأكثر حساسية هي الحدود اليونانية التركية، والحدود الصربية مع رومانيا. على هذه الطرق، التي أنشأتها الجماعات الإجرامية المحلية، يمر الإسلاميون من الشرق الأوسط أيضًا. والمشكلة الرئيسة هي أنه بمجرد دخولهم منطقة شنجن -التي أزالت الحدود بين دول الاتحاد الأوروبي- يمكن لهؤلاء الأشخاص الوصول إلى أي منطقة في أوروبا دون الحاجة حتى إلى القلق بشأن إظهار جواز سفر مزيف. ومن أجل تجاوز العقبات، تنشئ الجماعات الإرهابية اتصالاتٍ مع الجماعات الإجرامية في جنوب شرق أوروبا. وليس لهذه الطرق علاقة بتدفقات الهجرة أو بالاتجار باللاجئين، لأن الجماعات الإجرامية تستخدم أساليبها الخاصة، بما في ذلك رشوة ضباط الحدود.
هذه التحالفات تؤتي ثمارها. إذ تظهر التقارير الأوروبية وجود مشكلة متنامية وروابط متزايدة في الشبكات الإجرامية بين المغتربين من الجيل الثالث من البلقان، لا سيّما في الدول الاسكندنافية. وفي عام 2013، كشفت الشرطة البلغارية عن قناة للاتجار بالأسلحة من بلغاريا إلى السويد وألمانيا. وقد كشفت أنه تم تهريب بنادق كلاشينكوف آلية وذخائر من مقاطعة ستارا زاغورا في وسط بلغاريا، عبر معبر كالوتينا الحدودي على الحدود الغربية مع صربيا. ولم يتورع المجرمون من استخدام حافلة ركاب في عمليتهم تلك. وفي حين لا يوجد دليل على أن هذه الأسلحة كانت موجهة إلى جماعاتٍ إرهابية، فقد أظهرتِ العملية الأمنية مدى اتساع شبكة الاتجار بالأسلحة، التي يسهُل استغلالها من قبل الإرهابيين، كما تبين في باريس وبروكسل مؤخرًا، وفي مدريد قبل خمسة عشر عامًا.
قلق أوروبي مستمر من تهريب الأسلحة
في عام 2017، ظهر دليل آخر على حجم المشكلة من خلال الحملات التي نفَّذتها الشرطة في إسبانيا، التي تمكنت من تفكيك قناة للاتجار بالأسلحة إلى إحدى عشرة دولة أوروبية، وتم مصادرة 664 قطعة سلاح، واعتقال أكثر من 240 شخصًا. كما كشفت العملية الأمنية عن أن بعض المحتجزين من مواطني رومانيا وبلغاريا، كانوا يشترون أسلحة مقلدة ويحولونها إلى أسلحةٍ نارية في مصانع في إسبانيا. وبمجرد أن يتم تجهيز الأسلحة، كان يتم عرضها في السوق السوداء في أوروبا. وخلال الحملة الأمنية ضُبط أكثر من 34,000 رصاصة، وقنابل يدوية، وأجهزة كواتم صوت تستخدم في الأسلحة.
ثمة مثال آخر يأتي من مالمو، مدينة في شمال السويد، تعاني جرائم العنف أكثر من أي منطقة أخرى في الدولة، وذلك وفقًا لدراسةٍ استقصائية أجراها “المجلس الوطني السويدي لمنع الجريمة”، في شهر يونيو. وأحد الأسباب الرئيسة لذلك هو استيراد الجماعات الإجرامية البلقانية لكميات متزايدة من الأسلحة. وتقول الشرطة السويدية إن المتفجرات المستخدمة في المدينة، أصبحت أكثر قوة في السنوات الأخيرة.
وفي الفترة من عام 2015 إلى عام 2017، كانت الانفجارات تنجم في المقام الأول عن قنابل يدوية من مخلفات الحرب الأهلية في يوغوسلافيا السابقة. أما في عام 2018، فقد تمت التفجيرات في المقام الأول باستخدام منتجات ألعاب نارية تسمى كوبرا 8 (Cobra 8) تصنعها شركة (Di Blasio) الإيطالية. وقد نفذ أعضاء في جماعات البلقان واحدة من أكثر الهجمات دموية، واستخدموا بندقية من طراز AK-47 مهربة من جنوب شرق أوروبا. ورغم أن الصلات بين الجماعات الإجرامية واضحة بالنسبة للشرطة في مالمو، وأن هذه الأسلحة كلها غير قانونية في السويد، فلا يزال من السهل شراؤها بسهولة عبر الإنترنت وتهريبها من خلال هذه الشبكات القائمة بين الوافدين الجدد. وقد أصبحت مشكلة الاتجار بالأسلحة مصدر قلق مما دفع دوائر الشرطة الأوروبية لعقد اجتماعٍ في العاصمة البلغارية صوفيا، في أبريل 2018، لمناقشة خيارات ردع الاتجار بالأسلحة الصغيرة والذخائر إلى أوروبا.
داعش وحزب الله والجريمة المنظمة في أوروبا
صعود داعش دفع -إلى حدٍّ ما- المسؤولين الأوروبيين إلى التركيز على العلاقة بين الجريمة المنظمة والإرهاب. وكان داعش قد اتخذ خطوات مهمة لتنويع موارده المالية. وبالإضافة إلى تجارة النفط المتواضعة بالتعاون مع الحكومة السورية، زاد التنظيم من دوره في بيع المخدرات والأسلحة. وأنشأ الجهاديون شبكةً من خلال قنوات أفريقية عبر فروعهم في ليبيا ونيجيريا، تمتد إلى آسيا عبر فرعهم الأفغاني، وعبر فروعهم اليمن.
وقد أقامت شبكات داعش على الكتلة الأرضية الأوروبية الآسيوية روابط مع النظام الدولي الأوسع لتوزيع المخدرات، حيث يعمل وكلاؤها في أماكن بعيدة تصل إلى نصف الكرة الغربي، في ترينيداد وتوباجو، وفي المكسيك، ومع الكارتلات في كولومبيا، لتهريب المخدرات عبر المحيط الأطلسي إلى الصحراء الغربية. وبصرف النظر عن التعاملات القذرة فيما يتعلق بتجارة الكوكايين والهيروين، يواصل داعش المشاركة بنشاط في تهريب الآثار من جميع الدول التي يحتفظ فيها بوجود نشط، سواء يتم الاعتراف بها أم لا: أفغانستان، سوريا، العراق، لبنان، مصر، الصومال، اليمن، ليبيا، نيجيريا، الفلبين، والهند.
ويجب أن نضيف اتجاهًا جديدًا إلى قائمة الأنشطة الاقتصادية هذه. فمنذ عام 2017، حصل داعش على أصول مالية من العراق وسوريا تصل إلى 400 مليون دولار على الأقل. وقد أُعيد نحو نصف هذه الأموال في شكل استثمار تجاري قانوني من خلال وسطاء الجماعة الذين لا يشكلون رسميًا جزءًا من التنظيم نفسه. وفي مقابل تحقيق أرباح هائلة، يلتزم الأفراد والشركات ذات الصلة بإنفاق نسبة كبيرة من إيرادات مبيعاتها لملء خزائن داعش.
الجانب الأكثر شيوعًا هو مكاتب الصرافة، ومطاعم الوجبات السريعة التي تمثل حصة الأسد من استثمارات الجهاديين. وبالطبع، هذا التكتيك معروف منذ وقتٍ طويل للتنظيمات الإرهابية التي تنفذه منذ الحرب الباردة في الدول الشرقية والغربية، ويتم تنفيذ هذا النشاط منذ عام 1990 وهو جزء من تمويل جميع التنظيمات الرئيسة، بما في ذلك “حزب الله”، وتنظيم “القاعدة”.
إن إبرام ما يُسمى “الصفقات الرمادية” لا يحدث فقط في الشرق الأوسط. ففي الفترة ما بين عامي 2015 و2017، تُظهر سلسلة من التقارير من أجهزة الأمن الأوروبية أن تنظيمي داعش والقاعدة قد عززا بشكل كبير صلاتهما بالمافيا المحلية، والهياكل غير القانونية في أوروبا، وتمكنا من جذبها إلى شبكتهما الاقتصادية العالمية. ورغم أن تهريب المخدرات والأسلحة إلى أوروبا هو مشروع أكثر تعقيدًا وخطورة بكثير مما هو عليه في الشرق الأوسط، فإن داعش قد أقدم عليه. ويجب على الاتحاد الأوروبي، لا سيّما الدول الحدودية -إيطاليا واليونان وفرنسا وإسبانيا وبلغاريا – أن يعزِّز من عملية رصد الهياكل الإجرامية الداخلية، وأي روابط دولية لديهم، للتقليل إلى أدنى حد ممكن من نجاح الجهاديين في هذا المجال.
وقد حثَّ الاتحادُ الأوروبي الدولَ الأعضاء على مراقبة تورط “حزب الله” في الجريمة المنظمة في القارة. “أشاهد التليفزيون وأطالع الأخبار -أرى التدابير المتخذة ضد نشاط المنظمة. ويمكنني أن أقول لكم إن إدراج المنظمة على قائمة الإرهابيين لن يوقف النشاط وقنوات المرور- بل إن المنظمة أكثر نشاطًا في أمريكا الجنوبية والبلقان”، وذلك وفقًا لما قاله شخص مطلع على أنشطة حزب الله في بلغاريا، وساعد المنظمة في الماضي في إقامة شبكات محلية في البلقان. وفي الآونة الأخيرة، انضمت بريطانيا والأرجنتين إلى الدول التي أضافت الجناح العسكري لحزب الله إلى قائمة الجماعات الإرهابية، ولكن ليس هناك ما يشير إلى أن أعضاء المنظمة أصبحوا أقلَّ فعالية.
ورغم أن معظم الحديث حول تهديد الإرهاب المحلي في أوروبا ينصب على الجهاديين، لسببٍ وجيه، فإن الميليشيات التي تتآلف من المواطنين المحليين التي بدأت في الظهور تشكل مشكلة خاصة في حد ذاتها. ففي شهر يوليو، كشفت السلطات الإيطالية عن “مخبأ ضخم للأسلحة -بما في ذلك “26 بندقية و20 نُصل (سونكي) بندقية و306 قطع غيار أسلحة [مثل] كاتمات الصوت وأجهزة الرؤية التي تُزود بها البنادق، وأكثر من 800 رصاصة”- يمتلكها مسلحون من النازيين الجدد.. ومن بين الأسلحة التي تم اكتشافها بحوزة المقاتلين اليمينيين المتطرفين صاروخ جو-جو من طراز ماترا فرنسي الصنع، كان يخص القوات المسلحة القطرية، مما أثار تساؤلات حول مسؤولية الدوحة في تعاملها مع الأسلحة التي تستوردها وممارساتها في مبيعات الأسلحة. ويميل الخبراء إلى الاتفاق على أنه من غير المرجح أن تكون قد قطر قد زوّدت النازيين الجدد بالصاروخ بصورة مباشرة. ومن المحتمل أن يكون الصاروخ قد انتهى به المطاف في السوق السوداء، حيث تمكنت المجموعة من الاستحواذ عليه”. ومهما يكن من أمر، تؤكد هذه الحالة الاحتمالات المتاحة للجماعات التي لديها وفرة من المال: لقد أصبحت الصواريخ، بل وحتى المواد السامة، في متناول أيديها.
إمكانية قيام الجماعات المتطرفة المحلية في أوروبا بتطوير شبكات تهريب الأسلحة في تنامٍ. وقد أظهر تحقيق نشره موقع ” Bellingcat“، أجريتُه أنا وزميلي كيريل أفراموف، في شهر مايو، أن هناك بعض الروابط بين الجماعات اليمينية المتطرفة في أوروبا الغربية، والقوميين في البلقان، والميليشيات الموالية لروسيا في بلغاريا. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الجماعات تجري مراسلات نشطة بل وحتى تدريبات عسكرية مشتركة. وقد كانت إحدى نتائج هذا التعاون هي العمل الإرهابي في كرايستشيرش، نيوزيلندا، حيث قتل شخص يميني متطرف خمسين شخصًا في مسجدين محليين. ويمكن رؤية السلاح المستخدم في الهجوم في مقاطع فيديو ترويجية لمجموعة “BNO Shipka” القومية البلغارية. وتُجرى تدريباتٌ عسكرية في جبل سترانجا على الحدود بين بلغاريا وتركيا، باستخدام بنادق من طراز AR-15s، والتي يتم إنتاجها أيضًا في بلغاريا. كل هذا يدل عن وجود نشاط ضخم وشبكة أوسع بكثير مما تخيلته السلطات المحلية.
وبالطبع، كل ذلك يشير إلى اتجاهاتٍ شريرة. واليوم، يمكن لأي تنظيم أو زعيم ثري، بالأموال الكافية، شراء الأسلحة، بما في ذلك الأسلحة الثقيلة، والذخائر العسكرية. ولن يكون ذلك ممكنًا من دون وجود تحالفات دولية بين عصابات الجريمة المنظمة، والجماعات الإرهابية، والأوليجارك في الدول الاستبدادية.
وقد استخدمتِ الكارتلات في أمريكا الجنوبية غواصات سوفييتية باعتها عصابات قوقازية وروسية. وتنظيم القاعدة يحمي تدفق الكوكايين من البرازيل وكولومبيا إلى غرب أفريقيا. وهناك جماعات في البلقان تساعد الإرهابيين على الانتقال إلى أوروبا الغربية. ويستخدم داعش عصابات بلجيكية لإيصال الأموال والأسلحة إلى المتعاطفين معه. ويتم تزويد اليمين المتطرف الإيطالي بأسلحة من شبكات إجرامية تعمل من الشرق الأوسط وروسيا، في جميع أنحاء أوروبا. وتقوم عصابات ألبانية وصربية بقتل منافسيها في السويد ببنادق من طراز AK-47 مصنوعة في دول البلقان. وهذه الأمثلة لا تمثل سوى غيضٍ من فيض.
مما سبق يتضح لنا أنه من الصعب التصدي لهذا التهديد بصورةٍ فردية. بداية، يتعين على الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تعزيز تبادل المعلومات بين أجهزتها الاستخباراتية؛ بغية تحسين معرفتها بشبكات الجريمة المنظمة التي تجعل مثل تلك العمليات الإرهابية ممكنة. بيد أن سلسلة التحديات تتصاعد مع التقدم التكنولوجي. وقد استُخدمت القدرات السيبرانية المتاحة للجهات الفاعلة من غير الدول في تعطيل المؤسسات الحكومية والمالية. وأصبحت الطائرات بدون طيار، التي يتم شراؤها عبر الإنترنت، في أيدي جميع الكارتلات والجماعات الإرهابية تقريبًا، ما منحها قدرات المراقبة، وفي نهاية المطاف، قدرات الهجوم التي تفتقر إليها بعض الجيوش.
ومن الواضح أن أجهزة الأمن والاستخبارات في الاتحاد الأوروبي تحتاج إلى إعادة التفكير في الأساليب التي تتبعها للحيلولة دون تشابك هذه التهديدات وتجمعها. وفي الوقت الراهن، تُظهر عصابات الجريمة المنظمة قدرة أكبر على الابتكار وتُبدي أفقًا أوسع، في حين يبدو الخبراء وأجهزة الاستخبارات عالقون في التسعينيات.
(*) يسعى موقعُ «عين أوروبية على التطرف» إلى نشرِ وجهاتِ نظرٍ مختلفة، لكنه لا يؤيد بالضرورة الآراء التي يُعبِّر عنها الكتّابُ المساهمون، والآراء الواردة في هذا المقال تُعبِّر عن وجهةِ نظر الكاتب فقط.
(**) صحفي، ومحلل مختص بمنطقة البلقان وسوريا، وهو أحد مؤسسي مجلة De Re Militari Journal ، ومؤلف كتاب «جريمة قتل ثورة» المنشور في 2017.