يعود جذر البيعة في فضاء التداول العربي إلى “الصفقة التبادلية”، بمعناها الاقتصادي عند الفقهاء القدامى “إيجاب البيع”، ولاحقًا انتقلت الدلالة المفاهيمية إلى معنى الولاء والطاعة للسلطان أو الخليفة أو الأمير؛ عبر رمزية وضع اليد في يد المبايع.
وبهذا المعنى “صفة التبادل” في الطاعة والولاء والشرعية؛ وردت مفردة البيعة في النص: “إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ” سورة “الفتح- آية ١٠”.
تحوَّلت “البيعة” إلى سلطة مفاهيمية نافذة في الصدر الأول من تاريخ الإسلام المبكر؛ حيث حسم عبرها الخليفة الثاني عمر بن الخطاب نزاع السقيفة بعد موت النبي محمد، بقوله لأبي بكر “ابسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده، فبايعته”. توسَّع مفهوم البيعة لاحقًا ليشمل مفهوم منح الشرعية والاعتراف من قِبَل جماعة أو أشخاص لمَن يختارونه؛ بحيث يتمكن من قيادتهم، أو بحسب عبارة ابن خلدون “رمز تقليد السلطة”.
البيعة رغم جذورها التبادلية في الثقافة العربية قبل الإسلام في الحقبة التي توصف في الخطاب الإسلامي بـ”الجاهلية”؛ إلا أن تحولها إلى واحدة من أهم مقومات ترسيخ السلطة والاعتراف بها من قبل من الفئات الاجتماعية التي تلتزم من خلال عقدها بالطاعة وضمانة استقرار السلطة.
ولفهم سلطة “مفهوم البيعة” يمكن التأكيد أنه عبر مسيرة التاريخ الإسلامي؛ لم يولَّ أحد من الخلفاء إلا عبر آلية “البيعة” باعتبارها تقليدًا سنيًّا، في حين أن الشيعة يعتقدون أن الاختيار إلهي عبر آلية “التعيين بالنص” أو “الوصية” لواحد من آل البيت.
ارتبط بمفهوم أهل البيعة مفهوم “أهل الحل والعقد” الذي يوصف به أهل الاختيار الذين يُناط بهم تسمية “المرشح” ثم يتتالَى جمهور المبايعين؛ لاستكمال البيعة على خلاف طويل بين المدارس الكلامية والفقهية في عدد أهل الحل والعقد أو تعدد مراحل البيعة من “بيعة الخاصة” إلى “بيعة العامة”، ولاحقًا أُضيفت قيود جديدة بعد الصدر الأول من تاريخ الإسلام على مفهوم البيعة؛ مثل “تجديد البيعة” من قِبَل الأمويين كنوع من الاستدامة للشرعية.
عرفت التنظيمات السريّة والمسلحة في العصر الحديث مفهوم البيعة لكن بمعانٍ متباينة أكثر تجذرًا من البيعة الشرعية؛ فهي من جهة قامت بتحوير مفهوم “البيعة” المتصل بالسلطة السياسية والفضاء العمومي إلى البيعة للتنظيم والجماعة بمعنى مزدوج تراثي وحديث العضوية الحزبية بطابعها السّري الخاص والتي تقتضي الطاعة المطلقة لقيادة الجماعة، ورفض الاندماج في جسد الدولة الوطنية الحديثة، وتم التنظير في أدبيات تلك الجماعات بالبيعة الخاصة في حال عدم وجود شرعية دولة الخلافة، وحتى في التنظيمات ذات الطابع السياسي كالإخوان المسلمين تم استيراد مفهوم البيعة بالمعنى التنظيمي “بيعة أمير السفر” بشكل ملتبس يجعلها تخرج من مأزق البيعة الشرعية التي لها تبعات رغم أن البيعة التي تؤخذ من كوادر الجماعة هي ذات البيعة المتضمنة مفهوم منح السلطة والطاعة والولاء ، وهو ما يمكن العثور عليه في أدبيات جماعات الإسلام السياسي. وتعد جماعة الإخوان من أوائل الحركات المعاصرة المستخدمة لمفهوم البيعة، بحسب حسن البنا مؤسس الجماعة (1928)، الذي نظَّر للبيعة في رسالة التعاليم ضمن مجموعة الرسائل، ووضع لها عشرة أركان؛ هي: الفهم والإخلاص والعمل والجـهــاد والتضحية والطاعة والثبات والتجرد والأخـوَّة والثقة، بل وسَّع مفهوم البيعة إلى ما يشبه التضحوية التي تأسست عليها التنظيمات الشمولية الراديكالية؛ كالشيوعية والنازية، بالانصهار في الحزب على طريقة “التجنيد”؛ حيث يؤكد أن العضو في الجماعة يجب أن يتلبَّس “اطمئنان الجندي إلى القائد في كفاءته وإخلاصه اطمئنانًا عميقًا ينتج الحب والتقدير والاحترام والطاعة”. وعلى الكادر، بحسب البنا، “مقاطعة المحاكم الأهلية وكل قضاء غير إسلامي، والأندية والصحف والجماعات والمدارس والهيئات التي تناهض فكرتك الإسلامية مقاطعة تامة”.
وعلى خطى “الإخوان” تلقَّف باقي تيارات الإسلام السياسي والتنظيمات الجهادية مفهوم البيعة وتم تطويره؛ حتى وصلنا إلى نموذج “داعش”، وما عُرف بـ”البيعة الإلكترونية” التي ترسل إلى الأفراد عبر وسائل التواصل الاجتماعي؛ للانخراط عن بُعد في أيديولوجية الجماعة، كما أن البيعة أيضًا تضمَّنت مفهومًا جديدًا في التيارات المسلحة ما بعد “القاعدة” يتضمن نقل الولاء من تنظيم إلى آخر والاندماج فيه عبر مبايعة الأمير ومَن وراءه؛ كما حدث في بيعة بوكوحرام وتنظيم “المرابطون” في شمال إفريقيا لـ”داعش”، ولا يكفي أن تصدر البيعة من قِبَل تنظيم مسلح حتى يقبل التنظيم الأم بالبيعة، كما حدث مع تعليق تنظيم داعش بيعة أبي سياف الأنصاري القيادي القاعدي في طرابلس للبنان بعد أن قام بالمبايعة للبغدادي في تسجيل صوتي، الذي طلب منه الانتظار، وبإزاء ذلك تضمنت الاعترافات وسير المراجعة لدى العائدين من مناطق التوتر، أن تنظيم داعش كان يجبر المنضمين الجدد على “البيعة” بشكل قسري بعد سحب جوازات سفرهم.
عرف “القاعدة” مفهومًا مغاليًا للبيعة تم اقتباسه من مدونات نصوص الجهاد، حيث تم نشر صيغة بيعة لزعيم التنظيم أسامة بن لادن، في شبكة البراق على الإنترنت أُطلق عليها “بيعة الموت” أو “الياسا”، وتمت برمجتها أون لاين؛ لجمع أكبر عدد من المنخرطين تحت لواء “القاعدة”، وأطلقت في شهر ربيع الأول (المولد النبوي)، وأعلن المبايعون أنهم على أتم الاستعداد للتضحية بالنفس ضد الحرب العالمية التي يقودها “القاعدة” ضد الصليبيين، بحسب توصيفهم.
يمكن الاستزادة بالاطلاع على التالي:
- مدونات الأحكام السلطانية.
- البيعة في الإسلام د.أحمد محمود آل محمود.
- رسالة التعاليم حسن البنا (ضمن المجموعة الكاملة).
- العمدة في إعداد العدة في سبيل الله، عبد القادر عبد العزيز، وفيه مبحث مطول عن الفرق بين بيعة العهود وبيعة الإمام.
- دعوة المقاومة الإسلامية العالمية لمنظر القاعدة أبي مصعب السوري.
- البيعة وأركانها، محمد أبو فارس، دار الفرقان، ط1، 2013
عن بيعة الإخوان:
- الإخوان المسلمون والانتشار العالمي ومفهوم البيعة والولاء، فخر أبو عواد، مركز الإمارات للدراسات.
- هناك العديد من المدونات الفقهية للتنظيمات الإرهابية والتيارات الجهادية حول مفهوم البيعة من أكثرها تداولًا: مقدمة في أحكام البيعة وشرعية الخلافة: أبو سلمان حسان الصومالي.