لم يكن هناك شك كبير في أن المحاكم التركية ستمنح الرئيس رجب طيب أردوغان ما يريد. في 10 يوليو- الموافق يوم جمعة بالطبع- قرر القضاء التركي السماح بإعادة تحويل آيا صوفيا إلى مسجد، وبعد ساعة أعلن أردوغان أن المبنى مفتوح للصلاة أمام المسلمين.
لنعود إلى التاريخ قليلًا. كانت الإمبراطورية البيزنطية وعاصمتها اسطنبول (أو القسطنطينية كما كانت تسمى وقتها) مجرد بقايا من الإمبراطورية الرومانية التي انهارت بعد اجتياح النصف الغربي في عام 476. كان الرومان قد تحولوا إلى المسيحية قبل 150 عامًا، وبُنيت آيا صوفيا لتكون كاتدرائية مسيحية في اسطنبول في الثلاثينيات من القرن السادس، أي قبل قرن من ظهور الإسلام. بعد ذلك بوقتٍ قصير، استعادت بيزنطة مدينة روما -بل ومعظم إيطاليا- واستعادت لفترة من الوقت معالم الإمبراطورية الرومانية القديمة. وبعد قرنين من الزمان، طُردت الإمبراطورية الرومانية/البيزنطية من إيطاليا مرة أخرى، ولكن البابا الكاثوليكي استطاع الاحتفاظ بالسيطرة على روما نفسها.
مع مرور الوقت، نشأت نزاعات إدارية ولاهوتية بين البابا الكاثوليكي الذي يتخذ من روما مقرًّا له والبطريرك الأرثوذكسي الشرقي الذي يتخذ من اسطنبول مقرًّا له. وقد تم إضفاء الطابع الرسمي على الانشقاق في العالم المسيحي في منتصف القرن الحادي عشر من خلال الحرمان الكنسي المتبادل بين الكنيستين الكاثوليكية والأرثوذكسية، وقد وضع صك الحرمان الكنسي الأرثوذكسي لطرد أسقف روما على المذبح في آيا صوفيا في يوليو 1054.
خلال القرون الأربعة التالية، كانت آيا صوفيا مركز العالم الأرثوذكسي، مع انقطاع نصف قرن من 1204 إلى 1261 خلال الاحتلال الكاثوليكي لإسطنبول بعد الحملة الصليبية الرابعة. في هذه الفترة، تحت ما يعرف باسم الإمبراطورية اللاتينية، أصبحت آيا صوفيا كنيسة كاثوليكية. غير أن الإمبراطورية البيزنطية المستعادة ظلَّت ضعيفة بشكل خطير، وظلت تتعثر طوال 200 سنة أخرى. منذ عام 1380، كانت بيزنطة تتكون من إسطنبول وبعض الأماكن الصغيرة فقط، وفي عام 1453 سقطت المدينة أمام تقدم الأتراك العثمانيين الإسلاميين.
قصة الاستيلاء العثماني على إسطنبول في مايو 1453 معقَّدة. على سبيلِ المثال، قام السلطان العثماني البالغ من العمر 21 عامًا، والمعروف في الغرب باسم “محمد الفاتح” والمعروف لدى الأتراك باسم “الفاتح”، بتوظيف مرتزقة مسيحيين للقيام بالمهمة الصعبة المتمثلة في القضاء على بيزنطة. ومع ذلك، كان التأثير السياسي -آنذاك ومنذ ذلك الحين- هو نفسه: صدمة للعالم المسيحي؛ لأن إحدى عواصمها القديمة قد سقطت أمام تقدم الإسلام. داخل المدينة، حوّل الفاتح آيا صوفيا إلى مسجد، وبقيت على هذا النحو، دليلًا على قوة الإيمان من جانب، وصلابة البلاط الإمبراطوري، وصولًا إلى نهاية الخلافة في العشرينيات.
في أعقابِ الحرب العالمية الأولى، تم استبدال جمهورية علمانية بالإمبراطورية العثمانية؛ جمهورية حكمها مصطفى كمال أتاتورك، وهو ضابط في الجيش هزم البريطانيين في غاليبولي في عام 1915 ثم قاد حرب الاستقلال (1919-1923) التي طردت قوات الاحتلال المتحالفة. كان من بين الإصلاحات الأتاتوركية تحويل آيا صوفيا إلى متحف في عام 1935.
كان الهدف من تحويل أتاتورك لآيا صوفيا إلى متحف هو الحد من قوة القوى ذات الميول الإسلاموية داخل تركيا وكإشارة إلى الاتجاه الذي أراد أتاتورك رسمه لتركيا: دولة منفتحة وديمقراطية ومتعددة الأديان. ومن الواضح أن أردوغان يرغب، بعد أن قلّص الديمقراطية بالفعل، في إرسال إشارة معاكسة: إعادة تأكيد الهوية الإسلامية لتركيا، وسيادة عقيدة على العقيدة الأخرى.
الأمر المثير للاهتمام أنه في حين أن الرسائل على الصعيد المحلي كانت ديماجوجية، فإن أردوغان قد استخدم لهجة أكثر تصالحية في الخارج، ربما لمحاولة الحد من بعض الانتقادات، التي جاءت من جميع الاتجاهات: ألمانيا واليونان وحتى البابا. وقد طمأن أردوغان في مكالمة هاتفية فلاديمير بوتين، أن “الوصول إلى ذلك الرمز الفريد للحضارة العالمية (أي آيا صوفيا) سيكون مضمونًا لجميع الراغبين في زيارته، بمن فيهم المواطنون الأجانب، وأن سلامة العناصر المقدسة لدى المسيحيين ستكون مضمونة”.
ومع ذلك، وعلى رغم كلِّ تطمينات أردوغان، فلا يمكن ضمان أن هذا العمل لن يشعل الفتنة في جميع أنحاء العالم، ويعزز روايات المتشددين والمتطرفين والإسلاميين واليمين المتطرف، الذين يرغبون في الترويج للصراع الحضاري والديني. وبالنسبة للإسلاميين، فإنها تلمح إلى استعادة الخلافة، وبالنسبة لليمينيين المتطرفين البيض، فهي فرصة للادعاء مرة أخرى بأن المسيحيين يقعون ضحايا لمثل هذه الأمور. هذا التأثير المكلف على الاستقرار الدولي يُفرض من أجل المصالح الأضيق لحكومة أردوغان، ومن غير المرجح حتى أن ينجح.
لقد كان هذا شكلًا من أشكال “الاستغلال الرخيص للشعبوية التافهة”، كما عبر لموقعنا د.دينيس ساموت، مدير “لينكس أوروبا”، والذي أضاف “إن هذه الخطوة سترضي بعض المتشددين في حزب العدالة والتنمية الحاكم الذي يقوده أردوغان”، ويمضي ساموت قائلًا إنها “صفعة على وجه العلمانيين وغير المسلمين، وعمل يهدف إلى تأجيج المشاعر كونها جزءًا من حرب أردوغان الثقافية”.
يضيف ساموت: “لقد تطلع أردوغان في السنوات الأخيرة إلى أن يصبح خليفة هذا الزمن، والحقيقة أنه بكم السلطات التي كدسها يمكن وصفه بالفعل بأنه سلطان العصر الحديث. يرغب أردوغان في أن يتطلع إليه جميع المسلمين طلبا للقيادة والتوجيه.. كانت هناك حاجة إلى لفتة للاحتفال بذلك، وعودة آيا صوفيا كمكان لصلاة المسلمين تخدم هذا الغرض”.
ولكن هل هذا القرار يعزز صورة أردوغان بين المسلمين [في جميع أنحاء العالم]؟!
الجواب على الأرجح لا. فمعظم الحكومات الإسلامية في العالم أصبحت حاليًا أكثر قلقًا من المتطرفين داخل مساجدها، ويرى ساموت أن أردوغان “بقراراته غير الحكيمة هذه، لم يحوِّل آيا صوفيا إلى رمز للانقسام بين المسلمين والمسيحيين فحسب، بل بين المسلمين والمسلمين أيضًا”.