مساء الأربعاء 19 فبراير 2020، أطلق رجلٌ النارَ على حانةٍ وكشكٍ في مدينة هاناو الألمانية، يتردد عليهما بشكلٍ رئيس زبائن عدد من المهاجرين، ما أسفر عن مقتل تسعة أشخاص وإصابة آخرين بجروح. وقعت أغلبُ الإصابات بين المهاجرين. بعدها قاد الجاني سيارته إلى منزله، وقتل والدته البالغة من العمر 72 عامًا ثم قتل نفسه(1). من جانبها، أعلنتِ السلطاتُ أن الجاني يدعى توبياس راتجين؛ ألماني الأصل ويبلغ من العمر 43 عامًا ولديه رخصة سلاح(2). وتولى مكتب المدعي العام الألماني على الفور التحقيق في الهجوم. تجدر الإشارة إلى أن المدعي العام هو الجهة المسؤولة عن التحقيق في الجرائم المتصلة بالإرهاب والتجسس وعدم الامتثال للقانون الدولي، ويمكنه أن يقرر بصورةٍ مستقلة تولي مسؤولية التحقيق حال الاشتباه أن الحادث له صلة بأحد هذه المجالات الرئيسة الثلاث التي تقع ضمن اختصاصات المكتب(3). وبما أن التحقيق لا يزال جاريًا، ينبغي توخي الحذر عند الحكم على المعلومات غير الكاملة المتاحة حاليًا للجمهور.
المهاجم ودوافعه
يبدو أن الدافعَ وراء ارتكاب الجاني لهذه الجريمة، مزيجٌ من الأيديولوجيا اليمينية ونظريات المؤامرة. أظهر التحقيق أن الجاني قبل تنفيذ هجومه، حمل على صفحته على الانترنت مقاطع فيديو عديدة، بالإضافة إلى نشره بيانًا يتكون من 24 صفحة. ويظهر في صفحته أيضًا صورة ذئب أبيض، في إشارةٍ على ما يبدو إلى نفسه باعتباره “ذئب منفرد”. ومع ذلك، يبدو أن مقطع فيديو بعنوان “تفسير” قد أُزيل من الموقع، ما يُعقِّد جهودَ البحث عن الدافع النهائي وراء تنفيذ الهجوم(4). ورغم أن رئيس نادي السلاح، الذي اشترى منه راتجين السلاح المستخدم في الحادث، نفى تفوه المهاجم بتصريحاتٍ يمينية متطرفة تنتقد المهاجرين علنًا، فإن البيان الذي نشره راتجين يؤكد نظرة عالمية تتسم بالبارانويا والمعتقدات المناهضة للهجرة(5).
من ناحيةٍ أخرى، يرى خبيرُ مكافحة الإرهاب بيتر نيومان، أن بيانَ الجاني مكتوبٌ بلغة ألمانية ممتازة، ويحتوي على دلالاتٍ تشير إلى حصوله على تعليمٍ جامعي. ووفقًا لنيومان، ينتمي الجاني إلى نوعٍ من المتطرفين الذين يختارون معتقداتٍ شديدة التطرف، وغير سائدة، مستقاة من مصادر متنوعة على الإنترنت، لتشكيل أيديولوجيتهم الخاصة. ويبدو أن هناك مؤشرًا واضحًا على أنه تبنى نظرة يمينية متطرفة للعالم. والجدير بالذكر، أنه قال في بيانه إن مجموعةً متنوعة من الدول ذات الأغلبية المسلمة، وكذلك إسرائيل، تحتاج إلى “إبادة كاملة”، وأن وجود بعض الأقليات القومية والجماعات العرقية “خطأ جوهري”(6).
وإلى جانبِ دوافعه اليمينية المتطرفة، يُعتقد أيضًا أن الجاني كان يخضع للمراقبة من قبل وكالاتٍ سرية، وظهرت عليه أعراض تشير إلى أنه يعاني مشكلاتٍ عقلية. بل إن البعض يرى أن البيان يتضمن دلالات على أن الجاني كان يعاني انفصامَ الشخصية. فلقد كتب، على سبيلِ المثال، عن سماعه لأصواتٍ، وأن أفكاره كانت تخضع لمراقبة وكالات الاستخبارات(7). ومع ذلك، يؤكد نيومان أنه لا يمكن استخدام قضايا الصحة العقلية لاستبعاد الدوافع السياسية. إذ يمكن أن يعاني الجناة مشكلاتٍ في الصحة العقلية، ولكنهم يكونون مدركين لما يفعلونه عند ارتكابِ هجومٍ بدوافع سياسية(8).
وعلى غرارِ بيان الإرهابي النرويجي أندرس بريفيك، لا يستخدم راتجين بيانه لعرض معتقداته الأيديولوجية وتبرير أفعاله فقط، ولكن أيضًا لسرد قصة حياته. وفي تعليقٍ له على موقع تويتر، يتكهن نيومان بأن الجاني ربما كان يتبنى أيضاً ثقافة إنسيل (Incel) أو ما يُعرف بالعزوبة غير الطوعية؛ لأنه يشكو من عدم العثور على شريكة حياته، وأن أجهزة الاستخبارات منعته من إقامة علاقة(9). غير أنه لا يُعرف على وجه اليقين حتى الآن ما هي الأسس الأيديولوجية للهجوم، ومدى شدة المشكلات العقلية التي يعانيها الجاني، وما إذا كانت لديه صلات بالمشهد اليميني المتطرف في ألمانيا أو في أي مكان آخر.
موجة من التضامن
اجتاحت موجةٌ من التضامن ألمانيا، في اليوم التالي للهجوم في هاناو، ونُظِّمَت العديد من الوقفات الاحتجاجية والمسيرات ضد الكراهية في العديد من المدن الألمانية، بما في ذلك هاناو. ففي برلين، على سبيلِ المثال، خرج الآلاف إلى الشوارع للتعبير عن تضامنهم مع الضحايا واستنكارهم لأي نظرة يمينية أو عنصرية أو متطرفة للعالم(10). وتحدثتِ المستشارة أنجيلا ميركل (الاتحاد الديمقراطي المسيحي) عن تضامنها مع الضحايا، قائلة إن “العنصرية والكراهية سمٌّ للمجتمع”. وعقدت مقارنةً بين هجماتٍ متطرفة يمينية أخرى في ألمانيا، بما في ذلك مقتل السياسي فالتر لوبكه، والهجوم على المعبد اليهودي في مدينة “هاله” الألمانية العام الماضي. وخاطب وزيرُ الخارجية هايكو ماس المتطرفَ مباشرة قائلًا “هذا ليس بلدك، هذا بلدنا”(11).
وإلى جانبِ التعبير عن الحزن والتضامن، انطلق سجالٌ حول التفسير السياسي للهجوم، والموقف المهيمن على الخطاب السياسي. ويواجه “حزب البديل من أجل ألمانيا” حاليًا انتقاداتٍ نتيجة للعنف في هاناو؛ لأنه نقل “نافذة أوفرتون” في ألمانيا (النافذةُ التي يمكن تحريكُها إلى اليمين أو إلى اليسار، عبر طيف الاختيارات والآراء المطروحة، والتي تحدد قبولها للرأي العام، وفي أي قضايا هناك، عادة مدى محدود من الآراء المقبولة لدى الرأي العام) إلى اليمين وجلب لغة المتطرفين اليمينيين مثل “الهجرة” أو “الأسلمة” إلى الخطاب السياسي الرئيسي.
وحذَّر نوربرت روبرت روتجن، السياسي في الاتحاد الديمقراطي المسيحي، من مغبَّة “النظر إلى الهجوم على أنه حادث منعزل. علينا أن نكافحَ السمَّ الذي أدخله حزب البديل من أجل ألمانيا وغيره إلى مجتمعنا”.
وذهب آخرون إلى أبعد من ذلك، حيث نظروا إلى حزب البديل من أجل ألمانيا باعتباره الذراعَ السياسي للإرهاب اليميني في الدولة، واقترح الحزبُ الديمقراطي الاجتماعي أن يقوم “المكتب الاتحادي لحماية الدستور” في ألمانيا، جهاز الحماية الدستورية، بمراقبة حزب البديل هناك(12). وقد نفى الأخير أي صلة بين سياسته والهجوم. وذكر زعيم الحزب ميوتين أن الهجوم لم يكن تطرفًا يمينيا أو يساريا بل “عمل رجل مجنون” واشتكى جولاند، السياسي من حزب البديل، من أن أحزابًا أخرى تحاول استغلال الهجوم لتشويه سمعة حزبه(13).
الخلاصة
من المتوقع أن يُجدِّدَ الهجومُ الذي وقع في هاناو النقاشَ حول العلاقاتِ السببية بين قضايا الصحة العقلية، ووجهات النظر العالمية المتطرفة، وأعمال العنف التي تشُنَّها الذئابُ المنفردة. ولكن الأمر الأكثر أهميةً على المدى الطويل، هو التأثير التراكمي للهجمات التي وقعت في ألمانيا، على مدى السنوات الماضية، وقدرتها على زيادة حالة الاستقطاب في الخطاب السياسي. يأتي هذا في وقتٍ يعاني فيه المناخُ السياسي في الدولة، بشكلٍ كبير، منذ تدفق اللاجئين في عام 2015 مع ارتفاعٍ جديد في سلوكِ التصويت بين الناخبين الذين ينتمون إلى يمين الوسط. لقد انتقلت نافذة أوفرتون حتى الآن إلى اليمين، بحيثُ تُغطِّي الأخبارَ اليمينية المتطرفة بانتظامٍ من قبل وسائل الإعلام الرئيسة، وأصبحت دينامية الاستقطاب تسحق ببطءٍ، ولكن بثبات، الوسطَ السياسي المعتدل.
ومع الأسفِ، فإن هذا لم يكن الهجومَ اليميني الأول في ألمانيا، ولن يكونَ الأخير. والسؤال الأهم الذي يطرح نفسه الآن هو إلى أي مدى سيتمكن صانعو القرار السياسي، والمجتمع المدني، من الصمود أمام قوة الطرد المركزي التي تجتاحُ المناخَ السياسي الحالي؟
*يسعى موقعُ «عين أوروبية على التطرف» إلى نشرِ وجهاتِ نظرٍ مختلفة، لكنه لا يؤيد بالضرورة الآراء التي يُعبِّر عنها الكتّابُ المساهمون، والآراء الواردة في هذا المقال تُعبِّر عن وجهةِ نظر الكاتب فقط.
**مستشارة في مكافحة الإرهاب في مؤسسة كونراد أديناور ببرلين
المراجع:
[1] Spiegel, Wie ging der Täter vor?, 2020 Retrieved from: https://www.spiegel.de/panorama/justiz/hanau-was-ueber-den-anschlag-in-hessen-benutzen-a-9c8b703a-b144-480d-ba80-66fdd65cb8e6
[2] Jansen, F. and Lemkemeyer S., Wer war Tobias Rathjen?, 2020 Retrieved from: https://www.tagesspiegel.de/politik/der-taeter-von-hanau-wer-war-tobias-rathjen/25566016.html
[3] Generalbundesanwalt (n.d.) Retrieved from: https://www.generalbundesanwalt.de/DE/Home/home_node.html
[4] Tweet by Rajan Basra https://twitter.com/rajanbasra/status/1230578404266827780
[5] Jansen, F. and Lemkemeyer S., Wer war Tobias Rathjen?, 2020 Retrieved from: https://www.tagesspiegel.de/politik/der-taeter-von-hanau-wer-war-tobias-rathjen/25566016.html
[6] Die Welt, Der Täter von Hanau sieht sein Publikum in der ganzen Welt, 2020. Retrieved from: https://www.welt.de/politik/deutschland/article206018319/Hanau-Taeter-sieht-sein-Publikum-in-der-ganzen-Welt.html
[7] Tuscheit, K., Es spricht vieles für eine Schizophrenie, 2020. Retrieved from: https://www.faz.net/aktuell/politik/inland/psychiaterin-es-spricht-vieles-fuer-eine-schizophrenie-16644002.html
[8] Stahl, B., Terrorismusexperte sieht beim Täter von Hanau Parallelen zu Breivik, 2020. Retrieved from: https://www.mainpost.de/regional/wuerzburg/Terrorismusexperte-sieht-beim-Taeter-von-Hanau-Parallelen-zu-Breivik;art735,10410086?wt_ref=https%3A%2F%2Fnews.google.com%2F&wt_t=1582239126931&wt_ref=https%3A%2F%2Ft.co%2FmZ1uZBIKcH%3Famp%3D1&wt_t=1582269055912
[9] Tweet by Peter Neumann https://twitter.com/PeterRNeumann/status/1230402281666949123
[10] Tweet by Moritz Wittler https://twitter.com/MoritzWittler/status/1230626003904536577
[11] Spiegel, Rassismus ist ein Gift, Hass ist ein Gift, 2020. Retrieved from: https://www.spiegel.de/politik/deutschland/angela-merkel-zu-hanau-rassismus-ist-ein-gift-hass-ist-ein-gift-a-05ab1b23-5ee1-456a-b337-9b0ea703d904
[12] Deutschlandfunk, Kampf um die Deutungshoheit nach Anschlag, 2020. Retrieved from: https://www.tagesschau.de/inland/afd-hanau-reaktionen-101.html
[13] Tagesschau, Breite Kritik an der AfD, 2020. Retrieved from: https://www.tagesschau.de/inland/afd-hanau-reaktionen-101.html