إلهام الطالبي**
في عام 2003 وقعت التفجيرات الإرهابية التي هزَّت مدينة الدار البيضاء، وأسفرت عن مقتل 45 شخصًا بينهم 11 انتحاريًا. وأظهرت التحقيقات أن أغلب المتورطين ينتمون إلى حي سيدي مومن، الذي ارتبط اسمه بالجريمة والتطرف، ويُعد من أكبر مناطق الدار البيضاء مساحةً حيث تصل إلى 45 كيلومترًا مربعًا، ويبلغ عدد سكانه 450 ألف نسمة، حسب إحصاء 2014، للمندوبية السامية لتخطيط. يقع حي سيدي مومن في ضواحي مدينة الدار البيضاء، ويُعتبر من أشهر هوامش المدينة، حيث كان في السابق قبلة للمهاجرين المغاربة القادمين من القرية، للاستقرار في أحياء الصفيح، مثل منطقة دوار السكويلة والرحامنة، وغيرها.
“أحتقر ذاتي”
حافظ أغلب السكان في الأحياء الصفيحية على نمط العيش القروي، برغم من أنّ المسافة بين حي سيدي مومن ومركز مدينة الدار البيضاء لا تتجاوز ساعة، بيد أنّ هناك فرقًا كبيرا على مستوى القيم ونمط العيش والسلوكيات بين مركز المدينة والهامش. وقبل أحداث 2003 لم يكن حي سيدي مومن يحظى باهتمام وسائل الإعلام أو حتى الأحزاب التي كانت تعتبره فقط وسيلة لحصد الأصوات الانتخابية.
يشعر الشباب في هذه الأحياء بالهوة بينهم وبين أبناء المركز، ومن بين هؤلاء من لم يسبق له أن خرج من فضاء الهامش، حتى في التواصل، يقول أحد أبناء حي سيدي مومن: “لا أستطيع التواصل مع الآخرين في مركز المدينة، أحس أنهم يتحدثون بلغة مُختلفة عني، أشعر بأني أحتقر ذاتي لأني عاجز عن أكون مثلهم”.
“الإحساس بالإهانة واحتقار الذات والشعور أنّ الآخر يرفضك، ولا يقبل بك لأنك من الهامش”، هكذا وصف لي بعض الشباب ممن يعيشون في حي مشروع السلام، الذي كان يعرف سابقًا بحي الصفيحي السكويلة، ما يشعرون به.
كيف يؤثر الهامش على السلوك الاجتماعي للشباب؟
تنقسم مدينة الدار البيضاء إلى قسمين؛ قسم يتضمن المكاتب والفنادق والإدارات ومراكز التسوق والمدارس العليا، وشقق ومنازل تليق بالسكن… والقسم الآخر المهمش والعشوائي، فأبناء هذا الهامش يجدون أنفسهم غرباء في مركز المدينة، باستثناء الفئة التي استطاعت أن تحصل على شهادات وتندمج في سوق العمل، وأيضًا من لديهم القدرة على تحدي تأثير الفضاء الهامشي على سلوك الاجتماعي للفرد.
أغلب المتطرفين ينحدرون من الهامش، ولدوا وترعرعوا في مجالات تفتقد لأماكن الترفيه والتعبير عن الذات، إذن كيف يؤثر الهامش على السلوك الاجتماعي للشباب؟ ولماذا ينحدر أغلب المتورطين في الإرهاب من الهامش؟
قبل أحداث 2003 كان شيوخ التطرف يُقيمون جلسات في المنازل ودور العبادة، وكان هناك مساجد في الحي الصفيحي دوار السكويلة خاصة بالمتشددين. وقد وجد شيوخ التطرف في حي سيدي مومن بيئة حاضنة للتطرف، وشبابًا يشعرون بالإقصاء واليأس، ويتوقون للهروب من واقعهم.
من جانب آخر، انتشرت ظاهرة تواصل هؤلاء المتشددين مع عددٍ من الشباب الذين يوصفون بالإجرام، أو ممن يقومون بسلوكياتٍ مجرمة، فكان الشاب يتحول بين ليلة وضحاها من منحرف يتعاطى المخدرات إلى مُتشدد، وفي مقابلتي مع حميد الذي عاش في دوار السكويلة خلال تلك الفترة، يقول: “عندما كانوا يجدون شابًا يتعاطى المخدرات كانوا يلتفون حوله، ويقنعونه بضرورة التغيير، وبأنهم سيدعمونه ويُساندونه لإيجاد حلول لجميع مشاكله، كان الشاب يتأثر بخطابهم، ويتحول من مُدمن إلى شاب متشدد حريص على حضور جلساتهم المغلقة، ووفيًا لأوامرهم”.
في هذه الفترة كان الشباب ينقسمون إلى مجموعاتٍ للنهي عن المنكر والأمر بالمعروف، وعندما كان يضبط أي شاب وشابة يمشيان معًا يتم ضربهما وتعنيفهما. لقد اختار شيوخ التطرف هذا الهامش البعيد عن مركز المدينة، حيث يشعر الشاب أنه أقل درجة، وأنّه مُهان ومجرَّد من كرامته.
شباب لا يقاوم الخطاب العاطفي
يطلق بعض سكان المركز على سكان الهامش عبارة “بوزبال”، وتعني القذارة والأقل قيمة، وهذا الوصف الإقصائي لشاب لم يختر مكان ولادته، هو الذي من شأنه أن يحدد نظرة البعض له، ونظرته لنفسه وأيضًا سلوكياته ومواقفه. وقد أدركت الجماعات المتطرفة جيدًا أن هذه الفئة من الشباب تشعر باليأس، ولن تقاوم أي خطاب عاطفي، يُشعرها بالانتماء إلى المجموعة والإحساس بالبطولة، وبأن ذلك العالم في الأحياء الراقية أو المركز هو الكفر، وبأنّهم يتعالون عن الجميع، وهم الأفضل لأنهم ينصرون الإسلام، على حد تعبيرهم.
هذا الخطاب الذي يشبه تعاطي المخدرات يخفف عنهم لفترة ويجعلهم يعيشون خارج الواقع، ويعوضون إحساسهم بالإهانة بإحساس آخر هو “السمو”، وأنّهم سينتصرون في الآخرة، ويعيشون في الجنة ذلك الفضاء الذي سيعوضهم عن بؤس الهامش والإهانة، ولن يتم ذلك إلا بتفجير أنفسهم والآخرين، والموت لأجل الحياة في مجال أفضل.
الشيوخ وصناعة الوهم
انتماء الشاب إلى الجماعة المتطرفة تُشعره بالأنا المفقودة في الهامش، وتمنحه السعادة واليقين بأنه البطل. لكن الشاب الذي نشأ في بيئة تتوفر على شروط الحياة الكريمة، ويستطيع التعبير عن ذاته، ويُدرك قيمة نفسه وحياته من الصعب أن يتأثر بهذا الخطاب. لقد نجح شيوخ التطرف في صناعة الوهم، فلا يختلفون كثيرًا عن تجار المخدرات؛ لأن الهدف هو تخليص هذا الشاب اليائس من واقعه ومنحه واقع آخر مزعوم أنه أفضل.
انتقل الشباب قبل أحداث 2003 الإرهابية من منحرفين إلى متطرفين، وتحولت بعض المنازل في الحي الصفيحي السكويلة إلى مكان للجلسات، “وتم استهداف الأطفال، والتأثير في عقولهم، لينتشر الحجاب في صفوف الفتيات الصغيرات، وإشعارهن بالذنب والخطيئة برغم من أنهن لا زلن صغيرات”، هذا ما جاء على لسان سلمى وهي شابة كانت ضحية هذه الجماعات المتشددة آنذاك. ووجد الخطاب المتطرف في الهامش أرضه الخصبة للتأثير على سلوك الفرد الاجتماعي، ليخرج الشباب في العشرينيات من عمرهم لتفجير أنفسهم.
تحول الأفكار والخطابات إلى فعل متطرف، تختلف من فرد إلى آخر، فهناك شباب عدة التفوا حول هؤلاء الشيوخ واقتنعوا بخطابهم المتطرف، لكنهم رفضوا ترجمته إلى فعل، وهناك من قرر أن يقتل نفسه والآخرين. وهذا ما يطرح فكرة أخرى، وهي فاعلية الذات الناجمة عن معرفة الفرد السيكو-اجتماعية وطبيعة إدراكه وتفاعله مع الخطابات، ما يجعل بعض الذوات تدفع أصحابها إلى التصدي لهذا الخطاب، وعدم ترجمته إلى فعل، وتجعل من أفراد آخرين ينتقلون إلى مرحلة التنفيذ بدون تفكير.
الهامش بين الجريمة والتطرف
مجال الهامش أثَّر بشكلٍ كبير على رؤية هؤلاء الأفراد لذواتهم وجعلهم يشعرون بأنهم الأقل، ويتجاوبون مع خطاب عاطفي يفتقد للعقلانية. وبعد أحداث 16 مايو 2003 الإرهابية، تسلط الضوء على حي سيدي مومن، وتوافدت وسائل الإعلام الدولية والعربية لإعداد تقارير عن الإرهابيين وعائلاتهم، وقررت الدولة المغربية حينها إطلاق مشروع لمحاربة دور الصفيح، ومنح السكان حقهم في الاستفادة من السكن اللائق. وانتقل السكان من الحي العشوائي إلى سكن لائق، لكن هل سيتأثر سلوكهم الاجتماعي ومدركاتهم بعد هذا الانتقال؟
حسب تقرير نشرته في موقع “دويتشه فيله عربي”، عن وضع حي سيدي مومن بعد أحداث 16 مايو 2003، فإن “الحي ما زال يفتقد لدور الشباب ومراكز التعبير عن الذات، للحوار والنقاش والاستماع، ويعد الحي من أخطر أحياء الدار البيضاء على مستوى انتشار الجريمة”1
فقبل عام 2003 تحول المجرمون ومدمنو المخدرات إلى متطرفين، وحاليًا تنتشر الجريمة، فالشباب بمجرد تركهم مقاعد الدراسة يجدون أنفسهم في الشارع فريسةً سهلة في يد تجار المخدرات وشيوخ التطرف. والإحساس بالإقصاء والدونية ما زال لدى أغلب الشباب هناك، ما يجعل منهم فرائس سهلة في يد الجماعات المتشددة.
الهامش يظل هامشًا حتى وإن انتقلت العائلات إلى بيوت إسمنتية وتركت الصفيح، ما دام خاليًا من فضاءات تحتضن الشباب وتدعمهم وتُشعرهم بقيمة ذواتهم، وبأنهم ليسوا أقل درجة من الآخرين، وأن قيمتهم لا يحددها المجال الذي يعيشون فيه.
* يسعى موقعُ «عين أوروبية على التطرف» إلى نشرِ وجهاتِ نظرٍ مختلفة، لكنه لا يؤيد بالضرورة الآراء التي يُعبِّر عنها الكتّابُ المساهمون، والآراء الواردة في هذا المقال تُعبِّر عن وجهةِ نظر الكاتب فقط.
**صحافية مغربية وباحثة في علم الاجتماع.
1-تقرير في موقع “دويتشه فيله عربي” (15 عاما عن هجمات الدار البيضاء… ما لذي تغير في حي سيدي مومن)
https://www.dw.com/ar/15-%D8%B9%D8%A7%D9%85%D8%A7%D9%8B–%D8%B9%D9%84%D9%89-%D9%87%D8%AC%D9%85%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%8A%D8%B6%D8%A7%D8%A1%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D8%AA%D8%BA%D9%8A%D8%B1-%D9%81%D9%8A-%D8%B3%D9%8A%D8%AF%D9%8A-%D9%85%D9%88%D9%85%D9%86/a-43803571