مرَّرتِ النمسا في الأسبوع الماضي حزمة تدابير قانونية من خلال السلطة التشريعية. وعلى الرغم من أن بعض المراقبين الخارجيين قد خصوا النمسا بالنقد، فإنهم يتجاهلون السياق الأوسع. تواجه جميع الدول الأوروبية، التي تعاني التطرف الديني، قضية ما إذا كانت الأدوات القانونية المتاحة حاليًا كافية لمجابهة المخاطر التي تواجه المجتمعات الحرة. وقد قرر عددٌ من هذه الدول، والنمسا إحداها، والسياسيون من جميع الأحزاب السياسية، أنهم ليسوا كذلك، وبالتالي تحركوا لإصلاح القوانين.
يوجد في النمسا دافع محدد لاتخاذ مثل هذه التدابير الأكثر تقدمًا، فلقد أصاب الهجوم الإرهابي الذي نفذه تنظيم داعش في فيينا في 2 نوفمبر 2020 المجتمع النمساوي بالصدمة. وبعد أيامٍ قليلة فقط من الهجوم، قررتِ الحكومة، التي تتآلف من حزب الشعب النمساوي الليبرالي-المحافظ، وحزب الخضر اليساري، تحت قيادة المستشار سيباستيان كورتس، أن هناك حاجة إلى إجراء تغييرات لمواجهة التحديات الجديدة.
لا تمثل الحزمة الحالية، قانون مكافحة الإرهاب، سوى جزءٍ من سلسلة التدابير التي نفذ بعضها بالفعل، وبعضها لم يُنفّذ بعد. تتضمن القائمة الحالية للتدابير في المقام الأول تغييرات في القانون الجنائي، وتغييرات في الإجراءات الجنائية، وفي نظام العقوبات، وتنظيم المحاكم. وقد أعلنت وزيرة العدل ألما زاديتش، لاجئة من البوسنة وعضو في حزب الخضر، عن حزمةٍ أخرى لا تزال قيد التقييم حاليًا.
ما الأشياء المخطط لها، ما الأشياء التي ستتغير؟
يتمثل جزء رئيس من التدابير الجديدة في تضييق الخناق على عمليات غسل الأموال، والتدفقات المالية الإجرامية، مع فرض عقوبات جنائية أشد صرامة وأوسع نطاقًا. وفيما تخضع بعض الجرائم الآن لعقوبات دنيا إلزامية؛ فقد تم توسيع نطاق العقوبات الخاصة ببعض الجرائم الأخرى.
فعلى سبيل المثال، تم تمديد سلطة الدولة في الوصول إلى الأصول المالية إذا اشتبه في أن المتهم حصل على تلك الأصول من خلال أعمال إجرامية. كما يُمنح القضاة خيار مصادرة الأصول إذا تعذر مقاضاة المتهم أو إدانته على الجرائم. ويتيح هذا التقدير القضائي الموسع مجالًا مهما للتصرف القضائي في حالة عدم اليقين بشأن مدى قانونية مصدر الأموال والأصول التي لا يستطيع المتهم أو لا يريد تفسير مصدرها.
وفي أعقاب تشديد تدابير تسجيل الصلات الأجنبية والتعديلات التي أجريت لم يعد بإمكان الوسطاء الإفلات من العقاب. بالإضافة إلى ذلك، تم تحديث قائمة الأصول لتشمل العملات الافتراضية.
الدافع الديني المتطرف كعامل مشدد للعقوبة في إصدار الأحكام
علاوة على ما سبق، يجري إدخال إصلاحاتٍ على القانون الجنائي لسدِّ الثغرات القائمة. إذ يتعين الآن تعريف طبيعة الحركة المتطرفة بحيث تشمل الطوائف التي تدعو إلى العنف، وإنشاء دولة دينية تحل محل الحكومة الشرعية. ومن ثم، سيصبح إنشاء مثل هذه الحركة الدينية المتطرفة التي تقود إلى أعمالٍ غير مشروعة، أمرًا يعاقب عليه القانون، وستعاقب الأعمال غير المشروعة بشدة أكبر. من جانب آخر، فإن القانون واضح جدًا في أن الأعضاء السابقين في أي جماعة من هذا القبيل، الذين انفصلوا عنها قبل أن يشاركوا في أعمال غير قانونية، لا يتعرضون لأي خطر قانوني.
ومن الأهمية بمكان أن نكون واضحين بالقدر ذاته فيما يتعلق بالأمور غير المشمولة في هذا القانون. لن يكون من غير القانوني تأسيس، والعمل مع، حزب إسلامي يسعى إلى تغيير نظام الحكم الحالي في النمسا إلى نموذج ديني يسترشد بالشريعة الإسلامية، شريطة ألا تقوم الجماعة بأي أعمال غير قانونية.
وضمن هذه التدابير أيضًا، سيتم فرض المراقبة الإلكتروني على الأشخاص الذين يخضعون للإفراج المشروط. وينبغي أن يبلغ جميع المساعدين ومقدمي الرعاية عن التقدم المحرز أو أي انتكاسة إلى السلوك الإجرامي. ويمكن تمديد فترة المراقبة، وإن كان القانون مُقيّد بدقة في هذا الشأن: يجوز فرض المراقبة الإلكترونية لمدة أقصاها عشر سنوات.
الإضافات الأصغر على قانون الإجراءات الجنائية تُخفض الحد الأدنى لتدخل مكاتب المدعي العام وتمكّن من عرض منتهكي القانون غير المتعاونين خلال فترة الاختبار أو في حالة عدم الامتثال لأوامر المحكمة، على السلطات القضائية. ومن المقرر أن يتم إدخال ما يعرف باسم “مداولات الإفراج” في نظام العقوبات. وينبغي عقد مداولات خاصة في القضايا إذا ما تم تعليق الأحكام المتبقية على الجرائم الإرهابية.
وتشمل التدابير الأخرى سحب رخصة القيادة كخيار للمعاقبة، وتعليمات بشأن السلوك، وفي الحالات المبررة، سحب الجنسية النمساوية للأشخاص الذين يحملون جنسية مزدوجة.
وأخيرًا، هناك تغييرات في القانون المعني بالإسلام، الذي نظّم في عام 2015 على وجه التحديد العلاقة بين الطوائف الدينية الإسلامية والدولة النمساوية، بهدف زيادة الشفافية. ومن المنطلق نفسه، ستخضع قائمة الأئمة والدعاة العاملين الآن لمتطلبات إفصاح أكبر عن الموارد المالية والاتصالات.
هل هذه التدابير مناسبة؟
سيتوقف الحكم على التدابير القانونية الجديدة في نهاية المطاف على كيفية تطبيقها. ففي الفترة التي سبقت سنّها، كانت هناك انتقادات من الجمعيات الدينية والمعارضة السياسية. وكان النقد السياسي موجهًا بالتحديد إلى تدابير مفردة، وليس إلى الإصلاحات في حد ذاتها؛ فهناك توافق واسع في الآراء في البرلمان حول الحاجة إلى إجراء تغييرات والشكل الواسع الذي ينبغي أن تتخذه التغييرات. غير أن المعارضة الدينية مسألة مختلفة.
لقد وصف التجمع الديني الإسلامي في النمسا (IGGIO)، وهي منظمة جامعة تضم أيضًا عددًا من الأعضاء المثيرين للجدل، أجزاء من القوانين بأنها “تمييزية”. وهذا لم يشكّل مفاجأة. واعترض مؤتمر الأساقفة النمساويين على إدخال مصطلح “الدافع الديني”، معربًا عن قلقه من أن يؤدي هذا إلى وقوع جميع المتدينين في دائرة الشك العام و”الوصم”. وكان هذا أيضًا متوقعًا إلى حد ما. أما ما لم يكن متوقعًا بالضرورة فهو أن انتقادات مؤتمر الأساقفة كان ينبغي أن تكون أوسع أفقًا من التجمع الديني الإسلامي. لقد أراد مؤتمر الأساقفة تطبيق وصف الإرهاب ذي الدوافع الدينية، بكل جوانبه المشددة، على المتعصبين المعادين للدين، حتى إذا كانوا هم أنفسهم غير متدينين. وربما يكون هذا هو السبب في عدم أخذ هذه الفكرة في الاعتبار.
يزعم القانونيون أن الإرهاب ليس حكرًا على دين محدد. وهذا صحيح. وهنا، يتعين اتباع نهج دقيق يتمثل في فهم الإرهابي ودوافعه الدينية؛ حتى نتمكن من إحباط المخاطر التي يشكِّلها دون ممارسة التمييز ضد جميع المسلمين. ومن ثم، فإن إنكار القانونيين لأي دافعٍ ديني ليس مفيدًا.
قوانين مكافحة الإرهاب النمساوية في ميزان المقارنة
النمسا ليست فريدة من نوعها في رؤية الحاجة إلى منحِ مؤسسات الدولة المزيد من الحقوق الدفاعية، كما أنها ليست فريدة من نوعها في تحقيق هذا في أعقاب هجوم إرهابي إسلاموي. ففي عام 2015، شدَّدت تونس قوانين مكافحة الإرهاب بعد الهجمات التي شنها داعش في مدينتي تونس وسوسة. وفي أبريل من هذا العام فقط، قتل متطرفان خلال عمليات للشرطة التونسية. وخلال إحدى العمليات، فجّرت امرأة نفسها مع ابنها الأصغر، الذي لا يزال طفلًا.
وقد كان المغرب، الذي يمتلك واحدة من أكثر سياسات مكافحة التطرف تطورًا في العالم العربي، من أولى البلدان التي تحركت مبكرًا لتشديد قوانين مكافحة الإرهاب، ويمكن القول إنه ذهب بعيدًا جدًا في ذلك، وفقًا لبعض منظمات حقوق الإنسان. وفي الوقتِ نفسه، أظهر المغرب كفاءة ملحوظة في مكافحة الإرهاب في الداخل، بل وقدّم معلومات استخباراتية حاسمة منعت هجماتٍ في فرنسا وألمانيا وإسبانيا (هذا ما نعرفه فقط).
من جانبها، أقرَّت سويسرا في شهر يونيو أشدَّ قانون صرامة في أوروبا لمكافحة الإرهاب. القانون الفيدرالي بشأن التدابير الشرطية لمكافحة الإرهاب هو أداة قانونية واسعة النطاق عن عمد، حيث يمكن بموجبه اعتبارُ نشر “الخوف والإرهاب” نشاطًا إرهابيًّا. ويجيز إلغاء حماية البيانات الشخصية جزئيًا. ويجيز للمحاكم فرض الإبلاغ عن مثل هذه الأنشطة كأمرٍ إلزامي، وفرض الإقامة المقيدة للحرية، وحظر الاتصال مع الآخرين. وتتمتع هذه التدابير بآلية مراجعة مضمنة: إذ لا يمكن فرضها إلا لمدة ستة أشهر في كل مرة، ويحق للشخص الذي يخضع لها أن يطلب مراجعتها في أي وقت. وتجدر الإشارة إلى أنه قد تم مراجعة عدد من القوانين المتعلقة بمكافحة الإرهاب في تلك الفترة.
على الطرفِ الآخر من هذا الطيف توجد ألمانيا، حيث ينص الإجراء القانوني الأكثر حدة، الموجود في المادة 18 من القانون الأساسي، على المصادرة المؤقتة للحقوق المدنية، وإن كان لم يُستخدم قط. وعلى الرغم من الضمانات المعمول بها لضمان استخدام المادة 18 فقط في ظروف الضرورة القصوى، فإن ما يعوق ألمانيا هو تاريخها إلى درجةٍ لا تمكنها من استدعاء مثل هذه التدابير حتى خلال حملة إرهابية مدمرة، مثل حملة “فصيل الجيش الأحمر” أو “عصابة بادر-ماينهوف” في السبعينيات، وهي جماعة شيوعية مدعومة من الاتحاد السوفييتي انخرطت في جرائم واسعة النطاق، ناهيك عن الإرهاب. والسؤال المطروح الآن هو هل تستطيع ألمانيا تحمّل تكاليف مواصلة السير في هذا المسار. فالمخاطر تتزايد وربما تكون التعديلات القانونية الطفيفة التي أجريت على القانون الجنائي في السنوات الأخيرة غير كافية.
الخلاصة
رغم أن الظروفَ التي تكتنف النشاطَ الإرهابي قد تختلف باختلاف الدول، فإن التحديات متشابهة، لأن الأساليب الإرهابية هي نفسها، وكذلك النوايا، أي تحقيق التغيير السياسي بالعنف. والميزة التي تتمتع بها الدول الدستورية هي أنها تستطيع تجربة مجموعة متنوعة من النُهج، ومن ثم التخلي عما لا ينجح منها، ونقل ما ينجح إلى الديمقراطيات الأخرى.
كما أن الإرهاب ظاهرة دولية، في نهاية الأمر، وينبغي أن تكون مكافحة الإرهاب كذلك: بمعنى أن الممارسات الفضلى يمكن أن تطبق في الدول الأخرى، والأخطاء التي ترتكب في دولةٍ ما لا ينبغي تكرارها في أخرى. وبهذه الطريقة، يمكن محاربة الإرهابيين بأقل قدرٍ من القيود على الحقوق المدنية وحقوق الإنسان. ورغم أن الممارسة العملية تظل خيرَ دليل، فإنه على الورق، يبدو أن النمسا تسير على الطريق الصحيح.