د. عبد الله فيصل آل ربح*
التقيتُ في سبتمبر 2002 بمحمد الشاب الأسمر الملتحي صاحب الوجه المبتسم. كان محمد؛ معلم مادة الأحياء، محبوبًا من طلاب الصف الأول الثانوي بمدرستنا. ترجع شعبية محمد إلى أسبابٍ أبعد من أسلوبه في التدريس والتعامل مع الطلبة، فالرجل كان يقدِّم برنامجًا فكاهيًا على إحدى القنوات الخاصة. لم يخطر ببال أحدٍ وقتها أن الأستاذ محمد شخصٌ متطرف. أتذكر أني سمعته في ديسمبر من ذلك العام يتحدث بحماسٍ، وبطموح مقبل على الحياة، عن أنه سيبدأ مرحلة الماجستير في جامعة الملك سعود في فصل الخريف 2003، لكنه بعد شهرين اختفى.
كان الجميع قلقين؛ الطلاب، الزملاء، والعائلة. وقتها، تناهت إلى مسامعنا بعض الشائعات حول سفر محمد إلى العراق للقتال ضد الغزو الأمريكي. كان من الصعب تخيل ذلك، رغم أننا جميعًا نعلم بنشاط بعض المتطرفين الذين يجنِّدون الشباب المتحمسين من أجل التسلل للعراق، وقتال قوات الاحتلال. وقتها كانت الحكومة السعودية تتعامل بحزم لوقف تسرب هؤلاء الشباب، ومنعهم من التسلل للعراق.
في 12 مايو 2003، هزَّ هجوم إرهابي العاصمة الرياض، وأسفر عن مقتل 27 شخصًا، منهم تسعة أمريكان وسبعة سعوديين، إضافة إلى إصابة 160 شخصًا. ووقتها أعلن تنظيم القاعدة مسؤوليته عن الهجوم. “لاحقًا أصبحت قصة هذه الهجمات مادة أساسية اعتمد عليها فيلم المملكة الذي أنتج عام 2007، بناء على نتائج تحقيقات مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي [بقيادة ديفيد ب.ميتشل]- حول هذه الهجمات. كان خبر الهجمة صادمًا بشدة، لكن وقعه على منتسبي مجمع الملك سعود التعليمي -المدرسة التي كنا نعمل بها- كان مضاعفًا، إذ إن أحد المعلمين بالمجمع كان من بين الانتحاريين الذين نفذوا تلك الهجمات الإرهابية، والأكثر صدمة أنه الأستاذ محمد صاحب الوجه المبتسم!
لقد قرر هذا المعلم الشاب، الذي كان يمتلك كل ما يطمح إليه أقرانه (الوظيفة والشهرة والمال)، ترك هذه الحياة الزائلة من أجل أن يظفر بالجنة. وقتها، كان السياق مشحونًا بكراهية الحياة الدنيوية، والتحفيز للاستشهاد والنعيم الخالد. اعتبر المتطرفون التعبئة ضد “الكفار” “جهادًا، حيث يرى أولئك “الجهاديون” أن المسلم “الحقّ” يجب أن يُقاتل “الكفار” أو أن يكون دائمًا مستعدًا لقتالهم، ولشرعنة ذلك الموقف، كانوا يستشهدون بالحديث النبوي القائل: “مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِهِ، مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ”.
هذا الاستخدام الانتقائي للنصوص الدينية لم ينجح فقط في تجنيد الجهلة، بل امتد نجاحه في تجنيد المتعلمين أيضًا. كان التركيز على الآخرة، والجنة مقابل الحياة الدنيوية الزائلة، دافعًا للعديد من أولئِك الشباب إلى القيامِ بأعمالٍ قتالية وانتحارية. فبينما يتطلع معظم الشباب إلى الاستمتاع بحياتهم، يرى المتطرفون أن الملذات الدنيوية إغراءات آثمة، وأنّهم إذا ما ضحوا بهذه الحياة -الزائلة- من أجل نصرة العقيدة، فستكون في انتظارهم متعة أبدية.
في العقد الذي أعقب هزيمة الاتحاد السوفييتي في أفغانستان، كان “الأفغان العرب” يتنقّلون بين مناطق التوتر والحروب، يقاتلون فيها الكفار، من يوغوسلافيا إلى الشيشان، ونفذوا في الوقت ذاته بعض العمليات الإرهابية في بلدانهم الأصلية، مثل السعودية ومصر. كانت المملكة مستهدفةً بقسوة من قبل أولئك المتطرفين العرب -الذين قاتلوا في أفغانستان- لسببين رئيسيين: كونها أرض الحرمين الشريفين، من جانب، وتحالفها الأمني مع الولايات المتحدة الأمريكية من جانب آخر. في الفترة 1990-1991، كان أولئك المقاتلون المتطرفون مستائين من قبول الحكومة السعودية المساعدة من الولايات المتحدة، وغيرها من الدول غير الإسلامية، من أجل حماية المملكة، وبقية منطقة الخليج من صدام حسين، إضافة لتحرير الكويت من الاحتلال.
في نهاية الثمانينيات، عكف هؤلاء المقاتلون العرب على إنشاء تنظيم “القاعدة” الذي شنّ سلسلةً من الهجمات الإرهابية طوال فترة التسعينيات، والتي بلغت ذروتها في 11 سبتمبر 2001. وقد أثارت الهجمات في نيويورك وواشنطن رد فعلٍ أمريكيًا حادًّا؛ استخدمه المتطرفون لحشد الدعم، وساعدهم في ذلك بعض الفظائع التي ارتكبت مثل تلك التي حدثت في سجن أبو غريب.
لقد كانت السنوات الثلاث التي تلت انهيار نظام صدام حسين في عام 2003 سنواتٍ صعبة بالنسبة للسعوديين، الذين كانوا يقاتلون على جبهتين: التصدي للهجمات الداخلية، والقبض على أولئك الذين كانوا يحاولون تنفيذ هجماتٍ خارجية في العراق. ومن أبرز الجهود السعودية لمكافحة التطرف كان إنشاء مركز المناصحة والرعاية في عام 2007، والذي “يهدف إلى إعادة تأهيل الجهاديين من خلال تصحيح فهمهم للتعاليم الدينية”.
لم يكن هذا الأسلوب في إعادة تأهيل السجناء ليفهموا الإسلام كدين سلام الطريقة الوحيدة لمكافحة التطرف. هناك العديد من الطرق الأخرى، بما في ذلك “العلاج النفسي والاجتماعي، وإضافة إلى تصحيح فهمهم غير المتسامح للإسلام”.
يقدم مركز الأمير محمد بن نايف للمناصحة والرعاية برامج مختلفة -تعليمية وتدريبية وثقافية ورياضية وخدمات- لخلق بيئة مختلفة عن بيئة السجن المعتادة، بيئة أكثر انسجامًا مع النتائج العلمية حول سبل تعظيم فرص إعادة التأهيل. تقود هذه الجهود مجتمعة إلى تحقيق الهدف النهائي، وهو دمج السجين تدريجيًا في المجتمع من خلال تحقيق توازن فكري ونفسي واجتماعي له.
وقد أوضحت الحكومة السعودية أنها ترحب بانضمام أي شخص شارك في أنشطةٍ متطرفة إلى برنامج إعادة تأهيل المتطرفين، واحتسابها ضمن مدة المحكومية في السجن. حيث إن الخضوع لهذه البرامج لا يسقط العقوبات القضائية ضدهم.
يعتبر إنشاء “المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرف”، الذي يُعرف اختصارًا باسم “اعتدال“، خطوة بارزة في جهود مكافحة التطرف في المملكة. يعمل هذا المركز على مواجهة الأيديولوجية المتطرفة وفضحها ودحضها بالتعاون مع الحكومات، والمنظمات غير الحكومية المعنية بهذا الأمر. ويعكس تأسيس “اعتدال” الإجراءات الجادة التي اتخذتها الحكومة السعودية للتعاون مع المجتمع الدولي لمكافحة التطرف، وبالتالي تبادل خبراتها مع الحكومات الأخرى.
من جانبٍ آخر فإن تأسيس مركز الملك عبد الله العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات (كايسيد) في فيينا، يعد إسهامًا مهمًا يؤكد جهود مكافحة التطرف، ويجمع المركز بين الزعماء الدينيين وواضعي السياسات للتعاون في نشر التسامح، ومواجهة الأفكار المتعصبة بين أتباع الديانات المختلفة.
في عام 2019، أصدرت رئاسة أمن الدولة في المملكة العربية السعودية (الإدارة العامة لمكافحة التطرف) ووحدة التواصل في التحالف الدولي ضد داعش التابعة مذكرة مشتركة تسمى “مذكرة الرياض ولندن حول الممارسات الجيدة للتصدي للروايات الإرهابية”. والهدف الرئيس من هذه المذكرة هو تشجيع استخدام المصطلحات المناسبة لتصنيف الإرهابيين لتجنب إضفاء الشرعية عن غير قصد على أيديولوجيتهم أو الإثارة الإعلامية على أفعالهم. وهي خطوة مهمة نحو ميثاق دولي لمكافحة الإرهاب والتطرف.
منذ الهجوم الإرهابي الذي وقع في الرياض عام 2003، حدثت تغييرات بالغة الأهمية على المستويات كافة في الدولة والمجتمع السعودي، لعل أهمها البنى التحتية التي استحدثت في مجال مكافحة التطرف. وبالإضافة إلى التدابير المباشرة لمكافحة التطرف المبينة أعلاه، تم اتخاذ المزيد من التدابير غير المباشرة. فقد أرسلتِ المملكة مئات الآلاف من الطلاب للدراسة في الخارج والتعلم، من خلال التجربة المباشرة حول التعايش السلمي مع “الآخرين”.
وثمة خطوة جادة أخرى لمكافحة التطرف هي رفع القيود الاجتماعية، ما يسمح بإدخال مزيدٍ من البهجة في حياة الناس، ويوفر إمكانيات الاستمتاع بالحياة. على سبيل المثال، تأسست “الهيئة العامة للترفيه” في مايو 2016؛ هيئة رسمية تعمل على توسيع قطاع الترفيه.
علاوة على ذلك، سعتِ المملكة إلى تعزيز حزمة أوسع من السياسات، تتجاوز مجرد مكافحة الإرهاب، وتسعى إلى تدريب الناس على رؤية الإسلام كدين سلمي، وعلى تقدير أهمية حياتهم اليومية على الأرض، إلى جانب سعيهم إلى الجنة. مستشهدين بالآية القرآنية: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (سورة القصص، الآية 77).
ولا شك أن هذه التغييرات توفِّر للشباب السعودي فرصًا أكبر وبيئة أكثر تسامحًا للعيش فيها، أكثر من تلك التي عاش فيها زميلي الأستاذ محمد.
* أستاذ مساعد في علم الاجتماع بجامعة جراند فالي ستيت في ولاية ميشيجن.