رامون بليكوا *
من المقرر أن يعقد العراق انتخاباتٍ مبكرة في شهر أكتوبر المقبل، كما سبق ووعد رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، استجابة لطلب المتظاهرين، في ظلِّ أكثر الأوضاع غموضًا التي يمرُّ بها العراق في السنوات الأخيرة. وفي هذه الأثناء، أعلن مقتدى الصدر، زعيم أكبر كتلة برلمانية، قراره بالانسحاب من الانتخابات، ومنع أتباعه من تأييد أي مرشح أو دعمه. وقد تولى قيادة حركة المقاطعة بشكلٍ فعّال، واستمالها بطريقةٍ مماثلة لما حاول أن يفعله خلال احتجاجات ما يسمى بـ”انتفاضة تشرين”. وكما هو الحال في تلك المناسبة، فقد يغيّر مساره ويحاول الاستفادة من ألعابه البهلوانية السياسية، ولكن قراره قد يعمق أزمة الشرعية غير المسبوقة التي يواجهها النظام السياسي العراقي برمته، بين المواقف التي لا يمكن التوفيق بينها بشكل متزايد للمتظاهرين والمؤسسة السياسية، فيما يتعلق ببقاء نظام “المحاصصة الطائفية”.
من المتوقع أن يكون لهذه الانتخابات المقبلة أثرٌ عميق، ليس فقط في الحالة السياسية في العراق، ولكن في الديناميات السياسية الإقليمية أيضًا. اللاعبون الدوليون يحومون حول العراق بالفعل، ويضعون رهاناتهم في السباق. لقد حاول رئيس الوزراء العراقي، باستخدام تكتيكٍ من تكتيكات الـ “جوجيتسو السياسي”، تحويل هذا التدخل الإقليمي لصالحه، من خلال تسخير مكانه في قلب شبكة من المؤامرات لإبراز العراق باعتباره منشئ جسور إقليمي، وتأليب هؤلاء المتنافسين المختلفين ضد بعضهم البعض للحفاظ على التوازن الداخلي الهش في العراق.
الأمر الذي يجعل هذه الانتخابات مختلفة عن غيرها هو أن التحدي الذي يواجه النظام لا يأتي من السنة المحرومين من حقوقهم، ولا من الانفصاليين الأكراد؛ بل من البيت الشيعي نفسه. وحتى لو لم تتمكن حركة تشرين من طرح برامج سياسية ورفضت تأييد الأحزاب التقليدية في الانتخابات، فإن الدلائل على استياء الرأي العام (الشيعي بالأساس) ظاهرة للعيان. على سبيل المثال، هناك بوادر صراع داخلي داخل الحشد الشعبي، تكتل الميليشيات الذي يتمتع بوضع رسمي، حيث توجد تنافسات حتى داخل ائتلاف الفتح المهيمن، حيث أطلقت “كتائب حزب الله”، أحد أقوى وكلاء إيران، حركة جديدة: هي “حركة حقوق”.
التسابق المحموم مفهوم: فنتيجة هذه الانتخابات ستقرر مصير الدولة العراقية لسنواتٍ مقبلة. ويبدو أن إمكانية تأجيل الانتخابات، التي ألمح إليها رئيس الوزراء في مرحلةٍ مبكرة، قد نحيت جانبًا بعد اجتماع عقد مؤخرًا، وضم ممثلين عن جميع الكتل السياسية، والأمم المتحدة، ورئيس القضاة، ورئيس البرلمان.
وأيًا كانت النتائج، فإن هذه الانتخابات سوف تثبت أن العراق هو المختبر السياسي الأكثر دينامية في الشرق الأوسط. تجدر الإشارة إلى أن المجتمع الدولي مهتم جدًا بهذه الانتخابات، حيث تضطلع بعثة الأمم المتحدة لتقديم المساعدة إلى العراق بدورٍ رئيس في الإشراف على العملية، وأعلن الاتحاد الأوروبي أنه سيرسل بعثة لمراقبة الانتخابات بناء على طلب بغداد.
خلال خبرتي التي تمتد إلى ثلاثين عامًا في الشرق الأوسط، أتيحت لي العديد من الفرص تساعدني في تحليل تعقيدات المنطقة، حيث يصعب في كثيرٍ من الأحيان على الخبراء السياسيين ممن لم يعملوا على الأرض في دول المنطقة فهم الطبقات والمستويات المتداخلة للمجتمعات، والتي تتنوع بين التاريخي والتنوع الثقافي والعرقي. ربما يكون العراق هو البلد الذي أثار اهتمامي أكثر من غيره، الذي وجدته في أغلب الأحيان يقُدم بصورة مشوهة أو يُساء فهمه. ولا يقارن فخر العراقيين بمقاومة الاحتلال الأجنبي أو التصنيف الفكري الغربي لهم إلا بشغفهم بالولاءات المتعددة، والانخراط في الوقت نفسه مع جميع الرعاة الإقليميين والدوليين في مؤامراتهم السياسية التي لا نهاية لها.
إن تردد معظم المحللين الدوليين في قبول حقيقة أن العديد من التفسيرات المتعددة للأحداث العراقية يمكن أن تكون صحيحة، يساهم في سوء الفهم المتكرر للديناميات السياسية العراقية. ومع الاتفاق على أن العراق لا يزال مفتاح الأمن والاستقرار الإقليميين، أستغرب أن النقاش في واشنطن لا يزال يركز على صراع الظلِّ بين الولايات المتحدة وإيران في بلاد ما بين النهرين، وبحث الأمريكيين عن حلفاء موثوق بهم لصد النفوذ الإيراني في العراق، كما أكدت الزيارة الأخيرة لرئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي.
أدين بالشكر لحكمة العديد من العراقيين الذين أناروا لي الدربَ خلال عملي في بغداد، ومن بينهم أود أن أبدأ بهشام الهاشمي. هذا ليس بسبب الدعوات الأخيرة إلى اعتباره شهيدًا لحركة الاحتجاج، وضحية للانتقام من بعض الفصائل الموالية لإيران في الحشد، ولكن على وجه التحديد بسبب شخصيته المعقدة جدًا وولائه السياسي المتعدد. كان لهشام، ماضٍ مظلمٌ كمساهمٍ رئيس في صعود أبو مصعب الزرقاوي، وتنظيم القاعدة في بلاد ما بين النهرين، سلف تنظيم داعش، أكثر المنظمات الإرهابية وحشية في المنطقة. ومنذ تلك السنوات من الدم والغضب، أصبح مرجعًا لفهم داعش والجماعات الجهادية المتطرفة الأخرى.
لقد أكد اعتقال أحد قاتليه، أحمد الكناني، الشكوك في أن كتائب حزب الله كانت وراء عملية الاغتيال، لكنه فتح سلسلة أخرى من الألغاز المتعلقة بأسباب قتلهم لشخص مُقرّب من الزعيم الراحل للحشد. وبينما يحاول نبراس كاظمي، في مقالته الأخيرة، فك طلاسم رُعاة هشام المتعددين وولاءاته المتضاربة، تظهر سيمفونية كاملة من المؤامرات السياسية في تاريخ العراق الحديث.
وفقًا لأبحاث نبراس، عمل هشام -في وقتٍ واحد أحيانًا- لصالح وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية والاستخبارات السعودية، والحكومة التركية، والاستخبارات الإيرانية، بينما كان يعمل في أوقاتٍ مختلفة لصالح الاستخبارات العراقية، أو فصائل فيها، ويلقى رعاية العديد من القادة السياسيين العراقيين المتنافسين.
مثل رواية «جريمة قتل في قطار الشرق السريع»، يبقى المرء مع شعور أنه يمكن أن يكون لدى كل هؤلاء دافع للقتل. ولكن في هذه الحالة، يبدو أنه كان مشتبهًا في تواطؤه في قتل الجنرال الإيراني قاسم سليماني، ونائبه قائد الحشد أبو مهدي المهندس. أعتبر هشام الهاشمي مثالًا، بالتأكيد ليس فريدًا، على العديد من المفارقات التي تشكل الخيوط الغامضة اللازمة للتنقل في متاهة السياسة العراقية.
ومن الأمثلة الأخرى على ذلك رجل الدين الإيراني آية الله العظمى علي السيستاني؛ المرجع النهائي للنزاعات السياسية في العراق، ومصدر إلهام العديد من أولئك الذين يكافحون من أجل إصلاح النظام السياسي. لطالما اعتبرت سلطته الدينية التي لا يجادل فيها أحد، ونفوذه السياسي الكبير، حصنًا ضد النفوذ الإيراني المتفشي في العراق. وفي الوقت نفسه، فإن العديد من الأمريكيين الذين يشكون بمرارة من فساد الحكومة العراقية وانعدام سلطتها، لا يدركون أنهم أنشأوا نظامَ حكمٍ مفتتًا في الدولة، قائمًا على التوزيع العرقي-الطائفي للسلطة، بعد تدخلهم العسكري في عام 2003.
ولكيلا نتجاهل المشكلة الواضحة، غالبًا ما يظهر النفوذ الإيراني على القادة السياسيين الأكراد والسنة، كما هو الحال في الأحزاب الشيعية. ويُعد مقتدى الصدر، بحملته السياسية العدوانية ضد التدخل الإيراني في العراق، مثالًا جيدًا على مدى تناقض الرواية السياسية العراقية. وكون أن بروز النفوذ الإيراني في العراق يُعزى كثيرًا إلى دعم دول المنطقة لمختلف حركات التمرد السنية منذ عام 2003 هو مثال جيد على الطبيعة المتناقضة للسياسة العراقية، حيث يكون للإجراءات بشكلٍ عام رد فعل معاكس على ذلك المقصود.
تتضح التناقضات العديدة التي تُشكِّل السياسة العراقية في الخطاب الطائفي، الذي أصبح التفسير المهيمن لصراعات ما بعد عام 2003. وفي حين أنه واقع لا يمكن إنكاره في النظام السياسي العراقي، فإنه أكثر إثارة للجدل في المجتمع العراقي، حيث 38% من الزيجات مختلطة، وفقًا للإحصاءات المتاحة. لقد تغيّر الخطاب السياسي بشكلٍ كبير في الانتخابات الأخيرة، حيث أكدت الرسائل على التحالف بين الطوائف والمحتوى الثقافي غير الإقصائي. لقد كان تنظيم داعش تجربة مثيرة، لم يتم تحليلها بشكل صحيح، في رأيي، لأن تراجع دعم المجتمع السني لمثل هذا المشروع السياسي يكشف عن الثقافة العراقية. ولا شك أن قيام بعض الألوية السنية في الحشد، التي نشأت من محافظة صلاح الدين، بدور قيادي في تحرير تلك المحافظة أمر لا يخلو من دلالة، كما أوضح لي صديقي يزن الجبوري.
الهزيمة الحقيقية لداعش ليست نتيجة للحملة العسكرية التي تقودها الولايات المتحدة بدعمٍ من تحالف من خمسين دولة، بل نتيجة غياب دعم الطائفة السنية في العراق للتنظيم. ولم يمنح المحللون اهتمامًا يُذكر لحقيقة أن أكثر من خمسة ملايين من المشردين البالغ عددهم ستة ملايين ونصف المليون خلال الحملة العسكرية قد أعيد إدماجهم في مواطنهم في غضون أشهر من انتهاء العمليات العسكرية، من دون عنفٍ يُذكر.
وهكذا، لقد مرت واحدة من أنجح العمليات في تحقيق الاستقرار بعد الصراع، بقيادة الأمم المتحدة، دون أن يلاحظها أحد تقريبًا. ومع ذلك، قهناك المزيد من الجهود التي يتعين القيام بها. إذ يجب الاهتمام بمصير الموصل، وبإعادة بناء النسيج الاجتماعي للمجتمعات التي عاشت في ظلِّ ما يسمى بخلافة داعش. ومن بين الجهود القليلة المبذولة الرامية لتسليط الضوء على المدينة مبادرة “إحياء روح الموصل“. هذا الإهمال قد يطاردنا في السنوات المقبلة؛ لأن الترياق الرئيس ضد التشدد والتطرف هو التراث الثقافي الغني للعراق.
وفي حين أنه من المألوف الحديث عن فشل الدولة العراقية نتيجة لنفوذ الميليشيات على النظام السياسي، حيث يرى بعض الخبراء أن اختفاءها من شأنه أن يحل المشكلات السياسية في العراق، لكن يبدو أنهم يخطئون فهم أعراض المرض. فالحشد الشعبي ليس سببًا في مشكلات العراق ولا في نفوذ إيران على مؤسسات الدولة، بل نتيجة لنظام مختل وظيفيًا، اضطر من أجل البقاء أن يخلق هياكل موازية لتوفير الأمن والخدمات الأخرى لشريحةٍ كبيرة من العراقيين المحرومين من حقوقهم. كما أن الحشد ليس الفاعل الوحيد الذي يقوِّض سلطة الدولة في العراق، وليس الجماعة المسلحة الوحيدة المرتبطة بالأحزاب السياسية.
الصراع الحالي داخل الكتل الشيعية على السلطة السياسية يحقق بعض المفاجآت غير المتوقعة التي تتحدى النظريات الراسخة. إن دينامية التحالفات عبر الحدود العرقية الطائفية واضحة جدًا، حيث تتخذ الأحزاب الشيعية والسنية والكردية مواقع في معسكرات متعارضة. وإطلاق تحالف “العقد الوطني”، بقيادة فالح الفياض ودمجه مع جماعات شيعية وسنية متنوعة، هو مثال على اكتمال أغلبية سياسية كبيرة، وهو الاتجاه الذي بدأ خلال الانتخابات الأخيرة.
ومع أخذ هذا السياق في الاعتبار، يمكن أن نرى قرار مقتدى الصدر بمقاطعة الانتخابات، وتفكيك الهيئة السياسية الصدرية، تاركًا فعليًا أكبر كتلة برلمانية بدون توجه، في أبعاده الصحيحة. إنه نوع من الدراما السياسية التي يتوقعها المرء في نظامٍ تطغى فيه شخصية القادة الكاريزميين؛ لأن الصدر هو من بين أولئك القادة الذين لديهم جماعة مسلحة قوية تحت تصرفه. وقد قررت بقية الأحزاب السياسية أن تخدعه، وأن تمضي قدمًا في الانتخابات على أي حال. ومن المثير للاهتمام أن المفوضية العليا المستقلة للانتخابات العراقية قد أدْلَت ببيانٍ علني أوضحت فيه أنه لم يطلب أي مرشح رسميًا سحب مرشحيه.
وعلى نحوٍ مماثل، قد يصبح نوري المالكي سمة مهمة في هذه الانتخابات المقبلة، خاصة إذا انسحب الصدريون وأفسحوا المجال أمامه. وتتعزز هذه الدينامية من خلال تفتيت كتلة الحشد/الفتح، بقيادة أحد كبار قادة كائب حزب الله، حسين مؤنس، ولكن كافة مكونات الحشد -حزب الله العراقي، وعصائب أهل الحق، وبدر- تتناحر مع بعضها البعض، وتتهم بعضها البعض بخيانة المُثل العليا التي جسّدها أبو مهدي المهندس. علاوة على ذلك، أعادت المنافسات الشيعية رسم الخطوط في المعسكر السني، ما دفع محمد الحلبوسي وخميس الخنجر إلى معركة على السلطة والنفوذ لها بعض الدلالات الجيوسياسية الإقليمية.
وهكذا، تبدو معضلة السياسة العراقية أكثر وضوحًا من أي وقت مضى ونحن نقترب من يوم الانتخابات في 10 أكتوبر، اختبار مصيري ليس فقط للحكومة الحالية أو المؤسسة السياسية، ولكن للمجتمع العراقي بأسره. وفيما يُطلب من الحكومة إجراء انتخابات نزيهة تحت إشراف المجتمع الدولي، يقاطع الآن العديد ممن كانوا يتظاهرون من أجل تشكيل حكومة جديدة العملية التي قد تحقق لهم ذلك. ولا شك أن قرار مجلس الأمن الدولي، الذي يدعم تفويض مراقبة دولية واسعة النطاق، واستعداد الاتحاد الأوروبي المعلن للإشراف على التصويت، ودعم الحوار الوطني داخل المجتمع المدني العراقي، يوفر للحكومة فرصة فريدة للوفاء ببعض وعودها بالتغيير. صحيح أن مستويات العنف السياسي قد زادت في العامين الماضيين، حيث قتل أكثر من 600 متظاهر على أيدي قوات الأمن، لكن لا يزال بإمكان العراق تجنب الدخول في دوامة أخرى من العنف والصراع، ولدى القوى الإقليمية والدولية مصلحة في الحيلولة دون حدوث ذلك.
وفي السياق الإقليمي، ما يزال انفتاح العراق وسجله الحافل في عمليات نقل السلطة سلميًا مثيرًا للإعجاب، وإن كان هناك الكثير الذي يتعين القيام به لتحسينه. وفي حين أن الظروف الراهنة قد لا تعطي أملًا كبيرًا في منح تكليفٍ واضح وذي مصداقية، فإنه يجب بذل كل الجهود الممكنة لتحقيق هذا الهدف. فهناك الكثير على المحك، ليس فقط بالنسبة لمستقبل غالبية العراقيين، الذين تقل أعمارهم عن 25 عامًا، ولكن بالنسبة لاستقرار المنطقة بأسرها.
* دبلوماسي إسباني، وسفير سابق للاتحاد الأوروبي لدى العراق، يشغل حاليًا منصب سفير فوق العادة للوساطة والحوار بين الثقافات. الآراء الواردة في هذه المقالة هي آراءه الخاصة، ولا تمثل الموقف الرسمي لوزارة الخارجية الإسبانية. استعان هذا المقال بأبحاث وأفكار تم تطويرها بالاشتراك مع كل من الدكتور كلاوديو فيجو، والدكتور دوجلاس أوليفانت، حول مواضيع الذكاء الاصطناعي، ودور الجهات الفاعلة من غير الدول في السياق الحالي للشرق الأوسط على التوالي.