د. عبدالله فيصل آل ربح **
عندما يدور الحديث حول الإسلام الحركي السني المعاصر، فإن التركيز يتمحور غالبا حول السلفية (وعلى رأسها الدعوة الوهابية) وجماعة الإخوان المسلمين، وما بين هاتين الحركتين من التجاذبات والتناقضات ما يستحق عملًا بحثيا مفصلا يقف على أهم علامات التأثير المتبادل، والتحول من التجاور السلمي إلى المواجهة، خصوصًا في المرحلة التي عُرِفَتْ بالصحوة بداية ثمانينيات القرن الميلادي العشرين، والتي تضمَّن مشروعُ مختلف تياراتها إقامةَ الدولة الثيوقراطية. ينبغي التوضيح هنا إلى أن المشكلة لا تكمن في صراع بين العلمانية والإسلاميين كمبدأ. فالنهج العلماني في إدارة الدولة، وإتاحة هامش للتعددية الحزبية، وتداول السلطة التنفيذية عبر التنافس الانتخابي، بين الكتل والأحزاب والجماعات السياسية المرخصة، كان قد بدأ في مصر منذ العهد الملكي، تحديدًا منذ عام 1923، العام الذي شهد الاعتراف بمصر دولة مستقلة ذات سيادة.
استمر العمل بهذا الدستور حتى ألغاه الملك أحمد فؤاد عام 1930 واستبدل بدستور 1930 الذي عملت به مصر مدة خمسة أعوام، ولكن الضغوطات الشعبية المتزايدة والرافضة لوقف العمل بدستور عام 1923 أجبرت الملك أحمد فؤاد على وقف العمل بدستور 1930، وإعادة اعتماد دستور 1923 الذي استمر العمل به حتى عام 1953. ولكن الوضع قد تبدّل مع مجيء الجمهوريات ذات الطابع العسكري (الثوري) من جهة، وظهور تيار داخل جماعة الإخوان المسلمين ينادي بمبدأ “الحاكمية” نهجًا لإدارة الدولة من جهة أخرى، أَزّم العلاقة أكثر بين الدولة والجماعة، وعمق الصراع بينهما.
نقف هنا على الجذور التاريخية لهذه العلاقة، خصوصًا التحولات السياسية في ظل الأنظمة الجمهورية العربية العلمانية التي وجدت في مبدأ “الحاكمية” تهديدًا وجوديًا مباشرًا؛ وعليه، فقد حاربت تلك الأنظمة الجمهورية العربية العلمانية، منظمات وشبكات وتيارات وأحزاب الإسلام الحركي، وعملت على استئصال التهديد الذي فرضه عليها تصاعد دور الإسلام الحركي في المشهد السياسي.
السياق التاريخي
منذ عام 632م (11 للهجرة)، شكَّلتِ الخلافةُ الإسلامية المدماك الرئيس لهيكل الحكم في الدولة الإسلامية. ومنذ قيام الدولة الأموية عام 662م حتى الإعلان الرسمي لنهاية الدولة العثمانية عام 1924، نشأت في العالم الإسلامي خمسة أنظمة حكم على رأس هرمها “خليفة”.
وقد حافظ الخلفاء المسلمين على الجانب الشكلي للحكم الإسلامي، بضرورة وجود إمام يجتمع حوله المسلمون، بغض النظر عن مستوى تدينه الشخصي أو تطبيقه للشريعة الإسلامية. وحتى بعد تجريد الخليفة العثماني من صلاحيات الحكم عام 1922، ظل المنصب الروحي للخليفة محافظًا على الحد الأدنى من اسم الخلافة على أمل استعادة عافيته من جديد، أسوةً بما حدث بعد الغزو المغولي لبغداد وانهيار الخلافة العباسية.
لكن حتى هذا الشكل المفرغ من محتواه، لم يصمد أكثر من 16 شهرًا حيث فقدت الخلافة مضامينها المتمثلة في السيادة العثمانية على رقعةٍ جغرافية هائلة الاتساع في بلاد الشام والعراق، وأجزاء من شبه الجزيرة العربية، يشكل المسلمون الأغلبية المطلقة لشعوبها؛ فالإمبراطورية العثمانية قد بدأت بالاضمحلال والتآكل منذ أن تعاظم دور الحركات القومية والكيانية التي شهدتها المناطق الأوروبية التي كانت تخضع للسيادة العثمانية في شبه جزيرة البلقان وتراقيا، واكتمل اضمحلال الامبراطورية العثمانية بعد الهزيمة الساحقة التي مُنيت بها الجيوش العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى؛ حيث اقتطعت بريطانيا وفرنسا وإيطاليا معظم الأقاليم الجنوبية التي كانت خاضعة للسيادة العثمانية، بل إن بعض الأقاليم الواقعة غربي الأناضول قد وقعت تحت احتلال القوى المنتصرة في الحرب، مما أدى إلى نشوء حركة مسلحة للتحرير الوطني داخل أراضي آسيا الصغرى، قاتلت قوات الاحتلال بهدف إجلائها من مضيقي البسفور والدردنيل، ومن الأقاليم والمناطق الواقعة غربي هضبة الأناضول.
عند انتهاء الحرب العالمية الأولى، واشتعال واستطالة حرب التحرير داخل تركيا، جلستِ الأطراف المتحاربةُ على طاولات المفاوضات سعيًا لإبرام اتفاقيات سلام بينها، ومما نتج عن تلك المفاوضات الماراثونية، معاهدة سيفر للسلام بين الحلفاء والإمبراطورية العثمانية عام 1920، إلَّا أن معاهدة سيفر لم تحقق السلام المنشود في آسيا الصغرى وغرب الأناضول؛ فتبعتها معاهدة السلام الموقعة مع تركيا في لوزان التي كان من ضمن مقرراتها، تخلي تركيا عن مطالبها السيادية على كل الأراضي التي خسرتها نتيجة الحرب العالمية الأولى كشرط لاعتراف القوى الرئيسية بتركيا جمهورية مستقلة ذات سيادة على الرقعة الجغرافية التي لا يزال معظم شكلها ثابت منذ يوم توقيع المعاهدة حتى الآن.
وقد اكتملت جميع المصادقات على اتفاقية لوزان في شهر يوليو عام 1924، ووضعتِ المعاهدةُ موضع التنفيذ في شهر أغسطس عام 1924، وبذلك أصبحتِ الخلافةُ بغير معني، خصوصًا وأن بطل التحرير الوطني؛ التركي مصطفى كمال أتاتورك، قد أصبح رئيسًا لجمهورية تركيا، منذ إعلان قيام الجمهورية في 29 أكتوبر 1923، وبدأ في تنفيذ مشروع إصلاح علماني جذري طال كلّ مناحي الحياة في تركيا دون استثناء، وعليه فقد شمل مشروع الإصلاح العلماني الأتاتوركي إعلان إلغاء الخلافة يوم 3 مارس 1924.
أشعل إعلان إلغاء السلطنة عام 1922، وإبقاء الخلافة في رسمها مجردةً من كل أسباب القوة، على يد أتاتورك، جذوة نقاش فقهي-سياسي على مستوى العالم الإسلامي، للتفكير في أحوال الأمة المتزامن مع اشتداد وطأة الاستعمار الأوروبي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، وانشغلت الأوساط العلمية الإسلامية، على اتساع مساحة العالم الإسلامي الممتدة من شبه القارة الهندية حتى سواحل الأطلسي، بنقاش حول أهمية إبقاء الخلافة كرمز جامع للمسلمين يتكفل بتوحيد سعيهم لنيل الاستقلال والحصول على أسباب النهوض والتقدم. وقد بلغ هذا النقاش ذروة زخمه خلال الفترة بين عامي 1922 و1924، وبعد أربعة أعوام من انحسار زخم النقاش العلمي حول الخلافة، أسس حسن البنا عز الدين جماعة الإخوان المسلمين كجماعةٍ دعوية تروج إلى اتخاذ الإسلام نهجًا لإدارة المجتمع ولحكم الدولة.
منذ تأسيس جماعة الإخوان المسلمين، تماشتِ الجماعة مع نظام الملكية الدستورية الذي يضمن التعددية السياسية تحت مظلة الملك، وأنشأت مقرات لها في دول أخرى يديرها أبناء تلك الدول. ورغم كثرة التجاذبات السياسية، فإن الجماعة ظلت بعافيتها حتى بعد اغتيال مؤسسها عام 1949 وانتخاب حسن الهضيبي خلفًا له. وحتى بعد ثورة يوليو 1952، تم استثناء جماعة الإخوان من قرار حل الأحزاب السياسية؛ إذ كان بين الضباط الأحرار من خلفيته إخوانية مثل حسين الشافعي. ولكن لاحقًا تطورت العلاقة بين نظام الرئيس عبد الناصر وبين جماعة الإخوان لتصبح صراعًا على السلطة، رأت فيه جماعةُ الإخوان أنها الشريكة الأقوى، والأحسن تنظيمًا، والأرسخ جذورًا في البيئة المصرية، وفي هذا ما يؤهلهم للعمل على الصعود لأعلى هرم السلطة؛ أي تبديل نظام الحكم. وكانت قاصمة الظهر في علاقة الجماعة بعبد الناصر، محاولة الجماعة اغتيال الرئيس عبد الناصر فيما صار يُعرف بحادثة المنشية. وعليه، فقد تغيرتِ الظروف باتخاذ الضباط الأحرار نهجًا علمانيًا مناوئًا لأشكال أسلمة السياسة مما تسبب في هجرة كثير من رموز الإخوان خارج مصر. الأمر نفسه حصل للإخوان في باقي الدول العربية التي أصبحت تحكمها أنظمة جمهورية علمانية مثل سوريا والعراق؛ فكانت هذه هي بدايات تدفق كوادر جماعة الإخوان إلى دول الخليج العربية، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية.
قامتِ الدولة السعودية منذ تأسيسها عام 1744 على قبول الإمام محمد بن سعود دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتبنيها، واتبعت الدولة السعودية الثانية نفس مسار الدولة السعودية الأولى في التحالف مع المشايخ الملتزمين تعليمات دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب. ورغم أن الدولة السعودية الثالثة قامت على أساس الحق التاريخي، فإن مكانة المشايخ الوهابيين بقيت مميزة كما هو شأنها في الدولتين السعوديتين الأولى والثانية، شكَّلَت هذه العلاقة الخاصة التي ربطت المؤسسة الدينية السلفية بمؤسسة الحكم، استقرارًا سياسيا في المملكة؛ حيث تولى المشايخ الوهابيون القيام بشؤون الدين، والتعليم، والقضاء، والحسبة، بينما تولتِ الأسرةُ الحاكمة الشأن السياسي، والاقتصادي، والعسكري، والأمني.
وعليه، فقد نشأت بين الدعوة والدولة علاقةٌ ملتزمةً القاعدةَ الفقهية السياسية التي تحرِّم الخروجَ على الحاكم استنادًا إلى نصوصٍ من القرآن والسنة. أصبح علماء الدين الذين تأسسوا على هذه النصوص الداعية إلى الاستقرار والسكينة والطاعة، مستشارين ناصحين لمؤسسة الحكم. على الطرف المقابل، فإن جماعة الإخوان قد نشأت كحركة إسلامية سياسية موازية للأحزاب الوطنية الليبرالية؛ مثل حزب الوفد، وحزب الأحرار الدستوريين تحت مظلة الملكية (دون إعطاء بيعة شرعية للملك فؤاد أو الملك فاروق، فالبيعة تُعطى للمرشد العام للجماعة فقط)، ومن ثمّ تحولت لحركة معارضة للحكم العسكري العلماني، دون أن تخفي طموحها في إنشاء “دولة إسلامية” تقيم فيها الشريعة. تعدّت معارضةُ الإخوان المسلمين للحكومة لتشمل المؤسسات الدينية الرسمية في البلاد، بما فيها الأزهر بمصر.
الملاذ الآمن والتمكين الثقافي
تدفقت عناصر الإخوان على المملكة هربًا من بطش الأنظمة العسكرية في بلادها، واستثمارا للعلاقة المتوترة بين المملكة وتلك الأنظمة الثورية التي كانت تتبنى خطابا عدائيا للأنظمة الملكية، وتصفها بالرجعية، والعمالة للإمبريالية. شكّل المصريون والسوريون العدد الأكبر من عناصر الإخوان الذين وفدوا على المملكة، منذ منتصف الخمسينيات حتى نهاية السبعينيات. وباعتبار أن المملكة كانت تشهد تطويرًا شاملًا، وتخوض صراعًا في مواجهة المد القومي، يحتاج إلى خطابٍ منحوت من معجم حديث المفردات ينتمي للثقافة العصرية السائدة، وهذا لم يكن متوفرًا عند المشائخ التقليديين الذين يرفضون الانكشاف على معطيات الثقافة الحديثة،
وبهذا، فقد كانت الظروفُ ملائمة لعناصر الإخوان الوافدين لملء الفراغ؛ هكذا سنحتِ الفرصةُ للإخوان المسلمين لنشر فكرهم الحركي عبر اشتغال عدد كبير منهم في مجال التدريس، وتأليف المناهج التعليمية، أو الإشراف عليها وفق النظام الحديث كون غالبيتهم قد تلقى تعليمه في المؤسسات التعليمية النظامية في بلدانهم التي هجروها باتجاه الملاذات الآمنة في دول الخليج، ومنها المملكة العربية السعودية.
على كلِّ حال، كان الإخوان واقعيين في تعاملهم مع المشايخ السلفيين، ولم يحاولوا استفزازهم بطرح ما يخالف المدرسة الوهابية في العقيدة المستمدة من التراث النظري لابن تيمية، وعلماء المذهب الحنبلي. وكان من أبرز الأسماء الإخوانية التي عملت في التعليم في المملكة من مصر: محمد قطب شقيق سيد قطب، لاشين أبو شنب، محمد الراوي، ومناع القطان. ومن سوريا: عبد الفتاح أبو غدة، محمد أبو الفتح البيانوني، ومحمد سرور زين العابدين. والقائمة تطول بالأسماء الإخوانية البارزة التي عملت في قطاع التعليم السعودي، منهم من لبث لفترة قصيرة ثم غادر، كمحمد سرور، ومنهم من بقي في السعودية حتى وفاته كقطب وقطان.
“الجامعة الإسلامية” مقابل “الجامعة القومية”
من نافلة القولِ أن مؤسسة الأزهر كانت قد فقدت استقلالها الذاتي منذ مشروع التطوير في عهد محمد علي باشا؛ لذلك لم يواجه عبد الناصر مقاومة تذكر عندما قام بتحديثٍ شامل لمؤسسة الأزهر، وكان من نتائج تحديث الأزهر وتطويره على يد عبد الناصر، أن انسجم خطابُ مؤسسة الأزهر مع الخطاب السياسي الناصري؛ ففي عام 1961 شهد الأزهر تأسيس كليات تقوم بتدريس علومٍ عصرية مثل الطب، والصيدلة، وإدارة الأعمال، والعلوم، والاقتصاد، والهندسة، والزراعة، إلى جانب التخصصات التقليدية المتعلقة بالأدب العربي، وعلوم الشريعة الإسلامية.
وفي العام ذاته، افتتحت كلياتٌ خاصة بتعليم البنات في جامعة الأزهر. في ذات العام أيضًا، أنشأ الملك سعود الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة تحت رئاسة المفتي العام الشيخ محمد بن إبراهيم وخلفه نائبه الشيخ عبد العزيز بن باز. كان دور مشايخ السعودية التابعين للمدرسة الوهابية هو الإدارة العامة للجامعة التي وجد فيها عناصر جماعة الإخوان فرصة ملائمة لتوجيه المناهج الدراسية نحو وجهة تصب لصالح الفكر الحركي للجماعة. وكان من الواضح أن الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة بما يحمله موقعها الجغرافي من رمزية إسلامية قد وُضعت في مواجهة جامعة الأزهر التي تناغم خطابها مع الخطاب الناصري القومي وانسجمت مواقفها مع السياسات الناصرية، وعليه فقد انتقل الإخوان المسلمون إلى مرحلة أكثر تقدمًا في معركتهم مع الأنظمة السياسية القومية التي تقمعهم في بلدانهم.
وقد خرّجت الجامعة الإسلامية أعدادًا من الدعاة من مختلف البلدان الإسلامية. ولعل الغرض الأساس من إنشاء الجامعة الإسلامية في المدينة هو منافسة الأزهر على طلبة العلوم الشرعية الإسلامية، والترويج للعقيدة السلفية في مواجهة العقيدة الأشعرية، والطرق الصوفية التي اعتاد على ارتيادها كثير من الأزهريين. وهذا ما صادف هوى في نفوس جماعة الإخوان الذين وجدوا في السلفية حليفًا قويا يمكن الركون إليه مقابل أشاعرة الأزهر الذين اصطفوا مع نظام عبد الناصر.
ومن أبرز نتاج الجامعة الإسلامية في المدينة كان سفر الحوالي الذي تخرّج فيها بدرجة البكالوريوس، ومنها انتقل إلى كلية الشريعة في مكة لإتمام مرحلتي الماجستير والدكتوراه، وهناك في كلية الشريعة التقى سفر الحوالي بمحمد قطب. جدير بالذكر أن كلية الشريعة في مكة كانت حينها فرعًا تابعًا لجامعة الملك عبد العزيز في جدة، ثم شكلت كلية الشريعة النواة التي تأسست منها جامعة أم القرى، وكانت كلية الشريعة في مكة، حينذاك، إحدى حواضن الأكاديميين الإخوانيين، بسبب وجود برامج دراسات عليا في المجالات الشرعية، مما سهّل عليهم بلورة الفكر الحركي لدي طلبة العلوم الشرعية ذوي الصبغة الأكاديمية.
ونبقى في مثال سفر الحوالي الذي قدم أطروحتيه للماجستير والدكتوراه تحت إشراف محمد قطب تناول فيهما موضوعي “العلمانية” و”الإرجاء” كتحديين معاصرين للإسلام وتطبيق الشريعة. وبالإضافة للجامعة الإسلامية في المدينة وأم القرى في مكة المكرمة، فقد امتدّ نفوذ الإخوان لجامعتي الإمام محمد بن سعود في الرياض، وجامعة الرياض (الملك سعود).
وقد يتساءل البعض عن سبب هذا التمكن الذي حازته جماعة مهاجرة في بلد بيئة قبلية محافظة. في رأيي، يرجع هذا لعاملين أساسيين:
1- المؤهلات التعليمية التي حصلوا عليها من بلدانهم ذات الأنظمة التعليمية النظامية، مقابل تقليدية تعليم علوم الشريعة آنئذ في المملكة.
2- جهودهم في إخراج تراث الشيخ محمد بن عبد الوهاب بشكل أنيق وعصري، من خلال عملهم في تحقيق وشرح أعماله بشكل أثرى تلك الأعمال وسهّل تقديمها للدراسين. ولنأخذ هنا مثلا موسوعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب التي طبعتها جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في 13 مجلدًا عام 1976م، فقد كان اثنان من بين المحققين الثلاثة لهذا المشروع من الإخوان المسلمين المصريين (محمد بلتاجي وسيد حجاب) بالإضافة لعبد العزيز بن زيد الرومي.
الإسلام الحركي
ظلّ الإخوان مسيطرين على الدراسة الأكاديمية الشرعية في السعودية، في مجال الثقافة الإسلامية بالتحديد، والذي يعطيهم فسحة أكبر لنشر فكر “الإسلام الحركي” مقابل ما كان يعرف بـ “التيارات المنحرفة”. ولم تكن سيطرة السلفية الوهابية على مجالات العقيدة والحديث عاملا مؤثرا على الفكر الذي ينشّأ عليه طلبة العلوم الشرعية في الجامعات، فالعقيدة والحديث أمور لا تتماس مع الحياة اليومية بقدر الثقافة الإسلامية التي تسهم في تشكيل الوعي والمواقف تجاه التحديات المعاصرة.
ومن نافلة القول إن تقاسم تدريس الفقه بين الإخوان والسلفية لم يكن ليؤثر كثيرًا كونه يتعامل مع العبادات التي لا يؤثر الاختلاف في تفاصيلها على المنهج العام للدولة؛ حيث شكّل هذا التفصيل إحدى نقاط قوة تأثير الفكر الإخواني بسيطرته على المواد الأكاديمية التي تشكّل فكر الطلبة الذين وإن اختلفوا معهم في العقيدة (الأشعري مقابل ابن تيمية) والفقه (الحنفي مقابل الحنبلي)، فإنهم -الإخوان- يشكّلون الفكر الذي له نتائجه على الأرض، بغض النظر عن التفصيلات العقدية والفقهية التي تظل بين المكلّف وربه.
هنا ينبغي تذكر الأساس الذي قامت عليه الجماعة، والذي يركّز على الثقافة والحركية، وليس العلم الشرعي. وبنظرةٍ سريعة على التكوين المعرفي للمرشدين الثمانية للجماعة، نجد أن أيّا منهم لا يحمل صفة “الفقيه” بل كلهم مثقفون قادمون من خلفيات أخرى كتعليم اللغة العربية (حسن البنا)، والتربية البدنية (مهدي عاكف)، التجارة (عمر التلمساني ومحمد حامد أبو النصر)، القضاء المدني (حسن الهضيبي، وابنه مأمون)، الأرصاد الجوية (مصطفى مشهور)، والطب البيطري (محمد بديع)؛ الأمر نفسه ينطبق على كثير من قيادات الإخوان الفكرية والذين لم يمروا بتأهيل شرعي واضح المعالم (جامعي أو تقليدي في حلقات لشيوخ معروفين).
افتقارُ القادة الرئيسيين للتأهيل العلمي الشرعي بتركيزهم على العمل العام والثقافة التي لا تنفذ إلى عمق النص الشرعي جعل منهم برنامجًا للعمل بدون تأصيل شرعي عميق. بالمقابل، فإن علماء الدعوة الوهابية البارزين كابن باز، وابن عثيمين، وابن جبرين، قد حصروا تركيزهم على العلم الشرعي دون وجود برنامج ثقافي يواكب العصر، ويحتوي الشباب السعودي في مرحلة الطفرة النفطية، وما صاحبها من تحولات اجتماعية تحتاج إلى رؤى إسلامية معاصرة تتجاوز مسائل التوحيد، والطهارة، ومحاربة البدع الاجتماعية.
ولعل هذا ما جعل شباب الصحوة السعوديين فيما بعد ينقلبون على علماء بلادهم بدعوى عدم إحاطتهم بواقع الحياة ومتغيرات الزمن مقارنة بأساتذتهم ذوي الخلفية الإخوانية.
الأثر الفعلي
رغم أن الصراع السعودي المصري الذي اتخذ صفة “الأممية الإسلامية” مقابل “القومية العربية”، قد لعب دورًا محوريًا في توطيد العلاقة بين المؤسسة الدينية السلفية والإخوان المسلمين، فإن وفاة الرئيس عبدالناصر 1970 والملك فيصل 1975، لم تؤثر سلبًا في هذه العلاقة.
فالعلاقة بدأت واستمرت تكاملية وليست تنافسية، وعليه ليس ثمة ما يقلق إحدى المدرستين من الأخرى. فقد أخذ الإخوان المهاجرون من منهج الدعوة الوهابية التشدد الشكلي في لباس المرأة واللحية، وأعطوهم التشدد الفكري تجاه عدو لم يكن ضمن المفكر فيه لدى السلفيين السعوديين.
ما نعنيه هنا أن المشايخ السلفيين كان ينحصر تفكيرهم داخل حدود المملكة التي يحكمها إمام المسلمين الشرعي الذي له في رقابهم بيعة ملزمة دون أن يُعنى بشكل -حركي- بالصراعات في الدول الأخرى؛ مما ترك لعناصر جماعة الإخوان الباب مفتوحًا على مصراعيه لترويج أفكارهم ومواقفهم تجاه ما كان يعرف بالأخطار المحدقة بالإسلام والمسلمين مثل: الاستعمار الغربي، المد الصهيوني، الماسونية العالمية، والعلمانية الكافرة، في أوساط السلفيين السعوديين. أتى هذا في الوقت الذي كانت وسائل إعلام القومية العربية تشنّ هجومًا على الملكيات -وعلى رأسها السعودية- وتصفها بالرجعية، والعمالة للإمبريالية العالمية؛ في هذا الجو تخلق مزاج مواتٍ لدى الأنظمة الملكية المحافظة، ومنها السعودية، أفسح المجال لناشطي جماعة الإخوان بتثقيف مواطنيها حول خطورة المد العلماني الذي يحكم بغير ما أنزل الله. حتى بعد ضمور الصراع السياسي السعودي المصري، ظلت أيديولوجيا الإسلام الحركي نشطة في الأوساط السعودية فيما عرف بعد ذلك بـ”الصحوة الإسلامية” التي قادها “التيار السروري”، وهي موضوع مقالنا القادم.
* يسعى موقعُ «عين أوروبية على التطرف» إلى نشرِ وجهاتِ نظرٍ مختلفة، لكنه لا يؤيد بالضرورة الآراء التي يُعبِّر عنها الكتّابُ المساهمون، والآراء الواردة في هذا المقال تُعبِّر عن وجهةِ نظر الكاتب فقط.
** أستاذ علم الاجتماع الديني والنظرية الاجتماعية بجامعة جراند فالي ستيت- الولايات المتحدة