عرض: د. عمار علي حسن
رغم قلة عدد صفحاته، فإن كتاب «الفريضة الغائبة» لمحمد عبد السلام فرج (1942 ـ 1982) من أكثر الكتب تأثيرًا في مسار الجماعات والتنظيمات المتطرفة، وربما يعود هذا إلى لغته المباشرة الحادة، وأحكامه القاطعة، وتصوراته الزاعقة التي تخاطب العاطفة تارة بالاستشهاد بآياتٍ قرآنية وأحاديث نبوية ووقائع من صدر الإسلام وليّ عنقها لتخدم الهدف الذي أراده صاحبه، وطورًا بإلهاب حماس الشباب بمهمة ضرورية تتعلق بـ “الجهاد”. وقد يكون هذا أيضًا راجعًا إلى أنه كان كتابًا مبكرًا له دوره في صناعة إطار مرجعي لـ “تنظيم الجهاد” الذي ولد في مصر خلال ستينيات القرن العشرين، وخرجت من عباءته وتأثر به الكثير من تنظيمات وجماعات “السلفية الجهادية” التي ساحت على خريطة العالم الإسلامي من غانا إلى فرغانة.
وهناك سبب مهم يتعلق بمسار ومصير صاحب الكتاب نفسه، إذ إنه لم يكتفِ بالتنظير، بل سعى إلى تطبيق أفكاره في الواقع، فشارك في التخطيط لاغتيال الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات، وأعدم بسبب هذا. ودفع أي شخص ثمنًا لأفكاره، حتى لو كانت خاطئة ومنحرفة، يعطي فكرته جاذبية وحجية، سواء لدى أتباعها أو غيرهم. ورغم أن فرج لم يكن ضمن المجموعة التي نفَّذتِ الاغتيالَ، فإن المتهم الأول في هذه العملية خالد الإسلامبولي، قد أسند السبب الأكبر لنجاحها إلى صاحب «الفريضة الغائبة» الذي حين أسَّر له الإسلامبولي برغبته في قتل السادات، فإنه شجعه، وبرر له هذا، وأمده بالرجال والسلاح.
علاوة على كل هذا يوجد سببٌ موضوعي، لا يمكن التقليل منه، إذ أن “تنظيم الجهاد” سبقت حركته فكرته، فانطلق على طريق العنف دون إطار فكري أو أيديولوجيا، وبلا تبرير فقهي واعتقادي مكتوب، إنما نقولات واقتباسات، من هنا وهناك، وصفحات من كتب لآخرين، لا سيَّما سيد قطب وابن تيمية، وآراء شفاهية يتداولها الأعضاء، مثل ما أورده ابن كثير في كتابه «البداية والنهاية» من تفسير لآية “أفحكم الجاهلية يبغون”، وحديث ابن تيمية عن حكم التعامل مع التتار، وكتاب «الشفا» للقاضي عياض، وكتاب «فقه الجهاد في سبيل السلام» للشوكاني.
وكان “الجهاديون” يفصلون في شرح ما ورد في هذه الكتب من أفكار تناسب حركتهم واتجاههم وأهدافهم بأسلوب معاصر، وبعضها كانت تقال على المنابر، حيث كان محمد عبد السلام فرج نفسه، يلقي خطبه الجمعة، وبعض الدروس في زاويةٍ صغيرة أسفل مسكنه.
يعتبر فرج الجهاد هو “الفريضة الغائبة” في حياة المسلمين المحدثين والمعاصرين، إذ يقول: “عندما يأتي موسم الحج تذهبون إلى الحج، وتقرأونه في فقه الحج. وإذا جاء رمضان تقرأون في فقه رمضان. وفي الزكاة تقرأون عن الزكاة. أما الجهاد فلا تتكلمون عنه على رغم أن الحكم الإسلامي غير مطبق، والسلطة مغتصبة”.
والجهاد في نظر فرج هو “فرض عين”، وبذا فإن تعطيله أو تأجيله لا يجوز شرعًا، بأي ذريعة، بل يجب تفعيله سواء ضد ديار المسلمين التي صار أهلها عنده من الكفار، ولا يجب التعامل معهم على أساس أنهم قد عادوا للعيش في المجتمع المكي، وعلى الحركات الإسلامية، أن تبدأ دعوتهم من جديد، بل يجب عليها أن تبدأ من حيث انتهى الرسول، فلا تقبل بغير مجتمعٍ تام الإسلام، ودولة مسلمة، متكاملة الأركان، وعليها أن تعلن القتال ضد الحكام بعد الخروج عليهم، وهو في هذا يكرر ما سبق أن قاله صالح سرية زعيم تنظيمٍ عُرف باسم “الفنية العسكرية” في كتابه «رسالة الإيمان»؛ إذ دعا إلى إسقاط أنظمة الحكم، باعتبارها “طاغوتًا”، تتسلط على “مجتمعات جاهلية”، وجب قتالها.
كانت أول طبعة من «الفريضة الغائبة» قد ظهرت في صيف 1980 على يد مؤلفه، ولذا صار الكتاب دليلَ اتهام له في قضية اغتيال السادات؛ لأنه بدأ بدعوة إلى “القتل” ومضى في تبريرها على مدار صفحاته القليلة، معتقدًا في أن الوسيلة الوحيدة لمواجهة السلطات الحاكمة هي “السيف” و”الرمح”، وهما يرمزان إلى المواجهة المسلحة، وبها وحدها يمكن إعادة “الخلافة الإسلامية الراشدة”، التي هي في نظره أمل لا يجب التخلي عنه أبدًا، ولا يجب الإنصات إلى أصوات اليائسين، الذين يرون أن هذا بعيدٌ، بل يذهب على ما هو أقصى من هذا، حين يستعيد أحاديث المهدي المنتظر؛ الذي يؤمن هو بأنه سيظهر في آخر الزمان، ويملأ الأرض قسطًا وعدلًا بعد ظلمٍ وجور.
ويقسم فرج العالم إلى “دار إسلام” و”دار كفر”، ويفرض على الأولى أن تجاهد لتغيير الثانية، بل يرى أن الأولى يمكن أن تتحول إلى الثانية، إذا توافرت شروط ثلاثة: أن تعلوها أحكام الكفر، وذهاب الأمان للمسلمين، والمتاخمة، وذلك بأن تكون تلك الدار مجاورة لدار كفر، تشكل مصدر خطر على المسلمين.
يطلب فرج “الحكم الإسلامي” متفقًا في الاستدلال على هذا بالآيات التي وصفت من لم يحكم بما أنزل الله بأنه من الفاسقين ثم الظالمين ثم الكافرين، متجاهلًا في هذا، شأن سيد قطب، الآراء الأكثر نصاعة التي ترى أن الحكم هنا ليس معناه إدارة الدولة، إنما القضاء في الناس، ومتساوقًا في الوقت ذاته مع من ذهبوا إلى تكفير الحاكم استنادًا إلى الآيات نفسها، وهنا يعضد رأيه، المغلوط، باستعادة ما أتى في كتاب «الفتاوى» لابن تيمية حيث قال: “ومعلوم بالاضطرار من دين المسلمين، وباتفاق جميع المسلمين، أن من سوغ اتباع غير دين الإسلام أو اتباع شريعة غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر وهو ككفر من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض الكتاب”.
وهذا ، على أي حال، نقل فيه تجاوز، وبرهان ناقص؛ لأنه يشترط قيام الحاكم بدعوة الناس إلى ترك الإسلام، وهو إن كان قد حدث في القرون الوسطى من بعض الذين تعاونوا مع التتار، ولذا قال ابن تيمية فيهم رأيه هذا، فإن أحدًا من حكام اليوم لم يذهب في هذه الطريق، إنما تبنى أو تحمس أو شجع اجتهادًا آخر في الإسلام، لكن اختلافه مع ما يتبناه أتباع الجماعات والتنظيمات المتطرفة، جعلهم يرمونه، جهلًا وتعنتًا وتسرعًا، بأنه بالخروج من الملة، في ظلِّ زعمهم الدائم بأنهم هم فقط الممثل الشرعي والحصري والوحيد لما يصفونه بـ “صحيح الإٍسلام”.
وحتى يعطي فرج أقواله المرسلة الخاطئة دفعة في طريق الإقناع، فإنه يزعم أن حكام العالم الإسلامي مرتدون، وعملاء للاستعمار، ولا صلة لهم بالإسلام سوى أسمائهم، شأنهم في ذلك شأن أمراء طوائف القرون الوسطى، ولهذا يحرم إعانة الحكام، ويستحل أموالهم، ويوجب قتالهم، ليس بوصفهم طغاة بغاة إنما كفار، ويفرض على المنضم إليهم حكم التتار، أما من يجبر على هذا فيقتل أيضًا، ويبعث على نيته، فاتحًا طريقًا لـ “التترس” الذي تبناه الجهاديون وأتباع الجماعة الإسلامية فيما بعد، ويعني جواز قتل عوام المكرهين أو اللا مبالين والمحايدين وحتى الرافضين في صمت، طالما وُجدوا في مكان فيه من يستهدف المتطرفون قتله من رجال السلطة وأجهزة الأمن. كما يبرر “الانغماس”؛ ويعني الاندساس وسط الناس للقيام بعمليات مسلحة ضد السلطة ورجالها، بلا تردد، حتى لو أدى هذا إلى قتل الأبرياء.
ويرفض فرج اقتصار الجهاد على “الدفع”؛ أي رد العدوان وعدم خوض حرب إلا إذا كانت عادلة وهو ما يقره القرآن الكريم، ثم يحدد “مراتب القتال” وليست “مراحل القتال” حيث يرفض الأخيرة، ويراها إرجاء للفريضة الغائبة أي الجهاد بذرائع ضرورة الانتظار حتى تعد العدة، وتقوى الشوكة، أو انتظار وجود قيادة إسلامية يتوحد خلفها “المجاهدون” أو الاكتفاء بالدعوة على الأعداء وانتظار أن تحل بهم كارثة أو ينزل عليهم غضب الله، ليدفع في اتجاه تبني إجراءات تخص الحرب، دون انتظار، ومنها، البيعة على الموت، والدعوة إلى القتال، والتحريض عليه، ثم تبيان أساليبه وشروطه التي أوردها بعض الفقهاء، وتحديد الوجهة التي ينصرف إليها، وهي “العدو القريب” أي الأنظمة الحاكمة وكل من ينضوي تحته، وليست “العدو البعيد” أي العالم الخارجي الذي يناوئ المسلمين.
ويبدو فرج عازمًا على إعلاء فكرته ومسلكها، عبر تخصيص جزء في كتابه للرد على آراء الجماعات الإسلامية غير الجهادية وأهوائها، ومنها بالطبع جماعة الإخوان رافضًا مسلكها في تحصيل التمكين بالتدرج، وعبر التربية والتوسع في الدعوة، وبناء المجتمع العميق، والتسلل إلى المناصب والتخصصات المهمة في الدولة، وانتهاج الانتخابات طريقا لبلوغ السلطة. كما رد على من يدعون إلى هجرة المجتمع إلى مكان منعزل في الصحراء، مثلما فعلت ما سميت إعلاميًّا “جماعة التكفير والهجرة”، ورفض أيضًا من يعتقدون في أن الإصلاح يمضي عبر طلب العلم.
هكذا يبدو فرج غير مؤمن بفكرة “التغيير من أسفل” أو الإتكاء على الدور الدعوي البطيء للصفوة أو “الفئة المؤمنة”، ويشدد على التمسك بـ “التغيير من أعلى” أي تبني المسار الانقلابي على السلطة القائمة، بمحاربتها، تحت شعار “الدم هو الحل”، واعتبار مثل هذا التعامل معها هو من قبيل “رد الصائل”.
وكتبت كثيرٌ من الدراسات والكتب ردًّا على هذا الكتاب، على رأسها ما قدمه شيخ الأزهر الأسبق، الدكتور جاد الحق علي جاد الحق، في كتابه «نقض الفريضة الغائبة»، والذي بيَّن فيه أن من كفَّر مُسلماً أو وصفه بـالفسوق، ارتد عليه ذلك، إن لم يكن صاحبه على ما وصف، وأن الجهاد في الإسلام نوعان: جهاد في الحرب، ويكون بالقتال واليد والمال واللسان والقلب وَفق شروط معينة، وجهاد في السلم بدفع فجور وهوى النفس والشيطان.
كما رفض جاد الحق تكفير الحاكم لمجرد تركه بعض أحكام وحدود الله، وأكد أن قول فرج بأن أحكام الكفر تعلو البلاد الإسلامية، وإن كان أهلها مسلمين، أمر يكذبه الواقع، وأن الشورى هي أساس الحكم في الإسلام، وأن الخليفة مجرد وكيل للأمة، ويخضع لسلطانها، وتسميته أمر تحكمه عوامل سياسية، ولا تتعطل بسببها مصالح الناس.
كما ردّت دار الإفتاء المصرية على الكتاب، فرأَتْ أنه يخالف تعاليم الإسلام من خلال قيامه بتضييق مفهوم الجهاد وحصره في القتال ذي النزوع العدواني، وزعمه أن أحكام الإسلام غير مطبقة على عكس ما هو قائم، ووصفه ديار المسلمين بأنها صارت دار كفر؛ لأن في هذا افتئاتًا وتجنيًا، وجعله السبيل إلى تطبيق أحكام الله غير المنفذة هي القوة المسلحة، وتوظيفه آية السيف في غير موضعها لتبرير القتل والذبح، واستدعائه أحكامًا ظرفية تعلقت بزمنٍ مضى، حيث كانت بلاد المسلمين محتلة من التتار، وتطبيقها على زماننا، ثم انتهت، في تقريرٍ لها، إلى القول بأنه”: “كتيِّب سياسي لا ينتسب للإسلام، وكل ما فيه أفكارٌ سياسية؛ وهذا واضح من عناوينه مثل الخلافة والبيعة على القتال واضحًا في الكثير من عناوينه”.