تواصلُ الحكومةُ التركية، بقيادة رجب طيب أردوغان، عمليات التنقيب عن احتياطيات الغاز قبالة الساحل القبرصي، داخل المنطقة البحرية الاقتصادية التي تمتد قرابة 200 كم للجزيرة، ما دفع الاتحاد الأوروبي إلى فرض حزمة عقوبات على تركيا أوائل هذا الشهر. وبات ممكنًا الآن فرض عقوبات على أفراد أو شركات تركية تشارك في، أو مسؤولة عن، التنقيب في المياه القبرصية(1). ويُعد هذا تطورًا مهمًا لدولةٍ كان يُنظر، قبل فترةٍ غير طويلة، في منحها عضوية الاتحاد.
والآن، ستقدم الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي أسماء كيانات تركية لتجميد أصولها الأوروبية، وتقييد حركة سفرها داخل الاتحاد الأوروبي. كان من المفترض أن يؤدي التهديد بفرض عقوبات إلى ردع أردوغان أو إجباره على إعادة النظر في سياسته بشأن قبرص، التي رغم أنها أصبحت عضوًا في الاتحاد الأوروبي، في ظروف معقدة وغامضة في عام 2004، وتتلقى دعم بروكسل الكامل، لكن لا يبدو أنه يتم تنفيذ هذه التهديدات، بل إنه وبدلًا من ذلك، أطلق أردوغان تهديداتٍ مضادة، حيث هدد بإطلاق سراح مقاتلي داعش الأوروبيين، وإعادتهم إلى دولهم الأصلية. وقال أردوغان في 11 نوفمبر: “ربما لا تأخذون هذا على محمل الجد، لكن سيتم فتح هذه الأبواب إلى أوروبا، وسيتم إرسال عناصر داعش إليكم!”، “لا تحاولوا تهديد تركيا بسبب التطورات في قبرص”. وأضاف: “سواء قبلوهم أم لا، سنواصل إعادتهم”، وهكذا اختار أردوغان نقطة ضغط سياسية مؤثرة على صانعي القرار الأوروبيين(2).
المقاتلون العائدون
ذكرت شبكةُ البحوث والرصد في ستوكهولم، وهي مؤسسة على صلةٍ بالحركة المناهضة لأردوغان، أن تركيا بدأت بالفعل في إعادة بعض هؤلاء الإرهابيين إلى أوروبا(3). وقد تم بالفعل ترحيل ثمانية منهم على الأقل بصورةٍ رسمية، حيث هبط أحد الرعايا البريطانيين في مطار هيثرو في منتصف نوفمبر(4). وهنا تجدر الإشارة إلى أن تيريزا ماي، رئيسة الوزراء البريطانية السابقة، قالت ذات مرة إن هناك “400 شخص من المملكة المتحدة انضموا إلى تنظيم داعش في سوريا”(5). وتشير تقديرات “المركز الدولي لدراسة التطرف”، في كينجز كوليدج لندن، إلى أن قرابة 366 مواطنًا بريطانيًا قد شاركوا في الحرب في سوريا؛ اعتبارا من ديسمبر 2013. ومن المؤكد أن العائدين من داعش، المهزومين في ساحة المعركة، لديهم مشكلات، سواء مع أوطانهم أو مع العالم بأسره.
تقديرات متناقضة
من غير الواضح عدد الجهاديين الداعشيين الموجودين في تركيا الآن، حيث تقدم أنقرة رواياتٍ غير متسقة. بداية، تم تقديم الرقم الأكثر حداثة عن سجناء داعش، في السجون التركية، من قبل وزير العدل التركي عبد الحميد جول في 24 أكتوبر 2019، حيث قال إن هناك 1,163 منهم في السجون التركية(6). ومع ذلك، في بيان سابق، صدر في فبراير 2018، حدد جول الرقم بـ 1,354، ما يعني أن هناك 191 سجينًا في عداد المفقودين.
ومع ذلك، يبدو الرقم الذي قدمه الوزير ضئيلًا بالنسبة لمزاعم الرئيس أردوغان نفسه، الذي، عند حديثه في 10 أكتوبر، حدد العدد بـ 5,000 فرد، وهو عدد مبالغ فيه، بلا شك، ليمنحه مزيدًا من النفوذ على الأوروبيين، الذين يخشون من استعادة مواطنيهم المنشقين، وبدرجة أقل الأمريكيين(7). إن ادعاءات المقاتلين الأكراد الذين تمت مهاجمتهم في التوغل التركي في شمال شرق سوريا، في شهر أكتوبر، بأن الوكلاء الأتراك كانوا يطلقون سراح سجناء داعش من السجون الكردية يعزِّز، عن غير قصدٍ، يد تركيا ضد أوروبا؛ لأنه يجعل تهديدات أردوغان تبدو أكثر واقعية(8).
هذا الافتقار إلى الاتساق حول عدد إرهابيي داعش الذين تحتجزهم تركيا يمثِّل مشكلة عامة. عندما تحدث في مؤتمر ميونيخ الأمني في فبراير 2018، صرح رئيس الوزراء التركي السابق بن علي يلدريم بأن بلاده تحتجز 10,000 سجين من داعش. وفي نوفمبر 2018، حدد أردوغان عدد سجناء داعش في السجون التركية بحوالي 2,000 سجين. وبعد ثلاثة أسابيع من قول أردوغان أن عددهم 5,000 سجين، نقلت وكالة الأناضول الرسمية في 29 أكتوبر قوله إن العدد في الواقع هو 13,696 سجينًا، وهذا يشير إلى أحد أمرين، إما إلى حدوث حملة سريعة ودقيقة على داعش، أو إلى أن الرقمين غير موثوقٍ بهما. والجدير بالذكر أن وزير الداخلية التركي قد توقف عن مشاركة المعلومات المتعلقة بالأشخاص الذين قُبض عليهم بتهم الإرهاب؛ اعتبارًا من 1 يناير 2019.
وفي هذا الصددِ، قال كمال علام المحلل العسكري الذي يقيم في لندن لـ”موقع عين أوروبية على التطرف”: “لقد أدى تطور الحرب السورية إلى انعكاسات على علاقة أردوغان مع الاتحاد الأوروبي، وأدت إلى تراجع كبير فيها، وعندما بلغت الحرب ذروتها في عام 2015، تحول أردوغان بشكل متزايد إلى تكتيكات الابتزاز، أولاً مع اللاجئين ثم مع المشتبه في تورطهم في الإرهاب… والعقوبات القبرصية هي مقدمة للمزيد… فهل ستستخدم تركيا سجناء داعش كورقة مساومة للحصول على تنازلات من الاتحاد الأوروبي؟”
من جانبه أضاف جنكيز أكتر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة أثينا، لموقع “عين أوروبية على التطرف”: “ليس من قبيل المبالغة القول بأن أنقرة تستخدم داعش وغيرهم من الإرهابيين الجهاديين لتحقيق أجندتها في أوروبا وابتزازها… للأسف هذا الابتزاز الذي يقوم بع أردوغان لن ينجح”.
تقييم البرلمان الأوروبي
في 20 نوفمبر 2019، نُظِّم مؤتمر استغرق ساعتين في البرلمان الأوروبي في بروكسل، لتقييم طلب عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، في ضوء قائمتها المتزايدة من المشكلات الإقليمية والدولية والمحلية. ولم يكن مستغرباً أن تقاطع تركيا الحدث، في ضوء إدراكها أنه سيشهد توجيه انتقادات شديدة لأردوغان وحزبه العدالة والتنمية بسبب الطريقة التي أدارا بها الحكومة، في تحد لمعايير الاتحاد الأوروبي، وهي الانتقادات التي كان من الممكن أن لا يستاء منها الأتراك كثيراً لو أن عملية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي لم تسر بهذه الطريقة المخادعة.
من جانبها، قدمت فريديريكا ريس، نائب رئيس مجموعة تجديد أوروبا، أكبر مجموعة وسطية تنشط حاليًا في البرلمان الأوروبي خلال الكلمة الافتتاحية قائلة إن تركيا لم تلب معظم التوقعات الأوروبية. وأن المطالب التركية للعضوية لم تعد ذات معنى الآن، لاسيما بعد التوغل العسكري الأخير ضد المسلحين الأكراد في شمال شرق سوريا، وشراء معدات عسكرية متطورة من روسيا (تسبب مشكلات في التشغيل المشترك لحلف الناتو)، وفي ظلِّ حالة الانسداد السياسي المستمر بشأن قبرص. وأضاف مدير مجلس الاتحاد الأوروبي، كيم فريدبرج، أن تركيا تبتعد، يومًا بعد الآخر، عن القيم الأوروبية؛ مثل الحرية، واستقلال القضاء، وسيادة القانون.
انتهاكات حقوق الإنسان
يُدرك أردوغان الآن أن تركيا لن تنجح في الحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي أبدًا. ذلك أن طلب بلاده ظل معلقًا منذ عام 1997، وهذا مستمر قبل فترة طويلة من غضب الأوروبيين بشأن انتهاكات حقوق الإنسان في تركيا، خاصة طريقة تعامل الحكومة التركية مع احتجاجات “حديقة جيزي” في عام 2013، والتطهير الواسع النطاق للجهاز الحكومي في أعقاب محاولة انقلاب يوليو 2016. والآن، أدى التوغل العسكري في أكتوبر 2019 في سوريا، والتوترات مع قبرص، إلى تفاقم الوضع الدبلوماسي الخطير بالفعل.
لا شك أن تدهور الحريات المدنية في تركيا بعد عام 2016 يمثل مشكلةً كبيرة بالنسبة للأوروبيين. لقد حمّلت أنقرة فتح الله جولن، الزعيم الإسلامي الذي يتخذ من الولايات المتحدة مقرًا له، المسؤولية عن محاولة الانقلاب وتحركت لإقصاء أنصاره -الذين كانوا، حتى عام 2013، متحالفين مع أردوغان- من المؤسسات المدنية والعسكرية. نادرًا ما يكون القمع محدودًا وانتقائيًا، وقد ثبت ذلك في تركيا. ذلك أنه خلال عملية إقصاء أتباع جولن من أجهزة الدولة، انتهزت حكومةُ حزب العدالة والتنمية الفرصةَ للقيام بحملة قمع عامة ضد المنشقين، حيث زُج بآلاف الأشخاص في السجون بشكل تعسفي، بعضهم بسبب “جريمة” طفيفة مثل التعبير عن وجهات نظر معادية للحكومة في تغريدة.
شملت إجراءاتُ أردوغان القمعيةُ تدميرَ الإعلام المستقل في تركيا. وتحت غطاء إقصاء أتباع جولن من المواقع التي يمكن أن يمارسوا من خلالها التحريض على الفتنة، سيطرتِ الحكومةُ التركية على 90٪ من وسائل الإعلام في الدولة، وأصبحت تركيا تحتل الآن المرتبة رقم 157 من أصل 180 في مؤشر حرية الصحافة لعام 2019(9). في سوريا، تورط وكلاء تركيا العرب الذين استخدمتهم تركيا في هذا التوغل في عملياتِ سلب ونهب، واعتبرتها أوروبا جرائم حرب تسيء إلى قيمها، على الرغم من أن أوروبا أثبتت قدرتها على استيعاب أمورٍ أخرى أثَّرت سلبًا على قيمها في سوريا دون رد فعل(10).
قبل التوغل التركي في سوريا، في (يناير) 2018، عندما زار أردوغان قصر الإليزيه، قيل له أن ينسى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وفي إشارةٍ إلى طلب العضوية المقدم من تركيا، قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون “سأكذب إن قلت إن بإمكاننا فتح فصولٍ جديدة”، مضيفًا “أن التطورات الأخيرة في تركيا لا تسمح بأي تقدم”(11). وقال أردوغان، إن تركيا انتظرت طويلًا بالفعل، ولا ترغب في الانتظار لفترةٍ أطول من ذلك.
يبدو أن هذا لم يُشكِّل مفاجأة لأردوغان، حيث سعت تركيا تحت قيادته لتنويع علاقاتها واستثمار الوقت والجهد والمال في أي مكان آخر: في السودان والصومال وتشاد وفي جميع أنحاء العالم العربي والإسلامي. كما أن أردوغان يحث أوروبا باستمرار بالقول إنه ينبغي الترويج لنسخة حكومته من الإسلام المعتدل في أوروبا، مدعيًا أنها ستثري أوروبا، وتُمكنها من التعامل بصورة أفضل مع المسلمين. وفي أكتوبر 2017، قال أردوغان: “أوروبا من دون تركيا لن تصل إلا إلى العزلة واليأس والصراع الأهلي. تركيا لا تحتاج إلى أوروبا. أوروبا هي التي تحتاج (تركيا)”(12).
في السنوات الأخيرة، ضعفت أصوات الاتحاد المؤيدة للانخراط مع تركيا، ويُعزى ذلك جزئيًا إلى حالة حقوق الإنسان في تركيا، وإلى أن المملكة المتحدة -أقوى صوت يتبنى هذا الموقف- تغادر الآن الاتحاد. ذلك أن لدى المملكة المتحدة علاقاتٍ جيدة مع تركيا لأسباب تاريخية مختلفة، وكانت ترى أن تركيا المندمجة بشكلٍ وثيق مع الاتحاد الأوروبي يمكن أن تصبح -مثل دول الاتحاد السوفييتي السابق- التي تم جلبها على طريق التحول الديمقراطي. وأن من شأن عضوية الاتحاد أن تكفل استقلال القضاء التركي، وتمكين المجتمع المدني، وكبح سلطات وكالات الاستخبارات التركية، وفق معايير كوبنهاجن ]القواعد التي تحدد إذا ما كانت الدولة مؤهلة لعضوية الاتحاد[. وهذا لا يشمل قضايا حقوق الإنسان فحسب، وإنما أيضًا استقرار مؤسسات الدولة ووضع حد لهيمنة الجيش على السياسة. ورغم أنه تم تدجين الجيش تحت قيادة أردوغان، فإن الاتجاه ذهب إلى مركزيةٍ من نوع آخر.
بعد أن أجرى أردوغان استفتاء عام 2017 لتعديل النظام السياسي، ومنح الرئاسة صلاحيات تنفيذية، وإضعاف المؤسسات الحكومية الأخرى التي يمكن أن تُقيده، قال وزير الخارجية الألماني زيجمار جابرييل إن تركيا لن تنضم إلى الاتحاد الأوروبي طالما ظل أردوغان في الحكم، مضيفًا أن “الحكومة التركية وأردوغان يبتعدان سريعًا عن كلِّ ما تمثِّلُه أوروبا”(13). وعقب ذلك، قال الاتحاد الأوروبي إن تركيا أردوغان لا تتوافق مع معايير كوبنهاجن(14).
الموقف القبرصي
ظل الاتحاد الأوروبي شهورًا عدة يناقش الإجراءات التي يجب اتخاذها حيال النزاع حول قبرص، وربما الأزمة المباشرة الكبرى في العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وتركيا. كان الخيار الأول هو فرض العقوبات، وقد تم إعداد تلك العقوبات الآن. الخيار الثاني أن تدعو جمهورية قبرص فرنسا لإنشاء قاعدة بحرية في الجزيرة لموازنة النفوذ التركي وردع أي اعتداءات محتملة في المستقبل(15). أما الخيار الثالث فهو رفع القضية إلى الإنتربول، بحيث يتم إلقاء القبض على طواقم السفن التركية التي تنقب في المياه القبرصية. ومن المؤكد أن هذا كان سيدفع أردوغان إلى التصعيد، مثل منع شركات الحفر الدولية من الدخول في المياه الإقليمية. وهذا ما فعله في الواقع مع شركة إيني الإيطالية في عام 2018(16). وبغية تجنبِ مثل هذه النتيجة، أعلنت كلٌّ من “إيني” و”توتال” أنهما لن تعملا في قبرص حتى يتم حلُّ النزاع مع تركيا(17).
من جانبها، تصر تركيا على أن عمليات الحفر تتم داخل أراضيها؛ لأن شمال قبرص، المنطقة ذات الأغلبية التركية -التي كانت تخضع للاحتلال التركي منذ عام 1974- لها حقوق في المنطقة الاقتصادية لجمهورية قبرص. وفي هذا الصدد، قال فؤاد أقطاي نائب الرئيس التركي: “يوجد شخصان في هذه الجزيرة، لذا يجب أن يكون هناك تقاسم عادل”(18). وفي 28 أكتوبر، قال السفير التركي في اليونان إن سفن الحفر التركية لن تغادر المياه القبرصية، ما لم تُشرك نيقوسيا جمهورية شمال قبرص التركية في اتخاذ القرارات المتعلقة بعمليات التنقيب في المستقبل. وفي الواقع، أعرب الجزء اليوناني من الجزيرة عن رغبته في مشاركة 30٪ من موارد الطاقة مع جمهورية شمال قبرص التركية(19).
فاروشا
تنطوي الأزمة القبرصية على مشكلةٍ محددة وشائكة، تتمثل في وضع فاروشا، المنطقة الجنوبية المهجورة من مدينة فاماجوستا القبرصية، التي هرب سكانها بعد الانقلاب اليوناني والغزو التركي الذي أعقب ذلك في عام 1974. قرارات الأمم المتحدة بشأن هذه القضية تنصُّ على أنه لا يمكن إعادة توطين المنطقة إلا بسكانها القبارصة اليونانيين الأصليين. لكن أردوغان لديه خطط أخرى، إذ يريد إعادة فتح المدينة بالقوة، وتحويلها إلى مركز سياحي لجمهورية شمال قبرص التركية، وتركيا. وفي يوليو الماضي، أرسل أردوغان موظفي الخدمة المدنية إلى مدينة الأشباح، في محاولة على ما يبدو لجرد المنازل والأسواق والكنائس المهجورة. وتعتقد قبرص أن عملية الجرد هذه هي مجرد حيلة من قبل الحكومة التركية لإعادة توطين فاروشا بالأتراك والقبارصة الأتراك، بدلًا من السكان الأصليين الذين كانوا يقيمون في السابق في المنطقة، في تجاهلٍ تام لقرارات الأمم المتحدة.
في أغسطس 2019، رتَّب قدرت أوزرصاي وزير خارجية شمال قبرص التركية، زيارةً لصحفيين من تركيا، وجمهورية شمال قبرص التركية، إلى فاروشا لأول مرة منذ 45 عامًا، في حين وعد رئيس وزراء جمهورية شمال قبرص التركية إرسين تتار بتحويل فاروشا إلى لاس فيجاس أخرى(20). وأرسلوا خطابًا إلى الأمم المتحدة يبلغونهم بنشاطهم في فاروشا، لكن الأمم المتحدة لم تتخذ أي إجراء، باستثناء تذكير جميع الأطراف بضرورة التزامهم بقراري مجلس الأمن الدولي رقمي 550 و789 اللذين تم تبنيهما في عامي 1984 و1992، على التوالي. قرار مجلس الأمن رقم 550 يعتبر أن أي محاولة لتوطين أي جزء من فاروشا بأشخاصٍ غير سكانها الأصليين “غير شرعي”، ويدعو إلى نقل هذه المنطقة إلى إدارة الأمم المتحدة، بينما يحث قرار مجلس الأمن رقم 789 على أن تخضع فاروشا مباشرة لسيطرة قوة الأمم المتحدة لحفظ السلام في قبرص. وقال مجلس الأمن الدولي: “يجب عدم اتخاذ أي إجراء لا يتفق مع هذه القرارات في فاروشا”.
وفي ضوء تطور السلوك التركي في فاروشا -من عملية الجرد إلى الطموحات لتحويلها إلى لاس فيجاس إقليمية- خلال إطارٍ زمني يتزامن مع الأزمة السورية، وأزمة الغاز القبرصية، يبدو أن أنقرة تستخدم فاروشا كورقة مساومة في الشؤون الإقليمية. وهذا ليس موقفًا جديدًا للزعماء الأتراك. وفي هذا الصدد، يقفز إلى الأذهان حقيقة أن كنان إفرين، قائد انقلاب عام 1980 في تركيا، وحاكمها العسكري لفترة طويلة، كان قائد الوحدة التركية التي دخلت فاروشا وأغلقتها قبل احتلالها عام 1974. وقد قال إفرين آنذاك: “لم يكن الاستيلاء على فاروشا من بين أهدافنا وخططنا… عندما بدأ القبارصة اليونانيون في إطلاق النار، رد عليهم جنودنا، وخضعت المدينة لسيطرتنا دون رغبتنا. ومن ثم أغلقناها أمام المدنيين لاستخدامها في مفاوضات لاحقة”(21).
الخلاصة
لقد تركت سياسة غضّ الطرف التي سبق وتبناها الاتحاد الأوروبي مع تركيا إلى تداعياتٍ مقلقة في أوروبا. وإذا ما قبلت أوروبا أو غضت الطرف عن طموحات أردوغان في قبرص وشمال سوريا، فسوف تشجعه على المزيد من الطلبات في وقتٍ لاحق. ذلك أن أردوغان يراهن على عدم وجود شهية غربية لمواجهة تركيا لأن تركيا مفيدة، أو يمكن أن تكون مفيدة، في العديد من القضايا في جميع أرجاء العالم، بدءًا من احتواء روسيا إلى منع عودة داعش. ولا شك أن تراجع الولايات المتحدة في الشرق الأوسط –لا سيما رفض الرئيس دونالد ترامب الانتقام من إيران بسبب الهجوم على أرامكو في المملكة العربية السعودية- شجع أردوغان على الاعتقاد بأنه قادر على شق طريقه في المنطقة.
إن جميع تصرفات أردوغان لم تُقابل من الأمريكيين حتى الآن سوى بالعبارات الطنانة والتهديد بالعقوبات، لكن لم يُتخذ أي إجراء جوهري. والآن يتعرض ترامب لضغوط لفرض عقوبات على تركيا بسبب شرائها منظومة الصواريخ الروسية إس-400، والاستفادة من قانون “مكافحة خصوم الولايات المتحدة” المعروف اختصارًا بـ (كاتسا).
وفي الشهر الماضي، أقرَّ مجلسُ النواب الأمريكي مشروعي قانونين لمعاقبةِ تركيا على التوغل السوري، أحدهما يعترف بالمذابح الأرمنية التي وقعت عام 1915 بأنها تمثل إبادة جماعية، والآخر حزمة عقوبات. لكن مشروعات القوانين التي تنطلق من مجلس النواب يجب أن تمر عبر مجلس الشيوخ، ويمكن لترامب بعد ذلك استخدام الفيتو لمنع تنفيذها، ما لم تحصل على موافقة الثلثين، أي “الأغلبية الساحقة”. وحتى لو تم إقرار مثل هذه القوانين، فمن غير المرجح أن تدفع أردوغان إلى تغيير سلوكه بشأن قبرص أو سوريا؛ لأنها ستكون تكلفة ضئيلة بالنسبة لأردوغان لتأمين مكانته الداخلية، ونفوذه الإقليمي، وتركته.
* يسعى موقعُ «عين أوروبية على التطرف» إلى نشرِ وجهاتِ نظرٍ مختلفة، لكنه لا يؤيد بالضرورة الآراء التي يُعبِّر عنها الكتّابُ المساهمون، والآراء الواردة في هذا المقال تُعبِّر عن وجهةِ نظر الكاتب فقط.
**باحث وأستاذ جامعي سوري، متخصص في الدراسات التاريخية، عمل باحثا في مركز كارنيجي، مؤلف كتاب: تحت الراية السوداء- على مشارف الجهاد الجديد”، صدر في 2015.
المراجع:
[1] Dudley, Dominic. “Europe lines up sanctions against Turkey over drilling in Cypriot Waters,” Forbes (November 11, 2019): https://www.forbes.com/sites/dominicdudley/2019/11/11/europe-sanctions-turkey/#14756959255b
[2] “Turkey’s Erdogan says talks with E.U. may end over Cyprus sanctions,” Reuters (November 12, 2019): https://www.reuters.com/article/us-cyprus-turkey-eu/turkeys-erdogan-says-talks-with-eu-may-end-over-cyprus-sanctions-idUSKBN1XM19C
[3] Levent, Kenez. “Erdogan gov’t has released hundreds of ISIS prisoners from Turkish jails,” Nordic Monitor (November 2, 2019): https://www.nordicmonitor.com/2019/11/erdogan-govt-has-released-hundreds-of-isis-prisoners-from-turkish-jails/
[4] “Briton arrested at Heathrow after Turkey said it deported ISIS suspect,” The Guardian (November 14, 2019): https://www.theguardian.com/uk-news/2019/nov/14/man-arrested-at-heathrow-on-suspicion-of-syria-related-terror-offences
[5] “Is Therese May right about British women jihadis joining ISIS to fight in Syria” The Telegraph (June 25, 2014): https://www.telegraph.co.uk/women/womens-life/10925034/Is-Theresa-May-right-about-British-women-jihadis-joining-Isis-to-fight-in-Syria.html
[6] “Turkey: Erdogan government has released hundreds of Islamic State prisoners from jails,” Jihad Watch (November 7, 2019): https://www.jihadwatch.org/2019/11/turkey-erdogan-government-has-released-hundreds-of-islamic-state-prisoners-from-jails
[7] Levent, Kenez. “Erdogan gov’t has released hundreds of ISIS prisoners from Turkish jails,” Nordic Monitor ( November 2, 2019): https://www.nordicmonitor.com/2019/11/erdogan-govt-has-released-hundreds-of-isis-prisoners-from-turkish-jails/
[8] Seligman, Lara. “Turkish backed forces are freeing Islamic State prisoners,” Foreign Policy (October 14, 2019): https://foreignpolicy.com/2019/10/14/turkish-backed-forces-freeing-islamic-state-prisoners-syria/
[9] “2019 World Press Freedom Index” Reporters without Borders: https://rsf.org/en/ranking
[10] Khattab, Asser. “Filled with hatred and lust for blood: Turkey’s proxies in northern Syria accused of abusing civilians” Washington Post (November 10, 2019): https://www.washingtonpost.com/world/middle_east/filled-with-hatred-and-a-lust-for-blood-turkeys-proxy-army-in-northern-syria-accused-of-abusing-civilians/2019/11/09/345e2fd6-0175-11ea-8341-cc3dce52e7de_story.html
[11] “Macron says no progress possible on Turkey E.U. bid,” France 24 (January 5, 2018): https://www.france24.com/en/20180105-macron-says-no-progress-possible-turkey-eu-bid
[12] Aydogan, Merve. “Erdogan: Turkey’s accession could solve E.U. problems” Anadolu Agency AA (October 23, 2017): https://www.aa.com.tr/en/europe/erdogan-turkeys-accession-could-solve-eu-problems/945494
[13] Nasr, Joseph. “Germany warns Turkey it will never join E.U. while Erdogan remains in-charge,” The Independent (August 24, 2017): https://www.independent.co.uk/news/world/europe/turkey-eu-membership-germany-warning-erdogan-president-a7911456.html
[14] Michael, Peter. “E.U. Council issues strong message about Turkey’s obligations,” Cyprus Mail (June 26, 2018): https://cyprus-mail.com/2018/06/26/eu-council-issues-strong-message-about-turkeys-obligations/
[15] “Cyprus plans Mari Naval Base Expansion to host French navy ships,” Naval News (May 23, 2019): https://www.navalnews.com/naval-news/2019/05/cyprus-plans-mari-naval-base-expansion-to-host-french-navy-ships/
[16] Cyprus accuses Turkey of blocking ship again in gas exploration standoff, Reuters (February 23, 2018): https://www.reuters.com/article/us-cyprus-natgas-turkey/cyprus-accuses-turkey-of-blocking-ship-again-in-gas-exploration-standoff-idUSKCN1G71MF
[17] “ENI chief: No drilling in Cyprus if Turkish warships appear,” Associated Press (October 10, 2019): https://apnews.com/9858ce3b4b3f4f02abaf758d63242c47
[18] Turkey will not allow Turkish Cypriots to be cheated of rights, VP Oktay says, Daily Sabah (November 6, 2019): https://www.dailysabah.com/diplomacy/2019/11/06/turkey-will-not-allow-turkish-cypriots-to-be-cheated-of-rights-vp-oktay-says
[19] Nedos, Vassilis. “Turkish Ambassador: Drillships to remain in Cyprus until resources are shared” Ekathimerini, (October 28, 2019): http://www.ekathimerini.com/245908/article/ekathimerini/news/turkish-ambassador-drillships-to-remain-in-cyprus-until-resources-are-shared
[20] “Turkey wants to make empty Varosha on Cyprus like Las Vegas,” The National Herald (October 27, 2019): https://www.thenationalherald.com/264667/turkey-wants-to-make-empty-varosha-on-cyprus-like-las-vegas/
[21] Yinanc, Barcin. “The reopening of ghost town Varosha of Cyprus,” Hurriyet Daily News (September 3, 2019): http://www.hurriyetdailynews.com/opinion/barcin-yinanc/the-reopening-of-ghost-town-varosha-in-cyprus-146242