لطالما كان “الصليبيون والصهاينة” الأعداء الرئيسيين للتنظيمات الجهادية، غير أن جمهورية الصين الشعبية اجتذبت على مدى العقد الماضي اهتمام هذه الجماعات. وحدث هذا التطور على إثر السياسة الداخلية للصين تجاه أقليتها الدينية والعرقية “الأويغور”، ما أثار عداء الجماعات الارهابية الإسلامية لبكين. علاوة على ذلك، تمر أجزاء من البنية التحتية الحيوية لطريق الحرير الجديد عبر المناطق التي تنشط فيها التنظيمات الجهادية. والسؤال هو: كيف ستحمي الصين نفسها وخططها الاستراتيجية؟
تقليديًا، ركّزت الرواية الجهادية عن الصين بالأساس على سياسات بكين التمييزية تجاه الأويغور وحملة التطهير العرقي التي تشنها في شينجيانغ (التي يطلق عليها الانفصاليون المسلمون تركستان الشرقية). ومع ذلك، يركز الجهاديون الآن أيضًا على النفوذ المتنامي للصين في الدول الإسلامية، ولاسيّما حيث توجد ممرات اتصال مخطط لها في أوراسيا. وترجع أهمية شينجيانغ بالنسبة لبكين إلى حد كبير إلى موقعها الاستراتيجي الذي يربط الصين بآسيا الوسطى.
تنامي مكانة الصين عالميًا
رغم أن التعددية القطبية المتنامية تتيح للصين فرصًا جديدة، فإنها تجعلها عُرضّة لتهديدات جديدة أيضًا. وفي حين استهدف الجهاديون الغرب تقليديًا (الولايات المتحدة خاصة)، لفت النفوذ السياسي والمالي المتنامي للصين انتباههم. وكما كانوا يستنكرون التأثيرات السلبية للثقافة الغربية على طريقة حياة المسلمين والحكومات الفاسدة في الدول الإسلامية، أصبحت الصين هدفًا جديدًا للانتقاد الجهادي.
لقد تمكّنت الصين حتى الآن من الامتناع عن التدخل في السياسات الداخلية للدول الإسلامية، وتحاشي الخطاب الذي يمكن أن يثير غضب مجتمعاتها. بل إن بكين حافظت على علاقة جيدة مع حركة طالبان. ومع ذلك، يبقى السؤال: هل ستتمكن بكين من مواصلة سياساتها الدبلوماسية مع تنامي مكانتها عالميًا؟
السخط الاجتماعي من مبادرة الحزام والطريق
رغم أن العديد من الحكومات تريد الانضمام إلى مبادرة الحزام والطريق، أملًا في زيادة الاستثمار الأجنبي المباشر والنمو الاقتصادي، فإن السخط الاجتماعي آخذ في الظهور بسبب هذه التعاملات. ويتزايد الغضب تجاه الصين في ظل ورود تقارير عن الفساد، وانعدام الشفافية، والاستثمار المهدر، وظروف العمل المزرية، واستغلال الموارد، وتزايد الديون. وهذه الظروف تُشكّل أيضًا أرضيّة خصبة مثالية للتطرف.
وبالفعل، تعتبِر تنظيماتٌ جهاديةٌ إقليميةٌ عدةٌ الصين عدوها، ومنها “الحزب الإسلامي التركستاني”، و”حركة أوزبكستان الإسلامية”، و”اتحاد الجهاد الإسلامي”، و”جماعة أنصار الله”، و”حركة طالبان باكستان”، بالإضافة إلى ركوب جماعات إرهابية دولية قوية أيضًا، مثل تنظيم “داعش” وتنظيم “القاعدة”، الموجة المناهضة للصين أيضًا.
وفي هذا الصدد، شبّه مفتي حركة أوزبكستان الإسلامية أبو ذر البورمي، وهو من ميانمار (بورما)، الصين بأنها مثل مستعمري “شركة الهند الشرقية البريطانية”، وانتقد الصين لدعمها الحكومة الباكستانية في حربها ضد التنظيمات الإرهابية ومساعدة ميانمار في اضطهادها لمسلمي الروهينجا. وبالفعل، وصف البورمي الصين، في اجتماع مع حركة طالبان باكستان والتنظيمات الإرهابية الناطقة بالروسية في عام 2013، بأنها “العدو رقم 1 التالي”. وقد اتهمت هذه الجماعات الحكومة الباكستانية بتفضيل الاستثمارات الصينية وتسليم الصين السيطرة على ميناء جوادر، الذي يُعد البوابة إلى الخليج العربي.
وحذت تنظيمات أخرى حركة أوزبكستان الإسلامية، إذ تَعتبر حركةُ طالبان الصينَ زعيمة نظام عالمي معادٍ للمسلمين. وأصدر تنظيم داعش، في مجلة “النبأ”، تعليمات لأتباعه بالاستعداد لحرب طويلة ضد الصين “الوثنية” التي تدعم الحكومات المحلية المستبدة. وفي عام 2014، وصف زعيم تنظيم داعش أبو بكر البغدادي الصين بأنها واحدة من الدول التي تقمع المسلمين. وفي عام 2014 أيضًا، أعلنت مجلة (العودة) “Resurgence” التي يصدرها تنظيم القاعدة أن الصين عدو، مشيرة إلى تمييزها ضد الأويغور في “تركستان الشرقية”. وفي عام 2015، وصف تنظيم القاعدة في الهند الصين بأنها “العدو العالمي للأمة”.
انطلاق الهجمات الإرهابية
في خضم هذه الاتهامات، نُفذت عمليات جهادية عدة ضد أهداف صينية خارج الصين. ونجحت حركة طالبان باكستان في تنفيذ هجوم في بكين في عام 2013 حيث اصطدمت سيارة بحشد في ميدان تيانانمين، ما أسفر عن مقتل خمسة أشخاص. كما نفّذت هجومًا بالسكاكين في عام 2014 في محطة قطارات كونمينغ في مقاطعة يونان أسفر عن مقتل 29 شخصًا.
وخارج الصين، نفذت حركة طالبان باكستان هجومًا انتحاريًا على السفارة الصينية في العاصمة القرغيزية بيشكيك في عام 2016، حيث اصطدمت سيارة محملة بالمتفجرات ببوابات السفارة. وبعد عام واحد، اختطف تنظيم داعش عاملين صينيين وقطع رأسيهما في بلوشستان. وتسبب هذا الحادث في الحد من حرية حركة الصينيين في كويتا، وفي يناير 2021، قطع تنظيم داعش رؤوس 11 من عمال مناجم الفحم الشيّعة. وعلى الرغم من أن هذا الهجوم المحدد لم يكن موجهًا ضد الصين أو المصالح الصينية، فقد عزا الخبراء تدهور الوضع في بلوشستان إلى “مبادرة حزام واحد، طريق واحد“. وفي أبريل 2021، مرة أخرى في كويتا، استهدفت حركة طالبان باكستان نونج رونج، سفير الصين في باكستان. وقد انفجرت قنبلة قبل وصوله بخمس دقائق فقط، وأسفرت عن مقتل خمسة أشخاص وإصابة 12 آخرين.
ومع تعزيز الصين نفوذها العالمي، يعتقد المحللون أنه سيكون هناك المزيد من الهجمات الارهابية ضد بكين ومصالحها. وهناك بالفعل تهديدات من تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي بمهاجمة العمال الصينيين في شمال أفريقيا، وهناك نشاط إرهابي متنامٍ يستهدف الاستثمارات الصينية في منطقة الساحل. وتدرك التنظيمات الإرهابية أن الصين ستحتاج، عاجلًا أم آجلًا، إلى التدخل بشكل مباشر أو غير مباشر في إحدى الدول الإسلامية من أجل حماية مصالحها. وبالنسبة للتنظيمات الجهادية، يُشكّل الصراع المحتمل تهديدًا، ولكنه أيضًا فرصة لتطرف السكان وتجنيد الأعضاء.
اللافت للنظر أن تنظيم داعش التزم الصمت بشأن محنة الأويغور، لكن الصمت يثبت قدرة داعش على تحديد أولوياته، كما أشار إليوت ستيوارت، محلل شؤون الشرق الأوسط والمختص في السياسة الخارجية لمكافحة الإرهاب، في عام 2020. إن الأولوية القصوى للتنظيم هي طرد الولايات المتحدة من أفغانستان، وهو حريص على عدم تشجيع التعاون الأمريكي-الصيني في مكافحة الإرهاب في المنطقة. وهذا يمكن أن يفسّر صمته فيما يتعلق بقضية الأويغور. ومع ذلك، يعتقد المحللون أنها مسألة وقت فقط قبل أن تصبح الصين واحدة من الأعداء الرئيسيين لداعش.
هل الصين عرضة للهجمات الإرهابية؟
يطرح التحليل المذكور أعلاه سؤالًا مهمًا: ما مدى إمكانية تعرّض الصين لهجمات إرهابية؟ بداية، من الصعب تنفيذ هجمات داخل الصين. ذلك أن بكين تعزز خدماتها الأمنية مع تعزيز سيطرتها على شبكات التواصل الاجتماعي، ما يزيد من صعوبة إمكانية شن هجمات ضدها. كما أن سيطرة بكين على شبكة الإنترنت تجعل من تجنيد الجماعات الإرهابية الذئاب المنفردة وتحويلهم للتطرف أمرًا شديد الصعوبة. علاوة على ذلك، فإن حقيقة تنامي القبضة السلطوية للصين، تقلل من فرص السخط الاجتماعي. ولذلك، فإن تنفيذ هجوم داخل الصين سيكون صعبًا جدًا على الجماعات الإرهابية. ومن الأهمية بمكان أيضًا ملاحظة أن سكان شينجيانغ يفتقرون للتنظيم الجيد ولا توجد فرص لنجاح جهود التطرف. ومع ذلك، من المرجح أن نشهد زيادة في الهجمات على المواطنين الصينيين والبنية التحتية للصين ومصالحها في الخارج، حيث تكون الجماعات الإرهابية أكثر قدرة على تحدي توسع الصين واتصالاتها في أوراسيا.
الوضع الحالي الذي تجد الصين نفسها فيه يشبه إلى حد كبير التحديات التاريخية لطريق الحرير. ولعل كهوف موغاو- المعروفة أيضًا باسم كهوف ألف بوذا- الموضوعة عند مفترق طرق طريق الحرير، تحتوي على لوحات جدارية تاريخية تؤكد ذلك. ومن بينها لوحة من القرن التاسع تُظهر سرقة التجار. ولحماية هذه التجارة، وسّعت أسرة تانغ سور الصين العظيم، وأقامت أيضًا حاميات عبر طريق الحرير، ما زاد من نفوذها على وادي فرغانة الواقع عند تقاطع قيرغيزستان وأوزبكستان وطاجيكستان. واتسمت فترات السلطة المركزية بزيادة الأمن والتجارة على طول طريق الحرير، في حين كان تراجعها مصحوبًا بانعدام الأمن وانخفاض التجارة.
اتساع رقعة الوجود العسكري الصيني
في الوقت الحالي، تنتهج الصين استراتيجية مماثلة من أجل حماية مصالحها ومواطنيها في الخارج، ومن ثم، فإنها تقوم ببناء “عقد اللؤلؤ”، وهو شبكة من القواعد البحرية التي تحمي الطرق البحرية، ولكنها تُستخدم أيضًا كمواقع متقدمة للتدخلات العسكرية. وقد ثبت أن هذه القواعد مفيدة خلال الحروب في ليبيا واليمن، إذ سمحت للجيش الصيني بإجلاء مواطنيه بسرعة.
والجدير بالذكر أن طريقة بكين وأدواتها في مكافحة الإرهاب من خلال المراقبة التكنولوجية الفائقة أضحت سلعة تصديرية صينية تُباع إلى دول أخرى، وأعادت تعريف نهج منع التطرف العنيف، الذي تأثّر بالفكر الغربي. ومن ناحية أخرى، صدر مؤخرًا قانون في الصين يسمح لجيش التحرير الشعبي الصيني بالانتشار في الخارج والمشاركة في عمليات مكافحة الإرهاب. وهناك تقارير عن تمركز جيش التحرير الشعبي في مقاطعة باداخشان العليا في طاجيكستان الواقعة بين أفغانستان وإقليم شينجيانغ. ويُزعم أن جيش التحرير الشعبي يدرب الجيش الطاجيكي، وينفذ مناورات مشتركة لدوريات الحدود.
علاوة على ذلك، تنظم الصين وأفغانستان دوريات مشتركة لمكافحة الإرهاب جنوب ممر واخان مباشرة، وهو وادٍ يربط أفغانستان بإقليم شينجيانغ مباشرة. والجدير بالذكر أن السيطرة على هذه المنطقة أمر بالغ الأهمية لمنع تنقل الإرهابيين بين الدول. وفي ظل الانسحاب العسكري الأمريكي المزمع من أفغانستان، قد يتوسع هذا التعاون، الأمر الذي من شأنه أن يمنح الصين نفوذًا متزايدًا في آسيا الوسطى.
وتجدر الإشارة إلى أن تأمين مبادرة الحزام والطريق يعتمد بشكل مكثّف على القطاع الخاص. إذ تشير البيانات الصادرة في عام 2018، إلى أنه تم الاستعانة بقرابة 20 شركة أمن خاصة تضم 3,200 موظف لحماية استثمارات الصين. وأشارت “مؤسسة راند” إلى أن العديد من هذه الشركات تفتقر إلى التدريب المهني والخبرة في مجال تدابير مكافحة الإرهاب. ولذلك، قد تلجأ الصين إلى دعم حكومات دول إسلامية لحل المشكلات مع المتطرفين، الأمر الذي قد يؤدي بدوره إلى تضخيم الرواية الإرهابية عن “العدو القريب”.
الخلاصة
بالنظر إلى التوترات المتصاعدة والمنافسة المحتدمة بين الولايات المتحدة والصين، فقد يتساءل المرء عما إذا كانت هناك إمكانية لاستخدام الإسلامويين المتطرفين لاحتواء توسع الصين على غرار الحملة التي استهدفت احتواء الاتحاد السوفييتي في أفغانستان في ثمانينيات القرن العشرين، التي اُتهمت فيها الولايات المتحدة بتعزيز الإرهاب الإسلامي الحديث. في ذلك الوقت، دافع أحد مهندسي الحملة، زبيجنيو بريجنسكي، عن هذه السياسة بسؤال بلاغي: “ما هو الأهم في تاريخ العالم؟ طالبان، أم انهيار الإمبراطورية السوفيتية؟”.
واليوم، لا يمكن تصوّر شن حملة مماثلة لحملة بريجنسكي، التي أُطلق عليها اسم “عملية الإعصار”. وحتى لو كانت هناك إرادة سياسية في واشنطن، فسوف يكون من الصعب على الولايات المتحدة إقناع الإسلامويين بمحاربة الصينيين. ومع ذلك، لا ينبغي استبعاد احتمال استخدام الجهاديين كوكلاء تمامًا. فباكستان تتهم الهند بدعم حركة طالبان سرًا من أجل زعزعة استقرار الدولة والتأثير سلبيًا على الاستثمارات الصينية فيها. وينبغي أيضًا أن يؤخذ في الاعتبار السخط الروسي على الوجود الصيني المتنامي في جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق.
وختامًا، توجد العديد من العوامل التي يمكن أن تزيد خطر الإرهاب الإسلاموي ضد الصين أو تحدُّ منه، ولكن العامل الرئيس، المتمثل في نفوذها العالمي المتنامي، سيظل ثابتًا، وستتعرض الصين حتمًا للخطر. وسيتعين على “المملكة الوسطى” في نهاية المطاف أن تتصدى للتهديد الذي سيؤثر بدوره على الحملة العالمية لمكافحة الإرهاب.
* عضو مجلس إدارة معهد القضايا الأوروبية في وارسو