كايل أورتون**
في الساعةِ الواحدة صباح 3 يناير، قتلت غارةٌ أمريكية، بطائرةٍ مسيّرة، قاسمَ سليماني؛ قائد فيلق القدس، وهي وحدة قوات خاصة تابعة للحرس الثوري الإسلامي الإيراني المكلفة بتصدير الثورة الإسلامية. قتل في الغارة أيضًا نائبه العراقي جمال الإبراهيمي (أبو مهدي المهندس). كان سليماني هو المحرك الاستراتيجي لسياسةِ إيران التوسعية في الشرق الأوسط، بالإضافة إلى كونه العقلَ المدبر لعمليات الإرهاب والاغتيالات الإيرانية. وعلى عكس مقتل أسامة بن لادن، زعيم تنظيم القاعدة في عام 2011، أو إبراهيم البدري (أبو بكر البغدادي) زعيم تنظيم داعش في أكتوبر الماضي، وما أدَّت إليه هذه العمليات من تحولات دينامية طفيفة، فإن مقتل سليماني ليس بهذه البساطة، بل يثير تساؤلاتٍ حول الاتجاه الذي سيسير فيه الشرق الأوسط الآن.
تسلسل الأحداث التي قادت إلى تنفيذ العملية
أعلن الرئيسُ الأمريكي دونالد ترامب انسحاب الولايات المتحدة من الصفقة النووية الإيرانية، المعروفة باسم “خطة العمل الشاملة المشتركة”، واستئناف العقوبات ضد إيران في 8 مايو 2018. ومع ذلك، ظلَّت هناك استثناءات لمدة عام بالنسبة لتجارة النفط بين الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية وتركيا من جانب، ونظام الملالي في إيران من جانب آخر. تزامن مع ذلك سلسلة متصاعدة من الهجمات من جانب إيران ضد المصالح الأمريكية في المنطقة منذ مايو 2019، عندها تم إلغاء الإعفاءات من العقوبات وأعلنت إدارة ترامب عزمها “خفض صادرات النفط الإيرانية إلى الصفر”.
عقب ذلك بفترةٍ قصيرة، بدأت إيران في تدبيرِ عملياتٍ استفزازية ضد خطوط الشحن الدولي في الخليج العربي، ولم ترد الولايات المتحدة عليها. ثم أسقطت إيران طائرة أمريكية مسيّرة في شهر يونيو 2019 ورفض ترامب خيارات البنتاغون للانتقام. وأخيرًا، في شهر سبتمبر 2019، هاجم الإيرانيون إمدادات النفط للنظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، في منشآت أرامكو في بقيق وخريص في المملكة العربية السعودية، وتجاوزوا الخطوط الحمراء، ومع ذلك لم تقم الولايات المتحدة بأي ردّ. وأشير إلى أن دولة الإمارات [سَعَت] في تهدئة التوترات في علاقتها مع إيران، وبعد هجوم أرامكو، فعل السعوديون الشيء نفسه.
وفي 27 ديسمبر 2019 وقعت أحدث الهجمات الإيرانية، حيث أطلقت صواريخ من قبل كتائب حزب الله، الميليشيا العميلة لإيران، بقيادة الإبراهيمي، ضد القاعدة العسكرية الأمريكية K1 في كركوك، مما أسفر عن مقتل مقاول أمريكي، وهو الهجوم الحادي عشر على قواعد أمريكية في الشهرين الأخيرين فقط – ثم جاء اقتحام السفارة الأمريكية في بغداد في 31 ديسمبر من قبل كتائب حزب الله ومؤيديها، الذي أسفر عن أضرار مادية فقط، لتكون القشة شبه الأخيرة، ولتبدي الولايات المتحدة لأول مرة استعدادها للقيام بإجراءٍ آخر غير العقوبات ضد إيران، حيث قصفت خمسة أهداف لكتائب حزب الله بين العراق وسوريا، أسفرت عن مقتل خمسة وعشرين من رجال الميليشيات الإيرانية وجرح قرابة ضعفهم. وفي وقتٍ لاحق من اليوم نفسه، في منتجع مار الاجو في ولاية فلوريدا، كان ترامب يبحث تصعيد رد الولايات المتحدة على سفك الدم الأمريكي إلى مستوى آخر يستهدف “مصدره الأساسي”.
وفقًا لصحيفة “واشنطن بوست“، فإن أسباب قرار ترامب ليست واضحة تمامًا، حتى لدى مساعديه، لكن يبدو أن الاعتبارات السياسية الداخلية، والمسألة المرتبطة ارتباطًا وثيقاً بصورته الإعلامية، كانت هي السبب في ذلك. لم يرغب ترامب في وقوع حادث مثل هجوم سبتمبر 2012 الذي شنَّه تنظيم القاعدة على القنصلية الأمريكية في بنغازي في ليبيا، حيث أدى تردد الولايات المتحدة إلى مقتل أشخاص، وأصبح حدثًا يطارد الرئيس باراك أوباما إلى الأبد. لقد كان ترامب مستاءً من التغطية الإعلامية التي جعلته يبدو ضعيفًا بعد أن رفض الرد على إيران في شهر يونيو، الأمر الذي تفاقم بعدما ترك ترامب الإيرانيين يفلتوا دونما عقاب من هجومهم على أرامكو.
القشَّة الأخيرة التي قصمت ظهر البعير ربما كانت إبلاغ ترامب، كما تقول الصحيفة، بأن سليماني كان قادمًا إلى بغداد، وفي تقدير كبار مسؤوليه، كان الأمرُ يتعلق بالسخرية من الأمريكيين من خلال إظهار مناعته وقدرته على الإفلات من العقاب حتى بعد أن قتل مواطنًا أمريكيًا. من الواضح أن سليماني لم يشعر بأنه سيكون عُرضة للخطر في العراق، وتصرف على هذا النحو. يمكن ملاحظة ذلك في عملية تأمين وجوده في مطار بغداد الدولي، حيث قُتل. (من غير المعروف ما إذا كانت هناك عناصر من قوات الأمن العراقية ضالعة في الإبلاغ عن موقع سليماني، إذ أن هناك تلميحات، من الناحية اللوجيستية والمنطقية، ولكن يبدو صحيحًا أيضًا أن سليماني كان يتحرك في العراق بشكلٍ مكشوف). وهكذا، نتيجة الإفراط في الثقة -أو ربما لأنه كان يمثل تهديدًا قويًا للأمريكيين- قيل إنه تم اعتراض محادثة هاتفية في 29 ديسمبر، حيث أصدر سليماني أوامر بالهجوم على السفارة الأمريكية، بعد يومين، بقصد أخذ الرهائن.
في مساء 31 ديسمبر، بعد إخلاء السفارة، غرَّد ترامب قائلًا: “إيران ستتحمل المسئولية الكاملة عن الأرواح المفقودة، أو الأضرار التي تلحق بأي من منشآتنا. سوف يدفعون ثمنًا باهظًا جدًا! هذا ليس تحذيرًا، إنه تهديد”. في صبيحةِ اليوم التالي، غرَّد المرشدُ الأعلى الإيراني علي خامنئي ردًّا على ترامب: “لا يُمكنك فعلَ أي شيء”، على غرارِ مؤسس الجمهورية الإسلامية آية الله الخميني(1)، الذي اعتمد شعار “لا يمكن لأمريكا أن تفعل شيئًا ضدنا” بعد الاستيلاء على السفارة الأمريكية في طهران في نوفمبر 1979، الاحتلال الذي أبقى 52 أمريكيًّا رهن الأسر لمدة 444 يومًا. أصدر ترامب الأمر النهائي بقتل سليماني قبل فترةٍ وجيزة من إقلاع الطائرة المسيّرة، على ما يبدو من ملعب الجولف الخاص به في فلوريدا.
هناك رواية يجري تداولها من قبل مسؤولي البنتاجون مفادها أن ترامب أصدر قرار قتل سليماني لأنه اختار “الرد الأكثر تطرفًا” المتاح له، وهذا “أذهل” المسؤولين العسكريين الحاضرين. ويمكن القول إن هذا جهدٌ يهدفُ إلى إلقاء اللوم على الجهاز البيروقراطي: لدى الكثير من المسؤولين في وزارة الدفاع أسبابٌ للتخلص من سليماني، وإذا لم يكونوا يرغبون في تنفيذِ هذا الخيار، فربما كان من المحتمل أن يرفضوا تنفيذه، كما فعلوا في حالاتٍ أخرى. ومن المحتمل أيضًا أن وزارة الدفاع كانت تريد ببساطة إلقاء اللوم كله فيما يتعلق بأي انتقام إيراني على ترامب.
هناك روايةٌ أخرى مشكوكٌ في صحتها، يجري تداولها من الاتجاه الآخر -من أنصار ترامب مثل وزير الخارجية مايك بومبيو- مفادها أن هناك تهديدًا كبيرًا على المدى القريب جرى إحباطه عبر اتخاذ هذا الإجراء. ادعى بومبيو أن سليماني “كان يخطط بنشاط… لعمليةٍ كبيرة، كما وصفها، من شأنها أن تُعرِّض عشراتٍ إن لم يكن المئات من أرواح الأمريكيين للخطر”. من الناحيةِ القانونية، كان سليماني يمثل بالتأكيد تهديدًا “وشيكًا“، هذا لا يتطلب “دليلًا على أن هجومًا محددًا على الأشخاص والمصالح الأمريكية [يجري التخطيط له].. في المستقبل القريب”، بل يتطلب فقط وجود تهديد “مستمر” من شخص ما. لكن في ظلِّ كثرة التدقيق والتساؤل عن نوعية وتفاصيل مثل هذا التهديد، تخلَّى بومبيو في النهاية عن لفظ تهديد “وشيك” بالمعنى اللغوي.
إضافة إلى الأدلة التي تشير إلى أن مسألة التهديد “الوشيك”، والتي قد لا تشكل الاعتبارَ الرئيس في اتخاذ القرار هناك التقرير المتعمق الذي نشرته وكالة “رويترز”، الذي يعتمد على مصادر أمنية عراقية، بعضها من داخل الميليشيات الإيرانية، وتذكر أن سليماني أعطى الأمر الأولي إلى الإبراهيمي الذي يحرض الوكلاء العراقيين لإيران على تصعيد هجماتهم على القوات الأمريكية في منتصف أكتوبر 2019. في هذا التقرير، قالت رويترز إنه تم عقد اجتماع “في فيلا على ضفاف نهر دجلة” في بغداد، في خضم الاحتجاجات المناهضة للحكومة العراقية ولإيران في العراق، حيث كان سليماني “يهدفُ لاستثارةِ رد عسكري [من الولايات المتحدة] من شأنه أن يعيدَ توجيه هذا الغضب المتنامي نحو الولايات المتحدة”. وقبل أسبوعين، أرسل سليماني “أسلحة أكثر تطورًا -مثل صواريخ الكاتيوشا والصواريخ المحمولة على الكتف التي يمكن أن تسقط طائرات هليكوبتر- إلى العراق عبر معبرين حدوديين”. وأضاف التقرير أن سليماني أصدر تعليماته إلى الإبراهيمي، ونوابه الآخرين في العراق، بإنشاء جبهة أمامية منفصلة حتى يمكن إنكار ضلوع إيران في الفوضى التي ستنجم عن العمليات المزمعة. علاوة على ذلك، هناك أدلة على أن بومبيو سبق وأن اقترح قتل سليماني قبل أشهر، وعمل بجدية على تذليل العقبات البيروقراطية ليتمكن من تنفيذ اقتراحه.
باختصار، تم استهداف سليماني باعتباره تهديدًا مستمرًا، وهذا على أية حال أكثر أهمية من كونه يمثل تهديدًا وشيكًا. في الواقعِ، كان من الممكن تصفية سليماني بشكلٍ مبرر في أي لحظة منذ عام 2005. وقد كان قرارُ عدم قتل سليماني في عام 2008 لأسبابٍ قانونية، عندما كان من الممكن أن يقتله الموساد الإسرائيلي، ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، إلى جانب القائد العسكري لحزب الله اللبناني وضابط الحرس الثوري الإيراني عماد مغنية، خطأً فظيعًا؛ الأمر الذي تم تصحيحه الآن، وإن كان متأخرًا.
جذور فيلق القدس
في أعقابِ انتفاضة استمرت عامًا، غادر الشاه -الذي لم يرغب في إراقة الدماء لإنقاذ عرشه- إيران في يناير 1979، تاركًا وراءه حكومة مؤقتة. قاد الانتفاضةَ الإسلاميون، الذين تمكنوا من حشد الجماهير، وقد حصلوا على دعمٍ من قبل الجماعات الإرهابية المهمة، الفدائيين الشيوعيين، والماركسيين الإسلاميين، ومنظمة مجاهدي خلق، الذين تلقوا تدريباتٍ عسكرية من منظمة التحرير الفلسطينية، وأموالًا من الديكتاتور الليبي غريب الأطوار معمر القذافي.
خلال شهرٍ من رحيل الشاه، قام الإسلاميون بانقلابهم المخطط له منذ فترة طويلة، وتم تأسيس الحرس الثوري الإسلامي الإيراني بعد بضعة أسابيع. وتم إنشاء الحرس الثوري بشكلٍ منفصل ومتعمد عن الجيش الإيراني، المؤسسة التي لا يثق فيها الخميني باعتبار أن موالاتها “الشاه تجري في دمائها”(2). التشكيل الأولي للحرس الثوري الإسلامي الإيراني اعتمد على اللجان الثورية التي انتشرت في جميع أنحاء إيران ومن عناصر حزب الله (عصابات كانت تتجمع حول مختلف المساجد)(3)، ولكن كانت هناك بالفعل نواة أساسية من الحرس الثوري تم تدريبها في لبنان في أواخر السبعينيات على يد منظمة التحرير الفلسطينية، وبمساعدة غير مباشرة من الاتحاد السوفييتي. كان عماد مغنية، القائد العسكري القديم لحزب الله وضابط فيلق القدس، جزءًا من القوة رقم 17 التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، المكلفة بحماية زعيمها ياسر عرفات(4). شكَّلت هذه البيئة وهذه الشبكات الجذور الحقيقية لما أصبح الآن يُعرف باسم حزب الله اللبناني -قبل فترة طويلة من الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، وهو مكون عضوي في الثورة الإسلامية التي استولت على مقاليد السلطة في إيران، التي مهّدت لتلك الثورة.
بعد وقتٍ قصير من سقوط الشاه، وبينما كان الإسلاميون يقتلون أي شخص محسوب على النظام القديم، بدأ الثوريون أنفسهم يتعرضون للتطهير أيضًا. تم استهداف الليبراليين والديمقراطيين أولًا ثم جاء الدور على “المعتدلين” الذين كانوا يشكلون الواجهة، الذين اعتاد الثوريون الإسلاميون استخدامهم لكسب تعاطف الغرب، مهدي بازركان وزملائه من حركة التحرير. وبعد ذلك تم إقصاء منظمة مجاهدي خلق. ثم جاء الدور على اليسار، حيث تم تفكيك الفدائيين على مرحلتين، في البداية حيث ساعد “المعتدلون” والحزب الشيوعي (حزب توده الإيراني) الجمهورية الإسلامية، قبل أن يتم التخلص من بقايا الفدائيين “المعتدلين”، وأخيرًا تم تدمير حزب توده.
من نواحٍ كثيرة، فإن أكثر هذه الجماعات إثارة للاهتمام -ليس فقط لأنها لا تزال قائمة– هي منظمة مجاهدي خلق. باعتبارها شكلت جزءًا مهمًا من الجناح العنيف للثورة الذي نصّب الخميني، وجدت مجاهدي خلق أن الجمهورية الإسلامية لا تلبي الطموحات. وقد أشار تحليلٌ لوكالةِ الاستخبارات المركزية الأمريكية في صيف عام 1981، في الوقت ذاته الذي فرّ فيه زعيم مجاهدي خلق، مسعود رجوي، إلى المنفى مع الرئيس الإيراني آنذاك أبو الحسن بني صدر، أن المنظمة كانت تضع معاداة أمريكا ضمن “الأركان الرئيسة لسياساتها”، وأن هناك جميع المؤشرات التي تدل على كونها صديقة للسوفييت. ربما أصبحت منظمة مجاهدي خلق حركة المعارضة الرائدة في ذلك الوقت، ولكن فقط لأنها “لم تقبل نظام الخميني أبدًا باعتبار أن نظام الحكومة الإسلامية غير كافٍ [بمعنى أنه ليس متطرفًا بما يكفي]”، وكانت تطمح لـ”ثورة مستمرة”. الأمر المهم في سياق تشكيل الحرس الثوري الإيراني هو ادعاء وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية أن أكثر من نصف أفراد قوة مجاهدي خلق البالغ عددهم 10,000 فرد قد انشقوا للانضمام إلى الحرس الثوري الإيراني، في الأشهر الأولى بعد سقوط الشاه، ويعتبر هذا جزئيًا السبب في أن مجاهدي خلق -رغم وجود متعاطفين معها في أماكن مهمة والقدرة على جلب حشود كبيرة إلى الشوارع- لم تكن قادرة على تشكيل مقاومة وطنية حقيقية وفعالة، عندما وقع خلافٌ بينها وبين الخميني(5).
الجدير بالذكر، أن تشكيل الحرس الثوري الإيراني تزامن أيضًا مع الحرب الإيرانية مع العراق في عهد صدام حسين، والتي استمرت مدة ثماني سنوات. في البداية، كانت إيران في حالةِ دفاع، لكن بعد عام 1982 طُردت القوات العراقية من الأراضي الإيرانية، واتخذ قرارٌ نشط من قبل الخميني، والنخبة الثورية، لمحاولة اجتياح بغداد، وتنصيب رئيس جديد للعراق، واعتبارها جمهورية إسلامية جديدة وشقيقة. في مرحلتي الحرب، لعب الحرس الثوري الإيراني دورًا حاسمًا. ذلك أن الحماس المفرط لأعضائه كان يعني أنهم يرحبون بالموت، ومن ثم استخدموا في هجمات “الموجة البشرية”، وتطهير حقول الألغام(6).
انضم سليماني إلى الحرس الثوري بعد تشكيله بوقتٍ قصير. ينحدر سليماني من أصول متواضعة في كرمان، وكانت مثلُ هذه التفاصيل -مثل روتينه اليومي المفترض ونومه بحلول 9:30 مساءً– جزءًا من الأساطير والغموض الذي يُنسج من حوله. بعد أن أبدى القليلَ من الاهتمام المسبق بالسياسة، خلال فترة معيشته في مسقط رأسه، أظهر سليماني بوضوحٍ بعض الاستعداد: سرعان ما تولى قيادة وحدة في الحرس الثوري الإيراني خلال الحرب العراقية-الإيرانية، وانضم بعد ذلك إلى وحدة “بيرون مارزي” (التي تعني “خارج الحدود”)، وحدة أمضت ثمانينيات القرن العشرين في العمل جنبًا إلى جنب مع حزب الله في لبنان، قبل أن تصبح رسميًا “فيلق القدس” في عام 1990، وحدة خارجية متخصصة داخل الحرس الثوري. عمل سليماني في عمليات مكافحة المخدرات على طول الحدود مع أفغانستان، خلال معظم فترة التسعينيات، ليس بعيدًا عن كرمان، وتولى قيادة فيلق القدس في وقت ما قرب نهاية عام 1997 أو أوائل عام 1998. بحلولِ هذا الوقت، كانت تخوض الوحدة 1000 (أو فيلق رمضان) داخل فيلق القدس، بنشاطٍ، حربَ الظلّ داخل عراق صدام(7). وكان من بين أعضائها الإبراهيمي، وهو عراقي، وعضو كامل في فيلق القدس(8).
الثورة الإيرانية في العراق
كان نظام صدام قد انزعج من صعود التيارات الإسلامية السياسية في فترة السبعينيات وقام بقمع سلسلةٍ من أعمال الشغب في عام 1977، ثم بعد انتصار الخميني في عام 1979. وتعتبر المخاوف بشأن اندلاع ثورة إسلامية محتملة، على غرار النموذج الإيراني في العراق، من بين الأسباب التي حفّزت صدام حسين على عملية الغزو عام 1980. ولكن بعد وقتٍ قصير من اندلاع الحرب، ذهب صدام في اتجاه مختلف، حيث قام بإشراك الإسلاميين في السياسة الخارجية، وفي نهاية المطاف أسلمة الدولة داخليًا.
هذا الابتعاد عن النسخة الصارمة من العلمانية لم يكن كافيًا لاسترضاء الشيعة العراقيين الذين أخذوا أيديولوجيا الثورة الإيرانية، ولاية الفقيه، بجدية، وفي سياق الحرب، لم تصبح دعاية النظام البعثي عنصرية ضد الفرس فقط (الأمر الذي كان من الممكن أن يتعايش معه الشيعة العرب) بل طائفية بشكل واضح. وهذا مهَّد الطريق أمام إيران. بين المعارضة الإسلامية الشيعية العراقية المنظمة، وأسرى الحرب العراقيين، وكثير منهم من المجندين الشيعة الذين حوصروا بين الإرهاب البعثي والمدافع الإيرانية، أنشأت إيران “فيلق بدر”، وأرسلته إلى المعركة إلى جانب قواتها ضد أبناء وطنهم. رد صدام بالمثل مستخدمًا منظمة مجاهدي خلق ضد إيران، بما في ذلك في المعركة الأخيرة للحرب، وانتهى توغل وحدة من مجاهدي خلق مسلحة بأسلحة خفيفة في إيران بمذبحة على يد الحرس الثوري(9).
وتم حشد العراقيين الذين ذهبوا إلى الجانب الإيراني، الإبراهيمي شخصيًا، للقيام بحملات إرهابية في جميع أنحاء المنطقة: موجة التفجيرات التي حدثت في ديسمبر 1983 في الكويت كانت حالة كلاسيكية، تحدث بالتتابع مع هجمات حزب الله على السفارة الأمريكية، والثكنات البحرية في لبنان.
في مارس 1991، عقب إنهاء احتلال صدام للكويت، اندلع تمرد في جنوب العراق بين القوات المنسحبة. كانت إيران مترددة في التورط خوفًا من الأمريكيين. وكان من بين الأمور الحاسمة في إنهاء الحرب العراقية-الإيرانية إطلاق النار العرضي الأمريكي على الرحلة الجوية الإيرانية رقم 655 في يوليو 1988، مما أسفر عن مقتل 290 شخصًا. اعتقد النظام الإيراني أن الحادثة متعمدة وتحمل إشارة إلى دخول الولايات المتحدة بالكامل إلى جانب صدام. وفي ظلِّ المخاوف الفعلية للحرس الثوري الإيراني، أقنع الخميني بأن الحربَ لا بد وأن تنتهي ووقع أخيرًا وقف اتفاق إطلاق النار(10)، وهو قرارٌ وصفه بشكل لا يُنسى بأنه “أكثر فتكًا من تناول السم”. وفي حين أن إيران أرادت تجنب الاشتباك المباشر مع الأمريكيين، فإنها كانت على استعداد للسماح لما يتراوح بين 5,000 و10,000 من فيلق بدر بالعبور إلى جنوب العراق، عبر منطقة الأهوار المحيطة بالبصرة.
تورط الوكلاء الإيرانيون في انتفاضة الشيعة أو “انتفاضة شعبان” عام 1991 كان مدمرًا، فلقد أحرقوا متاجر الخمور والفنادق الدولية، ثم انطلقوا في حالة هياج ينهبون ويذبحون المسؤولين البعثيين ذوي الرتب الصغيرة، والمجندين العسكريين و”أعداء الله” الآخرين، وأحيانًا بعد محاكماتٍ هزلية قصيرة أمام محاكم شرعية. امتد هذا إلى كربلاء أيضًا، رغم أن الشخصيات البارزة في النجف تمكَّنت من الحفاظ على النظام بشكلٍ أفضل، وحماية المنطقة من التدخل الإيراني. ونتيجة لتلطيخِ الانتفاضة بالطائفية والتطرف، أوقف فيلق بدر تدفق المنشقين العسكريين، الذي كان ضروريًا لإنجاح الانتفاضة، وقدَّم دعاية لصدام ساعدته في حشد شرائح مختلفة من الشعب العراقي حول النظام، وأفزعت الأمريكيين، مما ساهم في فشل الولايات المتحدة، في نهاية المطاف، في تقديم الدعم للمتمردين(11).
طوال فترة التسعينيات من القرن الماضي، كانت هناك حرب ظلٍّ متبادلة بين عراق صدام وملالي إيران، مع السماح لمنظمة مجاهدي خلق بشنِّ غاراتٍ دورية على إيران ولفيلق بدر بالتسلل إلى العراق، حيث تركز ذلك حول محافظة ميسان، ولكن امتد عبر الأهوار، وغيرها من المناطق ذات الأغلبية الشيعية، لاغتيال المسؤولين وشنِّ حرب عصابات منخفضة المستوى(12).
جاءت الاستراحة لإيران وفيلق بدر في عام 2003، مع الغزو البريطاني-الأمريكي الذي أطاح بصدام. وعاد فيلق بدر وجناحه السياسي، المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، لمحاولة تشكيل نظام ما بعد صدام، ولم تخل جهودهما من نجاحات. ومع ذلك، فإن إيران -وسليماني شخصيًا- لم تترك الأمورَ للصدفة عبر التعامل مع عملائها. لقد أصبح سليماني معروفًا، ولديه علاقات متنوعة مع جميع الشخصيات البارزة في المعارضة العراقية، ليس فقط من يُطلق عليهم المنفيين، ولكن ربما أهم الشخصيات مثل جلال طالباني، الزعيم الكردي للاتحاد الوطني الكردستاني(13). وأصبح طالباني رئيسًا للعراق بعد أول انتخابات حرة في البلاد وشغل المنصب لقرابة ثماني سنوات، وأضحى خلفاؤه أقرب إلى سليماني.
الجناحُ الآخر للنفوذ الإيراني، في عراق ما بعد صدام، كان مقتدى الصدر، شابٌ لا يتجاوز عمره 30 عامًا، وهو سليل عائلة من رجال الدين. قُتل والد مقتدى، آية الله العظمى محمد صادق الصدر، على يد صدام عام 1999، ومن قبله، قُتل ابن عم صادق آية الله العظمى محمد باقر الصدر بوحشية -ربما على يد صدام نفسه- بعد اغتصاب أخته وقتلها أمامه. ورث مقتدى قدرًا من الثقة نظرًا لأن أسرته قدمت الكثير لجهود مقاومة النظام البعثي، وحقيقة أن التيار الصدري حاول بوعي الإبقاء على مسافة من إيران، وظل داخل العراق خلال ليل نظام صدام الذي دام طويلًا. لكن لا يمكن إخفاء حقيقة أن مقتدى كان مبتدئًا، حيث بدا أنه يعرف عن ألعاب الكمبيوتر أكثر مما يعرف عن الدين.
جهل مقتدى امتد إلى ما هو أبعد من ذلك، فلقد شعر بالحيرة من مفهوم الأمم المتحدة، فأخبر ممثله بأنه ليس لديه أي مشكلة مع “المنظمات المسيحية”. لتعويض هذا الضعف في المصداقية والدعم الشعبي خارج الأحياء الفقيرة الشيعية في جنوب بغداد، تحول مقتدى إلى إيران. ذهب الصدر إلى إيران في مايو 2003، وهو الوقت الذي كان فيه قد أصبح قاتلًا بالفعل، بعد أن قتل عبد المجيد الخوئي، نجل آية الله العظمى أبو القاسم الخوئي، رجل الدين الشيعي الأكثر نفوذًا في العالم وقت وفاته عام 1992، وفي هذه المرحلة تم استبداله بآية الله العظمى علي السيستاني، حتى يومنا هذا، رجل الدين الشيعي الأكثر اتباعًا. في إيران، التقى الصدر مع آية الله العظمى كاظم الحسيني الحائري، رجل الدين الذي قدَّم الثقل الديني الذي كان يفتقر إليه، وكذلك مع سليماني وعبد الرضا شاهلائي(14)، أحد عناصر فيلق القدس الذين قدَّموا الأسلحة والمتفجرات لتنفيذ هجوم يناير 2007 في كربلاء الذي أسفر عن مقتل خمسة أمريكيين، وموّل مؤامرة عام 2011 لاغتيال السفير السعودي لدى الولايات المتحدة في مقهى في واشنطن العاصمة. يوجد شاهلائي حاليًا في اليمن، ويشرف على تدريب الحوثيين. بحلول الوقت الذي قام فيه مقتدى بالانتفاضة في عام 2004، كان لدى سليماني ممثل من الوحدة رقم 1000 التابعة لفيلق القدس، مدمجة مع ميليشيا جيش المهدي التابعة له لضمان سير الأمور كما خطط سليماني(15).
التحقت الوحدة رقم 1000 من الحرس الثوري الإيراني بالوحدة رقم 3800 في حزب الله لتدريب “المجموعات الخاصة” أو الميليشيات الشيعية في المعسكرات داخل إيران(16). ساعد عناصر حزب الله اللبنانيون في كسر حاجز اللغة لأولئك الذين تم تجنيدهم لقضية سليماني(17)، وخففوا الميولَ المتطرفة للمدربين الفارسيين في ظل تعاملهم مع العرب(18). وهذا أكد حقيقة أن “محور المقاومة” -الحرس الثوري الإيراني/فيلق القدس، وحزب الله، والميليشيات الشيعية العراقية- كانت شبكة عبر وطنية متكاملة.
كان فيلق القدس يشكِّل فصائل من كل من مجموعة بدر وجيش المهدي، مثلما استمد الحرس الثوري الإيراني نفسه من مجموعة منشقة من حركة أمل في لبنان(19). استمر هذا التوسع للمجموعات. وفي هذا الصدد، أوضح فيليب سميث من “معهد واشنطن” في بحثه المميز حول هذا الموضوع، أن الأمر الذي يمكن أن يبدو وكأنه “انقسام”، هو في الواقع “أشبه بتكاثر الخلايا”، “حيث تسهم المجموعات الجديدة ببساطة في توسيع حجم ونفوذ الشبكة والنموذج الذي أنشأه الحرس الثوري الإيراني”. وبعبارةٍ أخرى، كما يصفه السجل الرسمي لوزارة الدفاع الأمريكية عن حرب العراق، فإن “دعم النظام الإيراني” هو “القاسم المشترك”، وهذه “الشبكات الشيعية المسلحة كلها تدين […] بقوتها -بل ووجودها- إلى “فيلق القدس وسليماني(20).
رغم شكاوى السياسيين العراقيين واعتراضاتهم، تفوقت إيران عليهم جميعًا -وعلى الأمريكيين- واستولت على وزارة الداخلية العراقية في منتصف عام 2005. ربما كان الأمريكيون مدركين بما فيه الكفاية لذلك، ومن ثم عارضوا التعيين العلني لزعيم فيلق بدر، هادي العامري، وزيرًا للداخلية، لكن البديل لم يكن مهمًا، ومن ثم تم زرع “دولة عميقة” تخضع لإيران في العراق الجديد في مرحلة مبكرة، لا تحتاج سوى تعزيزها مع مرور الوقت(21). في عام 2016، بعد التمدد الكبير لوكلاء إيران، كجزءٍ من استفادتها من الحرب على تنظيم داعش، تم دمج هذه الميليشيات -التي تجمعت تحت راية الحشد الشعبي- رسميًا في الدولة العراقية على غرارِ الحرس الثوري الإيراني في إيران أو حزب الله في لبنان.
بحلول عام 2006، كان عملاء إيران يمثلون خُمس الخسائر في صفوف التحالف، على الرغم من أن هجماتهم كانت أقل تواترًا من هجمات التمرد السني. فلقد كان لدى الميليشيات الشيعية أسلحة أكثر تطورًا، خاصة الأسلحة المضادة للدبابات، وتدريبًا أفضل. في ديسمبر 2006، بدأتِ الولاياتُ المتحدة تحاول “قص أجنحة” فيلق القدس في العراق، بل ومحاولة القبض على الجنرال محمد علي الجعفري، رئيس الحرس الثوري الإيراني، الذي يُعتبر من الناحيةِ الرسمية رئيس سليماني نفسه، وإن كان سليماني في الواقع يتبع المرشد الأعلى مباشرة. الأمر الجدير بالملاحظة هنا هو أن الجعفري استطاع تجنب القبض عليه بواسطة القوات الأمريكية الخاصة، عبر اللجوء إلى مكانٍ آمن تديره الشخصية الكردية العراقية الرئيسة، مسعود بارزاني، زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني، الذي كان ظاهريًا يختلف عن الاتحاد الوطني الكردستاني الذي يتزعمه جلال طالباني من خلال عدم موالاته لإيران(22).
حتى بعد إدراك خطورة المشكلة، سعتِ الولايات المتحدة لوقف نمو النفوذ الإيراني في العراق، وبحلولِ منتصف عام 2007، خلص الجيشُ الأمريكي إلى أن “إيران.. تشن حربًا على الولايات المتحدة في العراق”(23). وخلال العام، استمر انتشار النفوذ الإيران عبر فرع القوة الناعمة التابع لفيلق القدس، “مكتب الكوثر”. هذا الخطر القائم في العراق كان يعني أن مسؤولي الحرس الثوري “السابقين” فقط هم الذين تجرأوا على المغامرة هناك(24). لم يتغير هذا التوجه في السنوات التالية منذ ذلك الحين، على الرغم من أن الأمر استغرق حتى عام 2011 تقريبًا حتى ظهر اسم سليماني، ودوره في العراق، بشكلٍ رئيس في وسائل الإعلام الغربية.
فيلق القدس وتنظيم القاعدة
رغم أن السياسة الخارجية الإيرانية كانت طائفية صريحة في هذه المرحلة، فقد سعتِ الحكومةُ الثورية الإيرانية في سنواتها الأولى إلى أن تكون غير طائفية، حيث أقامت علاقات مع متطرفين من جميع المشارب أرادوا القتال ضد أمريكا وإسرائيل والنفوذ الغربي. وهذا هو ما دفع إيران إلى تأسيس علاقات قوية مع حركتي حماس والجهاد الإسلامي الفلسطيني في غزة، على سبيل المثال، ومع الحكومة الإسلامية (السنية) بقيادة علي عزت بيجوفيتش في البوسنة. وقد قدمت إيران دعمًا كبيرًا لحكومة عزت بيجوفيتش خلال الحرب في أوائل التسعينيات، وشمل جزءٌ من هذا الدعم تنظيمَ المقاتلين الأجانب، وتدريبهم وتوجيههم، وهم الذين وصلوا لدعم سراييفو من مختلف الجماعات الإسلامية المسلحة، بما في ذلك تنظيم القاعدة. كان هذا الصراع هو الذي جعل تنظيم القاعدة “علامة تجارية” عالمية وقدم لها شبكات عالمية، ولعب النظام الديني في إيران دورًا مهمًا في ذلك(25).
لم يكن انحياز إيران والقاعدة إلى البوسنة من قبيل الصدفة. تم تأسيس العلاقات في عام 1991 من قبل عماد مغنية وبن لادن شخصيًا، وتعمقت خلال التسعينيات حيث أصبح تنظيم القاعدة أكثر فتكًا. حتى أن تقرير لجنة التحقيق في هجمات 11/9 يشير إلى أن إيران قدَّمت تسهيلاتٍ لعددٍ يصل إلى عشرة من المفجرين الانتحاريين التسعة عشر في الانتقال إلى أفغانستان. وقد طلبت اللجنة المزيد من التحقيق في هذا الأمر، وهو ما لم يحدث قط(26).
واصل سليماني نهجه “الأصلي” إلى حدٍّ ما، حتى في الوقت الذي قاد فيه الفيلق الخارجي للجهاديين الشيعة وطوّر كاريزما شخصية شيعية واضحة. (هذا الترويج الشخصي جلب لسليماني منتقدين داخل النظام الإيراني، الذين شعروا أنه يُعرّض مكاسب إيران للخطر عبر استعداء السنة، حتى عندما بدأ يكتسب شهرة في الصحافة الغربية). لقد كان سليماني هو الذي أصدر الأمر في يناير 2002 بقبول عناصر القاعدة الفارين من أفغانستان في إيران(27)، وهو الذي أبقى عائلة بن لادن والقيادة العسكرية لتنظيم القاعدة تحت ما يسميه البعض “الإقامة الجبرية” داخل إيران(28)، في أمان بعيدًا عن الطائرات الأمريكية المسيّرة. ولا تزال الكثير من القيادات العسكرية لتنظيم القاعدة موجودة في إيران. ولا يُعرف بعد كيف سيتم التعامل معها في غياب سليماني.
العقد الإيراني
مع تقليص أمريكا للتمرد السني، الذي استولت عليه حركة الدولة الإسلامية في العراق، بين عامي 2007 و2009 من خلال زيادة القوات الأمريكية في العراق والصحوة، واصل عملاء سليماني تأمين نفوذهم في العراق. ومن بين أمورٍ أخرى، دخلت “عصائب أهل الحق”، إحدى الميليشيات العراقية القوية في فيلق القدس، إلى المعترك السياسي. الانسحاب الأمريكي من العراق في ديسمبر 2011 سمح بتفاقم النفوذ إلى أبعد من ذلك، وحتى مع وجود قوات أمريكية في العراق، كان سليماني يخطط لتنفيذ عمليات إرهابية في الولايات المتحدة، ترقى إلى ما وصفه وزير الدفاع السابق جيمس ماتيس بأنها “عملٌ من أعمال الحرب”.
اندلاع التمرد السوري في عام 2011، و(عدم وجود) ردّ من “المجتمع الدولي” أعطى إيران فرصة لإنقاذ نظام بشار الأسد. تم نقل الآلاف من رجال الميليشيات العراقية، ممن اعتاد فيلق القدس استخدامهم في محاربة الأمريكيين، إلى سوريا في الفترة 2012-2013، واستمر الوضع المتزعزع في سوريا حتى رتَّب سليماني دخول الروس في المعركة بشكلٍ علني في سبتمبر 2015. في الوقتِ نفسه، أدَّت محاولات فيلق القدس إنشاء نموذج على غرار حزب الله في لبنان، في اليمن، على حدود المملكة العربية السعودية، من خلال أنصار الله (الحوثيين)، أدَّت إلى دخول دول الخليج بقيادة السعودية إلى حربٍ في اليمن. ورغم عدم تمكن سليماني من تصدير نموذج حزب الله بشكل كامل، فقد تم إنشاء شبكات، كما هو الحال في نيجيريا، التي فتحت المجال أمام احتمال إنشاء المزيد، لاحقًا.
واجه سليماني عقباتٍ داخلية خطيرة تحول دون تحقيق خططه، ظنّ البعض أن الأسد قد خسر المعركة أو أنه يجب الابتعاد عنه على أية حال، فقد قتل نصف مليون شخص، وشرد عشرة ملايين آخرين. لكن سليماني وجد حليفًا غير متوقع في الإدارة الأمريكية، حيث كان الرئيس باراك أوباما يعتزم إعادة توجيه السياسة في اتجاهٍ مواتٍ لإيران كوسيلة لخلق “توازن” مكتفٍ ذاتيًا يسمح للولايات المتحدة بالانسحاب وتخفيف عبء القيام بدور الشرطي في الإقليم. سوف يسهل الاتفاق النووي تحقيق ذلك، وكذلك الحملة على تنظيم داعش، حيث يمكن لأوباما أن يدعي أنها كانت نقطة اهتمام مشترك، ويمكن إعلان “النموذج” الذي نشأ حيث قدمتِ الولايات المتحدة الدعم المباشر وغيره من أشكال الدعم للميليشيات الإيرانية، على أنها جاءت بحكم الضرورة الملحة.
بالطبع، لم تتحقق النتائج كما جرى التسويق لها في البداية، ومن المستحيل تصديق أن إدارة أوباما صدقت روايتها الخاصة في هذا الشأن لأن سياسة أوباما اعتمدت من الناحية العملية على سليماني وأمثاله. ونظرًا لاحترام “أصولها” ودعم الولايات المتحدة لـ “هياكل الدولة” الخاضعة للسيطرة الإيرانية الفعلية في لبنان والعراق، لم يتوخ النظام الثوري في إيران الاعتدال، حيث رفض عقد صفقة مع الولايات المتحدة وحلفائها. حصل سليماني على كل التنازلات الممكنة وواصل جهوده للإطاحة الكاملة بنظام الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وفي الوقتِ ذاته كان يدير موجة ثابتة من الهجمات المميتة خارج المنطقة، في الغرب نفسه. آتت المقامرةُ ثمارها مرة بعد الأخرى، إلى أن فشلت. وفي نهاية المطاف، جاء الهجوم المميت داخل المنطقة ليضع نهايةً لسليماني، ومعه إرث أوباما.
السيناريوهات المستقبلية
تم الاحتفال على نطاقٍ واسع بوفاة سليمان في المنطقة؛ باعتباره إجراءً طال انتظاره لإحقاق العدالة. وفي حين أن إسماعيل قاني، بديل سليماني، يفتقر إلى الكاريزما والمهارة، تظلُّ المشكلةُ هي أن الأساسيات الأخرى لم تتغير إلى حد كبير.
النظام الإمبريالي الذي أنشأته إيران لا يزال قائمًا. في العراق، مواقف أشخاص مثل مقتدى الصدر، الذين دعوا إلى عقد اجتماع مع الميليشيات الإيرانية، وإنشاء قوة موحدة تُعرف باسم “فيالق المقاومة الدولية”، سيتم تجاوزها، لكن يبقى من الصعب للغاية الوقوف بشكلٍ صارم وصريح ضد إيران. تم تعيين هادي العامري رئيسًا للحشد الشعبي محل جمال الإبراهيمي، مما يضمن استمرارية شبه مثالية.
هناك القليل من الدلائل على أن ترامب قد غيّر نظرته إلى المنطقة. السؤال المهم الذي تركز عليه العديد من الحكومات الغربية هو: “كيف ستنتقم إيران؟” في ظلِّ أن سليماني، الرجل الذي كان يتولى عادةً تدبير مثل هذا الانتقام، قد قُتل، وفي ظلِّ تخلى ترامب عن الالتزام بقواعد الاشتباك غير المعلنة، واستمراره في التهديد برد “غير متناسب” إذا فعلت إيران الآن أي شيء، من المحتمل أن لا ترغب إيران -أو ربما لا تستطيع- فعل الكثير في المدى القريب. وربما يأتي الرد على المدى المتوسط في شكل “يمكن إنكاره” بحيث لا يعتبر حقًا بمثابة انتقام.
يحافظ ترامب اسميًا على حملة “الحد الأقصى من الضغط”، حتى الآن ماليًا فقط، وذهب أخيرًا إلى تصنيف مجموعة عصائب أهل الحق منظمة إرهابية. ترامب لا يرغب في تكثيف الضغوط الآن، في ظلِّ ذُعر القيادة الإيرانية، بل يأمل في ردعها عن مهاجمة القوات الأمريكية التي حتى هذه الساعة تنحصر مهمتها الوحيدة في محاربة داعش. ربما يُنظر إلى مقتل سليماني بأثرٍ رجعي؛ باعتباره لحظة فارقة للسياسة الأمريكية، وليس إعادة تنشيط للدور الأمريكي.
على الجانبِ الآخر، تنتهج دول الخليج مسار “خفض التصعيد”. لقد تحركتِ الكتلةُ الخليجية بقيادة السعودية على الفور لمحاولة تهدئة الأمور مع إيران، أو على الأقل إخراج نفسها من خط النار. وقال رئيسُ الوزراء العراقي عادل عبد المهدي، إن سليماني قُتل أثناء مجيئه إلى بغداد لمقابلته حول مبادرة سعودية للتوصل إلى تسويةٍ مؤقتة، الأمر الذي أثار الشكوك بين حكام إيران ومؤيديهم، الذين يؤمنون بنظريات المؤامرة، أن السعوديين قادوا سليمان إلى فخ. الرياض حريصة على تبديدِ هذا الانطباع. على الجانبِ الآخر، كانت رحلة وزير خارجية قطر إلى طهران، التي تهدف إلى الحدّ من التوترات، تحظى بدعم أمريكي، وهي ضرورة بالنسبة لقطر لأنها قريبة جدًا من إيران، سواء أكانت التقارير تفيد بأن الطائرة بدون طيار التي قتلت سليماني قد أقلعت من قاعدة العديد الجوية في الدوحة صحيحة أم لا.
الوضع الداخلي في إيران هو الأصعب في القراءة. ذلك أنه في ظلّ ضغط العقوبات وأخطر تمرد في حقبة الجمهورية الإسلامية، الذي شهد مقتل 1,500 شخص على مدار ثلاثة أسابيع في نوفمبر، باتت هناك احتمالات بقلاقل حقيقية يمكن أن تصيب النظام من الداخل الآن بعد أن فقد أحد ركائزه، ربما ركيزة المستقبل. من ناحيةٍ أخرى، لا يمكن تفسير الحداد في إيران فقط على أنه نتاج إكراه دولة بوليسية. فلقد اختار الشعب الإيراني، بوعي وإن كان غامضًا، نظام الحكم الديني في الفترة ما بين 1978-1979، وتشير العديد من المؤشرات إلى أنه غيّر رأيه، لكن ليس الجميع، وربما أقل مما يُعتقد.
يقدم نبراس كاظمي حجة مقنعة مفادها أنه “لا يوجد بديل” لسليماني، الذي جاء “لتجسيد” مهمة نظام الحكم الديني، وبوفاته فقد “المرشد الأعلى” إرثه، الرجل الذي عهد إليه مهمة إعادة الحماسة الثورية بغية استعادة “نشاط وحيوية” الجمهورية الإسلامية. ومن المؤكد أن هناك دلائل قوية على أنه كان يتم تجهيز سليماني ليلعب دورًا سياسيًا داخليًا، وأنه كان يتعين عليه الحصول على رضا المرشد الأعلى للقيام بذلك. والوقت كفيل بأن يخبرنا عما إذا كان إحباط خططه للخلافة والتجديد في الجمهورية الإسلامية سيفت في عضد خامنئي ويوهن إرادته في مواصلة القتال، أم سيجعله أكثر شراسة تجاه أعداء المشروع الإسلامي، في الداخل والخارج.
*يسعى موقعُ «عين أوروبية على التطرف» إلى نشرِ وجهاتِ نظرٍ مختلفة، لكنه لا يؤيد بالضرورة الآراء التي يُعبِّر عنها الكتّابُ المساهمون، والآراء الواردة في هذا المقال تُعبِّر عن وجهةِ نظر الكاتب فقط.
**باحث مستقل، متخصص في الشأن السوري وقضايا الإرهاب.
المراجع:
- حصل الخميني على لقب “آية الله العظمى”، بعد قيامه بانتفاضةٍ ضد النظام الملكي في إيران في يونيو 1963. وكان رئيس الوزراء آنذاك أسد الله علام قد أمّن السيطرة على قوات الأمن من الشاه، وأَصدر أوامره بالقبض على الخميني، وقمع التمرد بالقوة القاتلة إذا لزم الأمر، وهو أمرٌ كان يعلم أن الشاه لن يعطيه أبدًا. في أعقابِ ذلك، توصل كبار رجال الدين في قم بقيادة المرجعية الشيعية، آية الله العظمى محمد كاظم شريعتمداري، إلى اتفاقٍ مع حسن باكرافان، رئيس جهاز “السافاك”، الذي أقام علاقة مع الخميني أثناء احتجازه. هناك جدل كبير حول ما إذا كان قد اقترح بالأساس إعدام الخميني. ولقد كان باكرافان رجلًا محترمًا، حيث حظر التعذيب وفتح قنواتٍ للحوار مع المعارضة، حتى أنه أقام علاقة مع الخميني أثناء فترة احتجازه. عارض باكرافان بشدة إعدام الخميني، مما يعني على الأرجح أنه لم يكن خيارًا واقعيًا أبدًا. ومع ذلك، بدا أن تحرك شريعتمداري سيخرج الجميع من المأزق: لم يستطع النظام إعدام آية الله العظمى، وبما أنه سيعرف الجميع أنه تمت ترقية الخميني بسبب اعتبارات السياسة وليس الجدارة، فإنه سيحد من شعبيته، ويسمح لرجال الدين الأكثر اعتدالًا بتحجيم هذا المتطرف. خلال الأحداث، أخطأ الجميع في تقدير الأمور: تفوق الخميني على شريعتمداري وحيّدَه خلال الثورة الإسلامية، وقُتل باكرافان في الأسابيع الأولى من تأسيس الجمهورية الإسلامية في عام 1979. لمزيدٍ من التفاصيل، انظر كتاب أندرو سكوت كوبر بعنوان «سقوط السماء: الأيام الأخيرة للإمبراطورية الإيرانية»، (2016)، ص 113-118.
- Steven Ward, Immortal: A Military History of Iran and Its Armed Forces (2009), p. 238.
- Afshon Ostovar, Vanguard of the Imam: Religion, Politics, and Iran’s Revolutionary Guards (2016), pp. 41-2.
- Matthew Levitt, Hezbollah: The Global Footprint of Lebanon’s Party of God (2013), pp. 28-31.
- “Iran: The Mujahedin”, Central Intelligence Agency, August 1981, available at: https://www.cia.gov/library/readingroom/document/cia-rdp06t00412r000200380001-7
- Vanguard of the Imam, pp. 75-6.
- The Endgame, p. 314.
- Michael Gordon and Bernard Trainor, The Endgame: The Inside Story of the Struggle for Iraq, from George W. Bush to Barack Obama (2012), p. 103.
- Vanguard of the Imam, pp. 100-01.
- Ray Takeyh, Guardians of the Revolution: Iran and the World in the Age of the Ayatollahs (2009), p. 104.
- Kanan Makiya, Cruelty and Silence: War, Tyranny, Uprising and the Arab World (1993), pp. 90-1.
- Wendell Steavenson, The Weight of a Mustard Seed (2009), p. 170.
- The Endgame, p. 314.
- The Endgame, pp. 100-1.
- The Endgame, p. 101.
- For the most complete write-up of Hizballah’s Unit 3800, see Levitt’s Hezbollah, pp. 285-310.
- The Endgame, pp. 315-18.
- Author interviews: American intelligence official, 2016; Australian military officer, 2017.
- Amal had been led by Musa al-Sadr, an opponent of Khomeini’s wilayat al-faqih Musa is now remembered as the “vanished imam”, having disappeared in August 1978 while on a trip to Libya as part of a conspiracy between Qaddafi, PLO leader Yasser Arafat, and Khomeini; this tripartite alliance was at that moment close to its goal of toppling the Shah’s government, the most pro-American and pro-Israel state in the region, and Musa threatened to derail the revolution by coming to terms with the Shah and providing Iranian Shi’is another way. See: The Fall of Heaven, pp. 479-80.
- Joel Rayburn and and Frank K. Sobchak, The U.S. Army in the Iraq War, Vol. 2: Surge and Withdrawal, 2007-2011 (2019), p. 65.
- The Endgame, pp. 140-1.
- The Endgame, pp. 324-5.
- The Endgame, pp. 424.
- The Endgame, pp. 515.
- For an extended account of this story, see: John Schindler’s Unholy Terror: Bosnia, Al-Qaida, and the Rise of Global Jihad (2007)
- “The 9/11 Commission Report”, 2004, pp. 240-1, available here: https://www.9-11commission.gov/report/911Report.pdf
- Adrian Levy and Catherine Scott-Clark, The Exile: The Flight of Osama bin Laden (2017), p. 104.
- The Exile, pp. 281-2.