دينيس ساموت**
أُعلن يوم الجمعة 10 يناير 2020 عن وفاة السلطان قابوس بن سعيد، الذي حكم سلطنة عمان وسكانها البالغ عددُهم خمسةَ ملايين نسمة، لقرابة خمسين عامًا. وخلال حكمه، ظهرت عمان كدولةٍ حديثة، تعيش في سلامٍ مع نفسها، ومع جيرانها.
تجدر الإشارة إلى أن السلطان قابوس عندما تولى زمام السلطنة في يوليو 1970، كان أوَّل إنسان قد هبط على سطح القمر قبل ذلك بعام، لكن في المقابل ورث قابوس عن أبيه دولةً تبدو عالقة في العصور الوسطى: كانت لا تزال تُطبِّق نظامَ العبودية، ولا يوجد لديها سوى ثلاث مدارس ابتدائية، ومستشفى واحد، ولا توجد بها صحافة، وكانت الأمية حالة شبه عامة، وبدتِ الدولةُ وكأنها ذهبت في طيِّ النسيان.
تولى قابوس الحكم بدعمٍ من البريطانيين الذين كانوا في طريقهم إلى إنهاء النظام القديم للحماية عبر شبه الجزيرة العربية، التي كانت عمان جزءًا منها. في ظل نظام الحماية البريطاني، كانت السياسة الخارجية والدفاعية من الامتيازات البريطانية، في حين تُرك للسلطان إدارة بقية شؤون الدولة. وكان والد قابوس، سعيد بن تيمور، الذي كان يحكم البلاد منذ عام 1932، قد أبقى عليها في العصر القديم، وعزلَ نفسه عن شعبه ورفض اعتناق الحداثة إلا في المجالات التي تناسبه مثل الجيش، والتنقيب عن النفط الذي جلب له الإيرادات.
خشي البريطانيون الذين تعرضوا للمهانة في جنوب اليمن المجاور، من أن يكون المتمردون في منطقة ظفار بغرب عمان قد سئموا من سعيد بن تيمور، وقد يتحركون لاستبداله، مستغلين حالة السخط العارم في أماكن أخرى من الدولة. من جانبه، وافق قابوس، الذي تم تدريبه كضابط عسكري في أكاديمية ساندهيرست، والذي كانت علاقته بوالده سيئة للغاية، على القيام بهذا، ما دفع البعض إلى اعتبار قابوس مجرد عميل بريطاني. وفي حين أن قابوس كان طوال حياته مغرمًا ببريطانيا، فقد كان مصممًا على تحديثِ دولته، وإدخال العديد من التغييرات التي كانت البلاد في أمسِّ الحاجة إليها.
سرعان ما تلاشى التمرد في ظفار ليس عبر الوسائل العسكرية فقط، بل في الغالب عبر سياسة حميدة أتاحت للعمانيين للمرة الأولى الاستفادة من الخدمات الصحية والتعليمية التي لم يحلموا بها في ذلك الوقت. ولعل الجزء الأكثر إثارة للدهشة في هذه القصة هو أن قابوس قد تمكن من تحصين عمان بعيدًا عن مشكلات جيرانها لمدة خمسين عامًا.
عمان دولة مسالمة تقريبًا. العمانيون يتبعون مذاهب إسلامية مختلفة: السني، الشيعي، الإباضي.. إلخ. وفي الوقت الذي مزَّقت فيه الصراعاتُ الطائفية دولًا أخرى في المنطقة، ظلَّت سلطنة عمان محصنة، ويعود ذلك بالأساس إلى أن سياسة السلطان كانت تسمح، على الأقل في هذا، بالحرية الشخصية. وقد انعكس هذا التسامح في السياسة الخارجية، حيث كانت سلطنة عمان واحدة من الدول القليلة التي تحافظ على علاقاتٍ جيدة مع إيران الشيعية والسعودية السنية، وغالبًا ما تقدِّم مساعيها الحميدة إلى المجتمع الدولي لتهدئة الأزمات الإقليمية. وهذا يعني أن العمانيين يكادون لا يتواجدون في اضطرابات الجماعات الإسلامية المتطرفة في الخليج، وهذا إنجازٌ ليس باليسير.
وبخلافِ الحاكم الذي يعيش منعزلًا عن مواطنيه، ولا يحظى بشعبية لديهم، وهي الحال التي كان عليها والده، جاب قابوس جميع أنحاء الدولة، حيث كان يلتقي الناس، ويستمع إلى مخاوفهم، ومن ثم نجح في تحقيق توازن في مجتمعٍ شديد التعقيد.
التحول الذي شهدته سلطنة عمان في السنوات الخمسين الماضية، لا سيّما القفزات العملاقة في نوعية حياة مواطنيها العاديين، ونجاحها في تبني سياسة خارجية مستقلة في وقتِ الأزمات المستمرة في منطقة الخليج، والاحترام الحقيقي الذي يكنُّه معظم العمانيين للسلطان وتاريخه، تشهد على إنجازات قابوس.
رغم أن السلطان قابوس لم يختر وريثًا للحكم، تشير التقارير إلى أنه بعد وفاته، سيتم فتح رسالة وضعها في ظرف مغلق يوضح فيها من يخلفه. ومن المرجح أن يأتي الاختيار متوازنًا بين مختلف فروع أسرة آل سعيد لضمان استمرار تماسك الدولة. وبغضّ النظر عما تحتويه الرسالة، فإن الانتقال لن يكون مسألة بسيطة حتى لو حدث بسلاسة. وهنا، يرى بعض المحللين أن السؤال المهم هو ليس من سيخلف قابوس، بل ما نوع الحكم الذي سيُطبق في الدولة. هذه الرسالة قد تعالج القضية وربما لا، لكن الأسئلة حول ما إذا كانت عمان يمكن أن تنتقل من ملكية مطلقة إلى ملكية دستورية، ودور القوات المسلحة، وتشكيل برلمان جيد، هي أمور تجري مناقشتها الآن بشكل علني. ورغم أنه من غير المحتمل أن تتحرك القيادة الجديدة بسرعة كبيرة في أي من هذه الملفات، فربما تظهر خريطة طريق لمعالجتها قريبًا.
وهكذا، من المحتمل أن تهيمن القضايا المتعلقة بالحكم على المراحل الأولى من حقبة ما بعد قابوس. في ظل قيادة السلطان قابوس، نجحت عُمان في إيجاد حلول عمانية للمشكلات العمانية، وقد يكون هذا هو الحال الآن أيضًا. وفي حين أنه قد يُسمح بزيادة التمثيل الشعبي في عملية صنع القرار، فإنه من المحتمل أن تكون الزيادة متواضعة. ذلك أن سلطنة عمان، مثلها مثل دول الخليج الأخرى، تنظر إلى تجربة الكويت في الممارسة البرلمانية كنموذج يجب تجنبه. ومع ذلك، قد تكون القيادة الجديدة على استعدادٍ لتعزيز دور المواطنين في إدارة البلديات، وزيادة مشاركة المجموعات المهنية والتجارية.
لقد أسهمت إيرادات النفط والغاز في النمو الاقتصادي السريع في سلطنة عمان على مدار الخمسين عامًا الماضية، وإن كانت هذه الإيرادات متواضعة مقارنةً مع دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى. ومع ذلك، فإن تراجع احتياطيات النفط، وتقلب أسعار النفط في السوق، والرغبة في تقليل الاعتماد على موارد الطاقة، دفع الحكومة إلى السعي لتطوير قطاعاتٍ أخرى من الاقتصاد. وقد حدَّدتِ الحكومةُ، في وثيقةٍ بعنوان رؤية عُمان 2040، نُشرت قبل بضعةِ أسابيع، خمسة قطاعات ترغب في التركيز عليها كبديل، أو على الأقل كنوع من التكامل مع قطاع النفط والغاز.
تتمثل هذه القطاعات في الزراعة، ومصائد الأسماك، والتصنيع، والخدمات اللوجيستية والنقل، والطاقة والتعدين، والسياحة. وتنص الوثيقة على أن “سلطنة عمان تسعى جاهدة لتصبح دولة متقدمة، وتبني اقتصادًا منتجًا ومتنوعًا، يقوم على الابتكار، وتكامل الأدوار، وتكافؤ الفرص، والاستفادة من مزايا عمان التنافسية، مدفوعة بالقطاع الخاص نحو الاندماج في الاقتصاد العالمي، والمساهمة الفعالة في التجارة الدولية، بما يقود في نهاية المطاف إلى تحقيق تنميةٍ شاملة ومستدامة، على أساس القيادة الاقتصادية الفعالة التي تعمل في إطار مؤسسي من السياسات والتشريعات الاقتصادية المتسقة والمعاصرة، بما يضمن الاستدامة المالية وتنويع الإيرادات العامة”. وهكذا، فإن الرؤية والطموح موجودان، لكن يتعين على القيادة الجديدة أن تحولهما إلى حقيقة واقعة.
سياسة “التعمين” هي مفتاح نجاح رؤية 2040، تلك السياسة التي تهدف إلى بناء قدرات المواهب المحلية لكي تحل محل الخبرة والعمالة الوافدة، التي عادة ما تكون مكلِّفة. وتجدر الإشارة إلى أن السلطنة تطبق هذه السياسة منذ فترة، ولكن بمستوياتٍ متفاوتة من النجاح. ورغم أن السلطنة قد طورت نظامًا تعليميًا سليمًا في عهد قابوس، فإنها لم تؤد حتى الآن إلى تخريج عدد كافٍ من الأشخاص الذين يتمتعون بالتعليم والمهارات في المجالات المهمة.
في عهد السلطان قابوس، انتهجت عُمان سياسة خارجية مناسبة، حيث تبنت علاقات متوازنة بين المملكة العربية السعودية وإيران، وبين دولِ مجلس التعاون الخليجي المختلفة، وحتى بين العالم العربي وإسرائيل. وأقامت عمان اتصالاتٍ غير رسمية مع إسرائيل، قبل معظم الدول العربية الأخرى بوقتٍ طويل. ورغم أن بريطانيا تحتفظ بمكانة متميزة لدى سلطنة عمان، فإن هذه المكانة أضحت رمزية إلى حدٍّ كبير في الوقت الحاضر، ومن المرجح أن تتضاءل أكثر في فترة ما بعد قابوس، حيث يرى العُمانيون في هذه الأيام العلاقات التجارية مع آسيا أكثر أهمية.
في الوقتِ الحالي، تنفق عمان قرابة 10٪ من الناتج المحلي الإجمالي السنوي على ميزانية الدفاع. وتُعد هذه النسبة، كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي، أعلى بكثير من المتوسط الدولي الذي يبلغ 2.2٪. وفي عام 2015، أنفقت أكثر من 16٪ ما جعلها الأعلى إنفاقًا على ميزانية الدفاع في العالم في ذلك العام (كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي). وفي حين أن القيادة الجديدة قد تراجع نفقات الدفاع هذه، فإن التخفيضات الحادة يمكن أن تسبب استياء في صفوف القوات المسلحة لا تقوى القيادة الجديدة على تحمله. لقد ظلَّت القوات المسلحة، لنصفِ قرنٍ من الزمن، مملكة قابوس الشخصية، ومن ثم من المرجح أن يكون الجيشُ هو أكثر من يشعر بغياب السلطان. وهنا أيضًا، في الجيش على وجه الخصوص، ستواجه سياسة التعمين اختبارًا حقيقيًا.
لقد وُلد معظمُ العمانيين وعاشوا طوال حياتهم في عهد قابوس. ولا شكَّ أن نهاية هذه الحقبة الطويلة ستنطوي على تحدياتٍ وفرص. لقد كان السلطان قابوس عنوان عُمان الحديثة. وأصبحتِ الدولةُ الآن أفضل كثيرًا عما كانت عليه عندما تولى قيادتها منذ خمسين عامًا مضت، حيث يُنسب الكثير من الفضل في هذا النجاح إليه. خلفاؤه سيواجهون مجموعة مختلفة من التحديات والتغيير أمر حتمي لا مفر منه.
* يسعى موقعُ «عين أوروبية على التطرف» إلى نشرِ وجهاتِ نظرٍ مختلفة، لكنه لا يؤيد بالضرورة الآراء التي يُعبِّر عنها الكتّابُ المساهمون، والآراء الواردة في هذا المقال تُعبِّر عن وجهةِ نظر الكاتب فقط.
**د. دينيس ساموت: مدير مؤسسة لينكس (للحوار والتحليل والبحوث) ومراقب ومعلق متخصص في الشؤون الخليجية. [email protected]