تلعب السرديات دورًا محوريًا في عمليات التطرف الحديثة لأنها توفر “نظامًا تنافسيًا للقيم والوجود” يمكن للمجندين المحتملين الالتزام به، وبناء نظرة بديلة للعالم معه. السرديات القوية عن أزمة وجودية، لمجموعةٍ مختارة من الأبطال الذين يدافعون عن أولئك الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، ضد القوى التآمرية والشريرة التي تتحكم سرًا في مجريات الأحداث، وتُسيّر الأمور في العالم، والخونة، والمجتمع الطوباوي الذي أقيم بعد “المعركة النهائية ضد الظلام”، ليست فقط نسيج الكتب المصوّرة والأفلام الهوليوودية، بل هي جزء لا يتجزأ من تكتيكات المتطرفين في رواية القصص والتجنيد. إنها على الأقل، جزئيًا، تمنح القصة الجيدة قوة تجذب الأفراد إلى التطرف وتساهم في تشددهم.
ولذلك، فمن المنطقي أن تسعى الجهات الفاعلة في مجال مكافحة/ منع التطرف العنيف إلى الاستفادة من السرديات الإيجابية عن التسامح والانفتاح والحرية والديمقراطية في جهودها الرامية إلى مكافحة التطرف، وتوفير سرديات مضادة وسرديات بديلة تحاول “تحدي الرسائل المتطرفة والمتطرفة العنيفة -سواء بشكلٍ مباشر أو غير مباشر- من خلال مجموعة من الوسائل عبر الإنترنت وخارجها”. لأكثر من عقدٍ من الزمان، كانت هذه الحملات جزءًا رئيسًا من تدابير مكافحة/ منع التطرف العنيف في أوروبا، واتخذت أشكالًا مختلفة في عالم الإنترنت، بما في ذلك ألعاب الفيديو، وحملات يوتيوب، وقنوات إنستجرام، ووسائل الاتصال الرقمية الأخرى.
لا يزال ما ينبغي أن تبدو عليه مثل هذه الحملات السردية (narrative campaigns) قيد المناقشة. وتقدم العديد من الأدلة الإرشادية والنماذج توصيات عامة بما في ذلك: عدم استخدام الحكومات كرُسُل، وإدارة حملات رقمية على منصات وسائل التواصل الاجتماعي الأكثر استخدامًا من قبل الجمهور المستهدف، وإنتاج محتوى “مبهر” واحترافي، وإعداد حملات تناسب جمهورًا مستهدفًا محدودًا. ويقترح هذا الأخير استخدام البث المحدود، بدلًا من جهود البث الواسع النطاق؛ أي تحديد جمهور محدد جدًا، وتكييف المحتوى وفقًا لتفضيلاتهم، بدلًا من السعي إلى إنتاج محتوى يمكن أن “ينتشر” بسرعة، ويروق لمجموعةٍ كبيرة من الأفراد. ومع ذلك، لمجموعةٍ متنوعة من الأسباب، هذا أمر يصعب تنفيذه على أرض الواقع.
السرديات كمرايا
في المجال الرقمي، أصبح البثّ المحدود أسهل مما كان عليه في أوقات ما قبل الإنترنت، حيث يشارك المستخدمون معلوماتٍ شخصية عن أنفسهم وتفضيلاتهم عبر الإنترنت، على سبيل المثال من خلال وضع هواياتهم على فيسبوك، أو الاستماع إلى أغانيهم المفضلة على يوتيوب، أو متابعة بعض المشاهير على إنستجرام، ويمكن للخوارزميات استنتاج المحتوى الذي يروق للمستخدمين من خلال أنشطتهم عبر الإنترنت. بيد أن الجهات الفاعلة في مجال مكافحة/منع التطرف العنيف لا تتاح لها عادة إمكانية الوصول إلى هذه المعلومات الشخصية التفصيلية لجمهورها المستهدف، وكثيرًا ما تستند عملية تصميم المحتوى إلى فئاتٍ واسعة إلى حد ما. بالإضافة إلى ذلك، ينبغي أن تنطبق جهود منع التطرف، نظريًا، على مجموعةٍ كبيرة ومتنوعة من الناس، في حين أن التدخلات، الفعلية، التي تستهدف المتطرفين بالفعل قد لا تكون مفيدة إلا في عددٍ محدود من الحالات. ومع ذلك، فحتى عندما يكون من الممكن تحقيق استهداف محدود (narrow targeting)، وتتوفر معلومات أكثر تفصيلًا، فإن تكييف الحملات السردية وفقًا لفئات محددة يطرح تحدياتٍ هائلة.
في هذا الصدد، لخص مايكل إنده؛ مؤلف العديد من كتب الأطفال المعروفة، سبب ذلك قائلًا: “عندما يقرأ قارئان الكتاب نفسه، فإنهما في الواقع لا يقرآن الشيءَ نفسه. كل يجلب نفسه، وأفكاره وروابطه الفكرية، وتجاربه، وخياله، ومعاييره، فيما يقرأ. يمكن للمرء أن يقول إن الكتاب هو مرآة، حيث يرى القارئ نفسه فيما يقرأ”1. هذا ما يُشكّل قوة السرديات وضعفها، سواء كانت موجودة في الكتب أو الأفلام أو على إنستجرام. لا يمكن التنبؤ بكيفية تفاعل الفرد مع قصةٍ ما؛ لأن هناك على ما يبدو عددًا لا نهاية له من العوامل التي تؤثر على كيفية استقباله للقصة، وتفاعله معها.
ما عرفه إنده بالبديهة من تجربته كمؤلف، أكدته الأبحاث الأكاديمية حول السرديات: الشخصية، والتفضيلات، والخبرات السابقة، والوضع الآني الذي يتلقى فيه الفرد السردية يحدِّد استقباله للسردية. تشمل السمات الشخصية التي تؤثر على استقبال السردية: 1) قابلية التأثر العاطفي: مدى سهولة انغماس المشاهد أو القارئ في القصة. 2) الحاجة للعاطفة: كم يسعى الفرد للمحتوى العاطفي، ويستمتع به. 3) الحاجة إلى المعرفة: إلى أي مدى يسعى الفرد للمحتوى الذي يشكل تحديًا معرفيًا، ويستمتع به. 4) السعي للإثارة: مدى الجاذبية التي ينظر بها الفرد إلى السرديات التي تحتوي على قدرٍ عال من الإثارة.
قد تتعلق التفضيلات بالنوع الأدبي، والأسلوب البصري، ورواية القصص الواقعية إلى حدٍّ ما (مثل الخيال)، والتركيز المواضيعي، في حين أن التجارب السابقة قد تدفع الأفراد إلى البحث عن أنواع معينة من القصص أو تجنبها، مثل تلك التي تكون بعيدة جدًا عن معتقداتهم الشخصية. وقد تؤثّر الحالة الآنية للفرد من حيث الاستهلاك السردي أيضًا على استقباله للسردية، على سبيل المثال المشتتات أو المزاج الحالي أو مشاهدة السردية على الهاتف مقابل الشاشة الكبيرة. وتشمل العوامل الإضافية الأخرى: مدى قدرة الأفراد على التعاطف مع بطل الرواية، ومدى جاذبية شخصياتها، وجودة السرد.
ولأن هناك العديد من العوامل التي تؤثر على استقبال الفرد لسرديةٍ ما، بحيث لا تستطيع الجهات الفاعلة في مجال مكافحة/منع التطرف العنيف السيطرة عليها، فلا يمكن تحقيق عملية التكييف المثالية للسرديات. قد تؤثر عوامل الشخصية؛ مثل قابلية التأثر العاطفي أو الحاجة إلى المعرفة على مجموعاتٍ ديموغرافية، وقد تتباين تباينًا كبيرًا داخل جمهور مستهدف بعينه. كما أنها قد تتأثر بتفضيلات النوع، والأسلوب الأدبي.
على سبيل المثال، يمكن للمرء أن يتصوّر بسهولة أنه في حين يُعتقد عمومًا أن الشباب مهتمون بالسعي إلى قدرٍ كبير من الإثارة، وبالتالي يجدون في قصص الأبطال الخارقين الحافلة بقدرٍ كبير من الإثارة جذابة، سيكون هناك أيضًا شباب من خلفية، ومجموعة ديموغرافية واهتمامات مماثلة، لكنهم لا يستمتعون بمثل هذه السرديات.
باختصار، الاستهداف المثالي يتطلب استهدافًا فرديًا. ومن غير المؤكد ما إذا كان من الممكن على الإطلاق تحديد الملف الشخصي الكامل للمستخدمين الأفراد بحيث يمكن التنبؤ باستقبالهم لسرديةٍ ما، وما إذا كان استهداف الفرد بسردياتٍ محددة لن يُشكّل مخاطر أخلاقية خطيرة، ليس في سياق مكافحة/منع التطرف العنيف بل في مجالاتٍ أخرى. ومن ثم، قد لا يكون التركيز الصارم على تحسين الاستهداف هو الطريق الأكثر فائدة لحملات السرديات المتعلقة بمكافحة/منع التطرف العنيف.
نهج المكتبة الرقمية
مما لا شك فيه أن هذه المقالة لا تجادل ضد تصميم الحملات السردية، بما يتناسب مع جمهورٍ مستهدف محدد. فمن المفيد دائمًا أن يفهم المرء إلى أي مجموعة يتحدث، وما هي تفضيلاتها. ومع ذلك، وكما رأينا، فإن الاستهداف لن يكون مثاليًا أبدًا، ويعتمد استقبال الفرد لسردية اعتمادًا كبيرًا على الصفات والتفضيلات الفردية، ما يعني أنه ربما يكون هناك تنوع كبير داخل أي جمهور مستهدف محدد. لذلك، فبدلًا من التطلع فقط نحو استهداف أفضل، أود أن اقترح أن النظر في الاتجاه المعاكس قد يكون مثمرًا أيضًا. ماذا لو عوملت حملات السرديات ضد التطرف بشكل أقل مثل صفحة واحدة مخصصة تبث على نطاقٍ ضيق لجمهور محدد للغاية، وأكثر شبهًا بمكتبة متنوعة تتيح الاختيار والحرية لزوارها؟
وبدلًا من السعي إلى شنِّ حملاتٍ سردية أكثر تحديدًا، يمكن للجهات الفاعلة في مجال مكافحة/منع التطرف أن تبحث اتباع نهج المكتبة الرقمية. في المكتبة، تتاح مجموعة متنوعة من الأساليب الأدبية: السيّر الذاتية، وكتب الخيال، والأدب النقدي والمحفّز على التفكير، والكتب الكوميدية الرومانسية الماتعة وسهلة القراءة في آن واحد، والروايات التاريخية، والكتب غير الخيالية، والروايات الطوباوية الكبرى، والروايات المُغرقة في الواقع من العالم المعاصر، والروايات المصوّرة، والنصوص الدينية، وكتب التنمية الذاتية.
باختصار: في أي مكتبةٍ ناجحة، سيجد كل شخص مبتغاه. بعض الناس قد يعرفون بالضبط أي كتاب يريدون قبل الدخول، وينبغي أن يجدوا كل ما يرغبون فيه بسهولة. وقد يتجول آخرون بحرية بين كل هذه العوالم، فيلهمهم ما يرونه، ويختارون كتابًا على الفور. هؤلاء يمارسون درجة عالية من الحرية الشخصية؛ أي يمكنهم النظر في كل شيء، ومن ثم يختارون الأكثر جاذبية لهم. الاستهداف المحدود غير ضروري؛ لأن الناس يختارون بأنفسهم ما يحلو لهم.
يؤَمل أن يؤدي هذا النهج إلى تحاشي الاستهداف المعيب للحملات السردية. ويمكن أن يساعد إنتاج مجموعة واسعة من محتوى مكافحة/منع التطرف العنيف الذي يمكن للمستخدمين العثور عليه، والاستمتاع به، بسهولة حسب اختيارهم ووفقًا لتفضيلاتهم، في جلب المحتوى “الصحيح” (الأكثر جاذبية) إلى الجماهير المستهدفة. وبما أن الأفراد يستهدفون أنفسهم، أي أنهم يختارون المحتوى المفضل لديهم، فمن المرجح أن يكون التوفيق بين التفضيلات والسرديات مرتفعاً نسبيًا. وبالإضافة إلى ذلك، فإن إتاحة عملية الاختيار قد تزيد من مستوى الحرية المتصوّرة في مشاهدة مثل هذه الحملات السردية، وهو ما قد يكون مفيدًا لاستقبال هذا المحتوى. لا شك أن تقديم رواية متشابهة في أنماطٍ مختلفة، مع درجات مختلفة من الإثارة، أو درجات مختلفة من الواقعية يتيح للجماهير الاختيار، وبالتالي، يزيد من احتمال أن يجد أي فرد النمط السردي الذي يروق له.
الخلاصة
ومع ذلك، فلكي ينجح نهج المكتبة هذا، يجب توفير مجموعة متنوعة من الحملات بأساليب مختلفة. في الوقت الراهن، غالبًا ما تكون الحملات السردية قصيرة الأجل. ذلك أنها تُنشر لبضعة أسابيع أو أشهر، ثم “ينتهي” المشروع. ولا شك أن أي مكتبة، لا تحتوي سوى على عددٍ قليل من الكتب، وتُعرض لفترة قصيرة من الزمن، هي مكتبة رديئة جدًا. لذا، سيكون من الضروري التخطيط لحملاتٍ أطول مدى وأكثر تنوعًا، تنطوي على تعاون أكبر بين مختلف الجهات الفاعلة في مجال مكافحة/ منع التطرف العنيف لتدشين حملات سردية بتركيزٍ مختلف، وبأساليب مختلفة، من أجل توفير مكتبة مفعمة بالحياة. وإذا أمكن تحقيق ذلك، فإن اتباع نهج المكتبة الرقمية يمكن أن يساعد في تيسير الاختيار الذاتي للجمهور لحملات السرديات المناسبة لتفضيلاته المحددة على نحو أكثر فعالية مما يمكن أن يحققه الاستهداف.
نؤكد مجددًا أن هذه ليست دعوة إلى عدم استخدام البث المحدود أو عدم تكييف حملات السرديات ضد التطرف بما يناسب جمهورًا محددًا، ولكنها دعوة للتفكير فيما يمكن أن يجلبه التعدد والتنوع في سرد القصص إلى الطاولة بالنظر إلى مدى قصور عملية الاستهداف في الحملات السردية، حيث يتأثر استقبال الأفراد لهذه الحملات بالعديد من العوامل التي لا يمكن استنباطها بسهولة من ملفاتهم الشخصية على الإنترنت. وبالمناسبة، توجد بالفعل مكتبة للسرديات المضادة.
* مستشارة في مكافحة الإرهاب في مؤسسة كونراد أديناور ببرلين
المراجع:
[1] My translation from Ende, M. (2019). Mehr Phantasie wagen: Ein Manifest für Mutige. Thiele Verlag: München, p.22