جابرييل سيوبلوم فودور*
شهدت السويد مؤخرًا سلسلةً من أعمال الشغب العنيفة للغاية في عددٍ من المدن والبلدات ردًا على تدنيس القرآن من قبل شخصية سياسية دنماركية/ سويدية مغمورة من اليمين المتطرف، يدعى راسموس بالدوان، الذي جعل مثل من هذه الاستفزازات ضد المسلمين بصمته السياسية المميزة. كانت فكرته وطريقته في الاختيار هي تنفيذ مثل هذه الأعمال في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية من المسلمين من أجل إثارة ردود فعل عنيفة منهم -وهو أمر للأسف غالبًا ما ينجح فيه- من أجل إثبات نقطة مفادها أن المسلمين لا يستطيعون التعايش في الأراضي الغربية.
ظاهريًا، يبدو أن الردود العنيفة التي رأيناها هي ما كان يبتغيه بالضبط: رد إسلامي عنيف وغير مقبول على تدنيس القرآن. وهذه هي الطريقة التي نظرت بها أجزاء من المؤسسة السياسية والثقافية للموضوع، أي “صراع ثقافي” جوهري في نهاية المطاف بين المفاهيم الإسلامية والغربية للحرية وحرية التعبير. في حين أن هذا التفسير قد يبدو صحيحًا، فإن الأسباب الكامنة وراء ذلك أكثر تعقيدًا.
المعضلة المتعددة الثقافات المتنازع عليها: حرية التعبير مقابل الحساسيات الدينية
لقد جدَّدت أعمال الشغب النقاش بشأن واحدة من أكثر المسائل المتنازع عليها في عصرنا في السياسة الأوروبية في العلاقات مع الأقليات الدينية، وهي مسألة غالبًا ما تثير مشاعر قوية، وهي حرية التعبير مقابل الحساسيات الدينية، والمشاعر والحساسيات الإسلامية على وجه الخصوص.
هذه نقطة شائكة شوهدت مرارًا وتكرارًا منذ قضية سلمان رشدي في عام 1989، من خلال الفوضى التي اندلعت بسبب الرسوم الكاريكاتورية لصحيفة “يولاندز بوستن” في عام 2005 ومذبحة موظفي مجلة “شارلي إبدو” في عام 2015. وجهة نظر الأغلبية في أوروبا هي أن الحق في حرية التعبير، وفي هذه الحالة التجديف، أهم من المشاعر الدينية، وأنه يتعين على أولئك الذين شعروا بالإهانة أن يتعلموا التعايش مع هذا الوضع.
في حين أن الغرب قد تعلّم إلى حدٍّ كبير، مع القضاء على دور الدين في الحكم بصورة واضحة، وأصبح مجرد ممارسة خاصة وهامشية، وأضحى الخطاب العام يعج بانتقادات “للدين المنظم” بسبب انتهاكاته التاريخية للسلطة والنفاق الحالي، فإن هذا ليس هو الحال في معظم أنحاء العالم الإسلامي.
ففي العالم الإسلامي، لا يزال الدين حاضرًا نابضًا في الحياة اليومية، ويحظى بالتبجيل (على الأقل علنًا) والتعاليم الإسلامية -خاصة قضايا التجديف والكفر- التي تحترمها الحكومة، وغالبًا ما تفرضها. وفي معظم الدول ذات الأغلبية المسلمة، يظل نقد التعاليم والمعتقدات الدينية حساسًا للغاية لأسبابٍ تاريخية وسياسية واجتماعية. وقد أدّى التصادم بين هاتين النظرتين إلى إثارة الكثير من الجدل بين المسلمين، فضلًا على المواقف الإشكالية التي تتحوّل فيها هذه الاختلافات بين القيم إلى اشتباكاتٍ فعلية بين الناس.
من وجهة نظر دينية صارمة، فإن الرد الإسلامي التقليدي -خاصة في المواقف التي يعيش فيها المسلمون كأقلية- هو التزام الهدوء في مواجهة الاستفزازات، وليس الرد عليها، والابتعاد عنها. لقد صرّح العلماء المسلمون التقليديون والمعتدلون على مرِّ القرون، وكذلك في عصرنا هذا، مرارًا وتكرارًا، أنه لا ينبغي للمؤمنين أن يكلفوا أنفسهم عناء الرد على الاستفزازات، أو حتى الاهتمام بها، لأنها تهدف عادة إلى التحريض على ردود الفعل لإظهار الدين وأتباعه بمظهر سلبي. كما أن أعمال الشغب أو الإرهاب أو غيرها من أشكال السلوك المعادي للمجتمع تنتهك مبدأ عقيدة الأمان أو “العهد الأمني”، الذي يلتزم المسلمون، من منظورٍ ديني، باتباعه كأقليات في الأراضي غير المسلمة: من المفترض أن يعيش المسلمون وفقًا للقوانين والعادات والأنظمة المحلية.
وأخيرًا، إذا شعر شخص ما أنه لا يستطيع العمل في أرضٍ غير مسلمة، وأن نمط الحياة والمعايير في المجتمع الذي يعيش فيه يُشكّل اعتداء كبيرًا جدًا على معتقداته الخاصة، فإن العلماء المسلمين يدعون تقليديًا إلى إعادة التوطين في أرضٍ مسلمة، كإجراء أخير لتجنب الصراع. ومن أسف أن هذه النداءات لم تلق آذانًا صاغية في بعض الحالات، وتبعتها نوباتٌ عاطفية من الغضب، تحوّلت في بعض الأحيان إلى نوباتٍ مدمرة للغاية.
سردية “صدام الحضارات”
خلص عدد متزايد من الأصوات في الغرب، ليس أقلها في السويد، إلى أن التدين والحساسيات الإسلامية تتناقض مع بعض الجوانب في المجتمع الغربي. وقد كان الدافع وراء ذلك جزئيًا دعوات معاصرة أكثر حزمًا، من الجماعات الإسلامية تجاه الأغلبية العلمانية، إلى احترام معتقداتها وممارساتها، بما في ذلك الجوانب المثيرة للجدل من هذه المعتقدات.
وفي حين أن هذا يقع تمامًا ضمن حدود الديمقراطية والتعددية، فإن بعض هذه الدعوات تحد من حرية التعبير وتحظر ما يعتبره المسلمون مسيئًا قانونيًا. ورغم أن القلق بشأن هذا الأمر قد بدأ ينتاب اليمين السياسي، فإنه بدأ يكتسب المزيد من الزخم لدى شتى أطراف الطيف السياسي.
لوضع هذا الأمر في منظوره الصحيح، من المهم الإشارة إلى أن السويد تُصنّف كواحدة من أكثر الدول علمانية وليبرالية في العالم، حيث يُنظر إلى الدين والحساسيات الدينية عادة على أنها أمور قديمة عفا عليها الزمن. في القرنين التاسع عشر والعشرين، وتحت قيادة الاشتراكيين الديمقراطيين، خاض المجتمع السويدي معركة شرسة ضد تأثير وتعاليم كنيسة السويد القوية جدًا آنذاك، ويعتبر ترويض الكنيسة في نهاية المطاف جزءًا جوهريًا من “الأسطورة المؤسسة” للسويد الحديثة.
تجدر الإشارة إلى أن هذه القضية تتفاعل في سياق التغيرات الديمغرافية السريعة في السويد خلال القرن الحادي والعشرين. لقد أنتجت هذه التأثيرات الثقافية (فضلًا عن القضايا) الناجمة عن التدين الإسلامي “الأجنبي” مؤخرًا، وحضورها المتزايد، واقعًا جديدًا، يثير قلق بعض شرائح المجتمع.
وقد بدأ عدد متزايد من السويديين في التعبير عن عدم ارتياحهم لهذه الاتجاهات والتغيرات العامة التي حدثت في العقود الأخيرة، التي تعتبر تغييرات جذرية إلى حد ما في ما كان في السابق يعتبر بلدًا متجانسًا عرقيًا وثقافيًا، مع ما كان ينطوي عليه ذلك من الشعور بالألفة. وينعكس هذا في الصعود القوي لأحزاب مثل “ديمقراطيي السويد” و”البديل من أجل السويد”، وزيادة عامة في دعم اليمين السياسي، والحركات المحافظة.
من ناحيةٍ أخرى، لقد خلق نضال المسلمين من أجل ممارسة إيمانهم وتفسيره وإعادة تفسيره في ضوء الحقائق العلمانية المحيطة به، والعيش في مجتمع لا يهتم كثيرًا بحساسياتهم الدينية أو الثقافية، “عقلية الحصار” بين بعض شرائح السكان المسلمين. إن واقع الحالة أقل أهمية بكثير من التصورات، لأن هذه التصورات هي التي تقود أنماط السلوك. وبالنسبة للعديد من المسلمين، فإن تجربتهم المعيشية، كما ورد في بيانات الاستطلاعات الضخمة، هي الشعور بأنهم يتعرضون للتمييز وكراهية الأجانب، ويعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية. الأمر الذي يؤجج هذه المشاعر هو الفصل الاجتماعي، الذي يحد من الاتصال بين المهاجرين والسويديين، ويتمسك بعدم الفهم المشترك: فكلا الجانبين غير معتادين بشكلٍ أساسي على عادات وتقاليد وطرق حياة الآخر، ولم تثبت محاولات كسر ذلك نجاحها الكبير. كما أن هذا الاغتراب المتبادل قد أعطى للأسف الفرصة لدعاة الإسلام السياسي والنزعة التكفيرية لنشر أيديولوجيتهم ومعلوماتهم المضللة بسهولة نسبية.
لسوء الحظ، في حين أن معظم قادة المجتمع المسلم يسعون إلى الوئام والتفاهم مع المواطنين غير المسلمين، فإن بعض قادة المجتمعات المسلمة -أولئك الذين يتحملون عبء المسؤولية عن نشر الوعي في مجتمعاتهم- ليس لديهم اهتمام كبير بالوفاء بهذا الواجب، وكانوا من بين من تزعموا إظهار هذه التوترات المجتمعية في العنف من خلال لفت الانتباه إلى الإهانات أو الاستفزازات التي كان من الممكن أن تمر دون أن يلاحظها أحد.
الغضب؟
لقد تراكمت هذه القضايا -التاريخية والأيديولوجية والديموغرافية والاجتماعية- ما أنتج شعورًا بالمظلومية لدى الجانبين. ولكن هناك عوامل أخرى أيضًا. قد ظهرت حكايات، علنية ولكاتب هذا المقال على حد سواء، تروي العديد من المظالم، سواء كانت حقيقية أو متصوّرة، فيما يتعلق بنهج قوات الشرطة وسلوك فرادى الضباط في هذه المناطق المعرضة لهذه التوترات. تتحدث المصادر نفسها عن عمليات توقيف وتفتيش متكررة مزعومة، وسلوك عدواني من جانب بعض الضباط، على مدى فترة زمنية أطول.
وقد خلقت هذه التقارير، الجارية في المجتمع السويدي المسلم، عن صواب أو خطأ، شعورًا بالاستياء المتزايد في المناطق وبين المجموعات المعرّضة للتهميش بالفعل تجاه الهيئات القانونية. ويُزعم أن هذه الاتجاهات كانت استجابة لدعواتٍ من السياسيين إلى انتهاج “سياسة أكثر صرامة” من قبل الشرطة في هذه المناطق لوقف جرائم العصابات وتجارة المخدرات والتطرف، ولكن بدلًا من أن السعادة بالحد من الجريمة، فسر البعض تدابير إنفاذ القانون كتسلط عشوائي على المجتمع الأوسع نطاقًا.
علاوة على ذلك، يبدو أن أعمال الشغب شملت عناصر كانت تسعى فقط إلى مواجهةٍ مع الشرطة والسلطات. وفي مؤتمرٍ صحفي، ادّعت الشرطة أن لديها أدلة على أن الجماعات الإجرامية استغلت الاحتجاجات للتنفيس عن غضبها، والانتقام من قوات الشرطة. كما وصفت الشرطة عددًا من مثيري الشغب بأنهم “ليس لديهم أجندة”: كانوا مجرد أشخاص يتحينون فرصة للعراك.
وختامًا، سيكون من الإنصاف القول إن أعمال الشغب هي نتاج مزيجٍ من جميع العوامل المذكورة أعلاه، ما يترك أمام السلطات والسياسيين والمجتمع المدني في السويد تحديات خطيرة يتعين عليهم معالجتها. وفي ظلِّ أن الانتخابات الوطنية ستعقد في غضون بضعة أشهر، سننظر ما هو تأثير الفوضى التي اندلعت الأسبوع الماضي على تشكيل الحكومة المقبلة.
* باحثٌ متخصص في دراسة العمل المجتمعي الديني، ومكافحة التطرف العنيف، في المركز الدولي لدراسة التطرف العنيف.