عقب مقتلِ أبوبكر البغدادي، زعيم تنظيم داعش مؤخرًا، على يد القوات الخاصة الأمريكية، زعم معلقٌ أردني يكتب في صحيفة “الدستور” الأردنية، أن البغدادي كان عميلًا إسرائيليًا، وأنه تدرب على يد جهاز المخابرات الخارجية الإسرائيلي”الموساد”؛ بغية تشويه صورة الإسلام. هذا التفسيرُ للأحداث هو جزءٌ من رواية أكبر، مفادها أن الغرب واليهود يخوضون “حربًا ضد الإسلام”(1). ووفقًا لتلك الرواية، فإن إنشاء داعش هو مجرد مثال على المخطط الرئيس لتدمير الإسلام، الذي يعتقد بعض المفكرين الإسلاميين -من بينهم مُنظِّر جماعة الإخوان المسلمين سيد قطب- أنه قائم ومستمر منذ بداية الإسلام.
هذه الرؤية الطائفية تصوِّر الغربَ واليهود كمعتدين ضد المسلمين الضحايا. وغالبًا ما يستشهد الإسلاميون بالقرآن -“وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ”(سورة البقرة- 120)- كدليلٍ على أن هذا صراع أبدي لا يمكن حلُّه إلا عن طريق إبادةِ جانبٍ للآخر. وقد انتشرت نظرية المؤامرة هذه، من بين أمور أخرى، بشكل كبير في الشرق الأوسط، على الرغم من أن غالبية المسلمين لا يصدقونها بالطبع، ومع ذلك، فإنها توفر للإسلاميين أساسًا قويًا يخدم أجندتهم.
تتضمن نظريةُ المؤامرة الخاصة بـ”الحرب ضد الإسلام” رواياتٍ فرعية مختلفة، أولًا، تتحدث عن وجود خطط يهودية مزعومة لتدمير الأماكن الإسلامية المقدسة في القدس. وثانيًا، هناك اتهام بأن الغرب يسعى لنشر أفكار منحرفة بين المسلمين لتقويض الأساس الروحي والأخلاقي للمجتمع الإسلامي. وثالثًا، هناك فكرة عن حرب عسكرية منسقة ضد الإسلام، من كشمير إلى فلسطين، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية التي يسيطر عليها اليهود.
وفي هذا الإطار، توجد سردية فرعية تصور الشيعة على أنهم “العدو الداخلي”، الذي يساعد هذه المؤامرة الخارجية على تدمير الإسلام. وقد اكتسب هذا الطرحُ، الذي استفادت منه، جزئيًا، بعضُ الحكومات الإقليمية كتدبير مضاد للحكومة الشيعية الثورية في إيران، شعبيةً منذ فترة الثمانينيات، خاصة في الدوائر السلفية. وقد كان هذا هو الإرث الفكري الذي تبناه مؤسس داعش لتبرير الحملات الإرهابية ضد الشيعة.
ورغم أن هذه الروايات، والروايات الفرعية، يتم تبنيها، غالبًا، بشكلٍ مستقل أو جزئي، فإنها تشكِّل إجمالًا روايةً واحدة رئيسية، تزعم أنها تُفسر التاريخ الحديث، والأحداث الجارية.
على الرغم من أنه لا يمكن تحديد اللحظة المحددة لظهور نظرية المؤامرة، فإنه يمكن تتبع تطورها إلى أواخر القرن التاسع عشر، على الأقل، عندما تمت ترجمة نظريات المؤامرة الأوروبية -التي تتهم الماسونيين واليهود بالسعي لإسقاط النظام الحالي من خلال مكائد سرية- إلى اللغة العربية، وانتشرت في جميع أنحاء المنطقة. وكان هذا قبل تأليف الكتاب الملفق سيئ السمعة المعادي للسامية الذي يحمل عنوان «بروتوكولات حكماء صهيون»، الذي نشر لأول مرة في عام 1903.
في العقد الأول من القرن العشرين، بدأت هذه الأفكار تؤتي تأثيرها على المشهد الفكري والسياسي في الشرق الأوسط. وفي هذا الإطار، لعبت صحيفة “المنار” المصرية التي أسسها محمد رشيد رضا دورًا مهمًا في نشر نظريات المؤامرة هذه. كان رضا ناشطًا إسلاميًا رائدًا في ذلك العصر، وكان له تأثير فكري كبير على حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين.
وقد أكد رضا في مقالاته أن اليهود هم الذين وقفوا خلف ثورة الشباب التركي خلال الإمبراطورية العثمانية في عام 1908 ودبروا الثورة الفرنسية عام 1789 وتمرد عام 1905 في روسيا أيضًا. واعتقد رضا أن اليهود كانوا يخططون للاستيلاء على المسجد الأقصى وطرد السكان المسلمين والمسيحيين من الأرض المقدسة. وقد ترك هذا المزيجُ الذي تبناه رضا من الفكر التآمري الأوروبي، والإسلام السياسي، بصمةً دائمة.
وفي هذا السياق، أوضح المؤرخ جيمس ب. يانكوفسكي، أن فكرة أن الغرب يخوض حربًا ثقافية ومعنوية ضد الإسلام قد نشأت بعد ذلك بفترةٍ قصيرة. وشاعت لأول مرة في الأدب المصري الإسلامي في عشرينيات القرن الماضي، حيث زعم المجادلون أن هناك حملة لتشويه الإسلام يقودها مبشرون مسيحيون وعلماء غربيون، الذين كانوا يعرفون آنذاك باسم المستشرقين، وهو المصطلح الذي تم الاستيلاء عليه بعد ذلك وإساءة استخدامه.
لا يمكن أن يكون هذا النهج غير التاريخي لاستخدام مصطلح “المستشرق” أكثر وضوحًا من هذا: فلم يكن هناك أي شخص أكثر عُرضة للتعاطف مع العرب وأكثر فضولًا لفهم الإسلام وتياراته المتنوعة من المستشرقين الغربيين. وبحلول ذلك الوقت أيضًا تخلى المبشرون إلى حد كبير عن خططهم لتحويل السكان المسلمين وركزوا على تحسين التعليم في المنطقة. وإلى يومنا هذا، تعد أفضل المؤسسات التعليمية في المنطقة، مثل الجامعة الأمريكية في بيروت، نتاج جهود المبشرين. لكن أيًا من هذا لم يوقف الحركات الإسلامية الناشئة التي ابتكرت نظريات المؤامرة الخاصة بها، وصعّدت الخطاب إلى درجةٍ قيل فيها إن المبشرين والمستشرقين يعادلون الصليبيين في ذلك الوقت.
لا شك أن أفكار المواجهة الحتمية بين ما كان يُطلق عليه آنذاك “العالم المسيحي”، الآن الغرب، والإسلام، قد ساهمت في تصعيد الصراع العربي-اليهودي في فلسطين، في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، أي قبل أكثر من ستين عامًا من كتابة العالم السياسي الأمريكي صموئيل هنتنجتون مقاله الشهير بعنوان “صراع الحضارات”، الذي يُلقى باللوم عليه في بعض الأحيان في إثارة هذا الصدام.
في الفترة التي تلتِ الحربَ العالمية الأولى وانهيار الخلافة العثمانية، بدأت الحركة الإسلامية تتحدث عن التفاعل بين الغرب والإسلام كحرب دينية، وأصبحت تشارك بشكل متزايد في الجهود المبذولة لخلق هذا الوضع. من جانبها، رأت جماعةُ الإخوان المسلمين أن اليهود ليس لديهم طموحات إقليمية في فلسطين فحسب، بل يخوضون حربًا أوسع نطاقًا ضد الإسلام، شملت نشر أفكار “يهودية” هدَّامة مثل الماسونية والشيوعية.
أمين الحسيني، زعيم الحركة الوطنية العربية في فلسطين، الذي تعاون لاحقًا مع هتلر في محاولة لتدمير اليهود تمامًا، اعتنق هذه النظريات، واستخدمها للحصول على دعمٍ من العالم الإسلامي. وأصبح التهديد المزعوم للمسجد الأقصى شعاره المفضل لحشد الأنصار والمؤيدين. وبحلول أواخر الثلاثينيات، كانت فكرة الحرب اليهودية-الغربية ضد الإسلام قد تجاوزت الحدود بين المسلمين في الشرق الأوسط، ونجحتِ الدعايةُ الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية في الاستفادة من هذا الوضع. وقد ساهمت هذه المعتقدات في تعقيد التسوية المتعلقة بالأراضي في فلسطين وجعلها أمرًا مستحيلًا.
أدى سوء تقدير جماعة الإخوان المسلمين المصرية في التعامل مع الرجل القوي الجديد، جمال عبد الناصر، الذي أطاح بحكم النظام الملكي الليبرالي، في فترة الخمسينيات إلى شلّ حركة التنظيم لعقود. ومع ذلك، لم يؤد ضعف الإخوان وصعود القومية العربية العلمانية، بقيادة عبد الناصر، للقضاء على نظرية المؤامرة، مثل معاداة السامية في أوروبا، بل حولها ببساطة من مفهوم ديني بحت إلى مفهوم عنصري. لقد كان سيد قطب يكره اليهود أكثر من الغرب، وتلقَّفَ العلمانيون العرب كتاباته، مثل الكتيب الذي صدر عام 1950، «معركتنا مع اليهود».
زعم سيد قطب أن اليهود هم العدو اللدود للإسلام منذ عهد النبي محمد، وأنهم وقفوا وراء كل الأحداث التاريخية التي قوضت وحدة الإسلام – بداية من ظهور الطائفة الشيعية في القرن الثامن، إلى إلغاء الخلافة على يد مصطفى كمال أتاتورك في عام 1924. لم يحزن الإسلاميون على هزيمة عبد الناصر، ولا على الوحدة العربية في حرب عام 1967 ضد إسرائيل، بل تحركوا سريعًا لاستغلال هذه الضربة القاتلة لبريستيج الأيديولوجية المنافسة لهم. وقد عبّر مؤسس “الجماعة الإسلامية” الباكستانية المؤثرة، أبو الأعلى المودودي، عن الاتجاه الإسلامي السائد آنذاك، عندما اعتبر أن الهزيمة العربية جاءت نتيحة استيراد الأيديولوجيات الغربية إلى العالم الإسلام، كجزءٍ من الحرب الروحية لليهود ضد الإسلام.
من جانبها، اعتقدت أجيالُ الإسلاميين التي ظهرت بعد حرب “الأيام الستة”، بشدة أن بإمكانها تحقيق الغاية المتمثلة في إقامة الدولة الإسلامية، باستخدام العنف والإرهاب، أكثر من سابقيهما، ولا عجب أن حدث شيء من هذا القبيل في إيران بعد الإطاحة بنظام الشاه في عام 1979. ولا عجب أن جميع الشخصيات البارزة التي تؤمن بهذه الرؤية قد تبنت العقلية التآمرية نفسها. عبد الله عزام، الذي كان له دور فعال في تأسيس حركة “حماس”، وعمل عن كثب مع أسامة بن لادن، وغيرهم من “العرب الأفغان” الذين قاموا بتأسيس تنظيم “القاعدة”، كان مؤمنًا بشكلٍ راسخ بنظريات المؤامرة المعادية للسامية.
في كتابه «السرطان الأحمر»، يلقي عزام اللوم على أفكار “يهودية” في ضعف النضال الوطني الفلسطيني. وربما ليس من قبيل الصدفة أن ميثاق حركة “حماس”، الذي كتب في عام 1988، قبل عام من مقتل عزام في ظروف غامضة، يقتبس مباشرة من كتاب «بروتوكولات حكماء صهيون». أراد عزام إنشاء قوة من النخبة الإسلامية للتدخل في جميع أنحاء العالم، في النزاعات بين المسلمين وغير المسلمين، وسلك العديد من قدامى المحاربين في الحرب الأفغانية السوفييتية المسار الذي اقترحه عزام، في القتال في الجزائر، ومصر، والبوسنة، والشيشان، وحتى أجزاء من الفلبين، معتقدين أنهم يواجهون حربًا عالمية ضد الإسلام. ورأى الجهاديون أن جميع الغربيين متواطئين في هذا الجهد ضد الإسلام، ومن ثم قدَّم تنظيم القاعدة نفسه كطليعة لهذه الحركة بفتوى بن لادن عام 1996 التي دعا فيها إلى استخدام العنف “ضد اليهود والصليبيين” في كل مكان.
ورغم أن تنظيم “داعش” قد أدخل تعديلًا على هذه الرؤية إلى حدٍّ ما، بل وانتقد تنظيم القاعدة لتبنيه نظريات المؤامرة الخاصة بالغرب، فإنه روّج لنسخته الخاصة من “الحرب ضد الإسلام”، حيث يرى أن للشيعة دورًا مركزيًا أكبر باعتبارهم حلفاء لليهود، يعتزمون هدم الدين من الداخل.
وختامًا، تظلُّ روايةُ “الحرب ضد الإسلام” إحدى أقوى الأدوات التي يستخدمها الإسلاميون. ويمكن العثور على تلميحاتٍ من هذا القبيل بسهولة في خطبهم، بدءًا من تلك التي تُقال في مساجد الأزقة الخلفية في أوروبا والتي يتم تحميلها على موقع “يوتيوب”، مرورًا بالرسوم الكاريكاتورية على صفحات مجموعات الـ “فيسبوك” الإسلامية، إلى موسيقى الراب المعاصرة. ولقد تم استخدام هذه الرؤية، أي أن هناك حربًا عالمية ضد الإسلام، بنجاح لإثارة شعور الشباب المسلم ودفعه للإحساس بالتمييز ضده والتهميش، الذي غالبًا ما يكون ناتجًا عن التطرف الإسلامي وليس سببًا له. ومن ثم، تمثل هذه العقلية التآمرية مكونًا رئيسيًا يجب على برامج مكافحة التطرف العنيف معالجته. وهذا أمر مهم لا سيما بالنظر إلى الاتجاه المؤسف المتمثل في قيام عدد من الحكومات الغربية بالتعاون مع الإسلاميين “المعتدلين” المفترضين من جماعاتٍ مثل جماعة الإخوان المسلمين في مواجهة الإسلاميين العنيفين، على الرغم من حقيقة أن جماعة الإخوان المسلمين، وفروعها، هي من بين الفاعلين الرئيسيين في نشر نظريات المؤامرة هذه وغيرها، ما يُشكِّل ما يسميه أحد المحللين “الموسيقى التي يطرب لها الجهاديون”. لذا، يجب أن تتصدى جهود القضاء على التطرف الناجعة للأساس التآمري في عقلية الإسلاميين السياسيين.
* يسعى موقعُ «عين أوروبية على التطرف» إلى نشرِ وجهاتِ نظرٍ مختلفة، لكنه لا يؤيد بالضرورة الآراء التي يُعبِّر عنها الكتّابُ المساهمون، والآراء الواردة في هذا المقال تُعبِّر عن وجهةِ نظر الكاتب فقط.
**باحث في معهد الدراسات اليهودية الكندية في جامعة كونكورديا في مونتريال، كندا. ويعمل في مشروع ما بعد الدكتوراه يحقق في الشبكات الإرهابية والدعائية الشرق الأوسطية في كندا خلال فترة السبعينيات.
المراجع:
[1] For a more detailed discussion of the ‘War against Islam’ conspiracy theory, see my German language article ‘Der jüdisch-westliche “Krieg gegen den Islam” – Genealogie und Aktualität einer islamistischen Verschwörungstheorie’, in Antisemitismus im 21. Jahrhundert, Virulenz einer alten Feindschaft in Zeiten von Islamismus und Terror, ed. Marc Grimm and Bodo Kahmann (Berlin, Boston: De Gruyter Oldenbourg, 2019).