واثق واثق**
من أكثرِ الأمور التي يحرص عليها المسلمون المتدينون أن يحيوا متمسكين بشرع الله؛ ووفقًا لما أحلَّه، ويمتنعوا عمَّا حرمه. وهناك عدد من الأخلاقيات التي يحاولون التمسك بها، فيفرقون بين الحق والباطل، والعدل والظلم، اهتداءً بشريعة الله. ويبدو أن الحركات الإسلامية المتشددة استغلَّت هذا السعي؛ انطلاقًا من استغلال مفهوم الحاكمية، بصورة يجرِّمون بها من شاءوا ويعتبرونه منحرفًا عن طريق الله، ومُهدّدون بالتعرض إلى خطر التكفير.
مصطلح “الحاكمية” مُشتق من “حُكم” أي السلطة، والمصدر الحكم، واسم الفاعل هو الحاكم، أي من في يده السلطة التي تنفِّذ العمل. وهكذا يؤكد ابن دُرَيْد في معجمه «جمهرة اللغة» أن “الحاكم هو الذي يمارس السلطة القضائية. حاكمٌ أو والٍ … ولا يوجد إلا الله بوصفه الوليّ الأعلى، والحاكم والسلطة القانونية العليا”. لذلك، يمكن ترجمة مصطلح “الحاكمية” إلى “السيادة التي تختص بأعلى سلطة قانونية وحكومية”، وبالنسبة للإسلاميين فإن هذه السيادة هي لله.
بالنظر إلى أن مصطلح “الحُكم” يظهر في القرآن ما لا يقل عن 250 مرة، وينظر غالبية المسلمين إلى القرآن؛ باعتباره كلام الله المُنزّل غير المُحرّف، فإن كلَّ ما يأمر به الله هو أمر بالغ الأهمية للمسلمين. ويُعزى ذلك إلى حد كبير إلى أن مفهوم الحاكمية مرتبط بمفهوم التوحيد؛ أي الإيمان بأن الله هو الواحد الأحد. وهكذا يذهب منطق الإسلاميين إلى: “إذا انحرف المرءُ عن مفهوم الحاكمية لله، فهذا يعني إنكار سيادته وبالتبعية التوحيد، ما يؤدي إلى الكفر، الذي يخرج المرءَ من الإسلام”.
كيف استغل الإخوان المسلمون الحاكمية
لقد استغلتِ الجماعاتُ الإسلامية المتشددة، جميعُها، مفهومَ الحاكمية لتحقيقِ أهدافها السياسية. ومن بين هؤلاء المنظِّرين الإسلاميين سيد قطب؛ الأب الروحي للإيديولوجيا الإسلاموية، وعضو جماعة الإخوان المسلمين الذي حوّل مفهومَ الحاكمية إلى نظريةٍ سياسية، وأسَّس لاستخدامها من جميع الراغبين في إقامة خلافةٍ، وحُكْمٍ، مدعين الارتكان إلى ما أمر به الله.
استخدم سيد قطب آياتٍ من القرآن لتبرير موقفه من الحاكمية. على سبيل المثال، “وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ” [المائدة: 44]. باستخدام هذه الآية، يحدِّد شروطَ من هو المسلم الحقيقي، ومن هو غير ذلك. وهذا موقف امتثال أكثر من موقف هوية. قطب لا يهتم بمن هو المسلم، بل ما هو المسلم. وهكذا، فهو يذهب في موقفه إلى ما هو أبعد من قبول هذه الآية، إلى تطبيقها.
وفقًا لمنطق سيد قطب، فإن الحكَّام المسلمين في الأراضي الإسلامية التي لا تفرض حكمَ الله وفقًا لمنظوره، لا يرتكبون فقط فعل كفرٍ يجب تصحيحه، بل يصبحون أهدافًا مشروعة للقتل من قبل شخص على استعداد لتنفيذ “ما أمر الله به”. خلفاء سيد قطب الأيديولوجيين وضعوا هذه العقيدة موضع التنفيذ في عام 1981، ونفَّذوا مؤامرةً لاغتيالِ الرئيس المصري أنور السادات، الذي اعتبره الإسلاميون طاغية شريرًا. وفي مكان الحادث، أعلن الرجل الذي ضغط على الزناد لقتل السادات، خالد الإسلامبولي: “لقد قتلتُ فرعون”، الذي له دلالة قرآنية محددة للغاية.
في السنواتِ التي تلَت ذلك، تلقَّفَتِ التنظيماتُ الإرهابية، لا سيما القاعدة وداعش، هذه الرسالة؛ أي قبول الوصايا القرآنية، وسعَت لتنفيذها بالقوة. وكانت تلك هي الرخصةُ التي يحتاجونها لشنِّ جهادهم ضد العدو القريب والبعيد؛ أي الأنظمة الاستبدادية في الداخل، والولايات المتحدة وحلفاؤها في الخارج. لقد كانت غايتهم المتمثلة في إقامة الخلافة هي أولويتهم، وكانتِ الحاكميةُ هي الأداة التي وفَّرت لهم الولاية الدينية لتحدي الوضع السياسي الراهن بشكل مباشر.
بعض الدعاة يسهمون في إذكاءِ التطرف العنيف
من الخطأ النظر إلى مفهوم الحاكمية على أنه اعتقاد حصري للجماعات الجهادية العنيفة فقط. نحن نراه يُستخدم من قِبل مسلمين آخرين، يمكن القول إنهم لا يتبنون العنفَ بصورة مباشرة، لكن يبدو أنهم هم الذين يهيئون البيئة المناسبة للتطرفِ العنيف، فهم وإن امتنعوا عن ممارسة العنفِ بأنفسهم، فإنهم بأفكارهم المسمومة يحوِّلون الآخرين للتطرف، إما بشكل مباشر أو غير مباشر. من بين هؤلاء الأفراد أنجم تشودري؛ داعية الكراهية الإسلامي البارز من المملكة المتحدة.
برز أنجم شودري، وهو عضو سابق في شبكة “المهاجرون”، ومتحدث باسم “الإسلام للمملكة المتحدة” أو “Islam4UK”، واعظًا ذكيًّا، وشخصية كاريزماتية. ودخل دائرة الشهرة، وكونه درس القانون، كان يعرف ما هو مسموح بأن يقوله وما يفعله في حدود القانون. وبالالتفافِ على القوانين المتعلقة بالتحريض والترويج للإرهاب، صاغ بعنايةٍ رسالة بلاغية، زعم فيها أن ما يفعله هو مجرد “نشر رسالة الله”، واجب ديني بسيط، إذ يجب عليه كمسلم أن يدعو إلى الله.
في مقابلة مع برنامج “نيوزنايت” في عام 2010، ظهر شودري ومجيد نواز وجهًا لوجه للتحدث عن قضية الشريعة الإسلامية، والخلافة والقضايا ذات الصلة. طرح جيريمي باكسمان على شودري السؤال الآتي: “كيف تمضي الحملة لتحويل بريطانيا إلى حكم الشريعة الإسلامية؟” أجاب شودري: “حسنًا، هذا الأمر بيد الله. نحن نفعل ما في وسعنا لنشرِ الإسلام”.
قد تبدو هذه العبارة، في حد ذاتها، وكأنها عبارة بريئة وغير ضارة، لأن شودري لم يتحدث في إجابته عن الشريعة، بل عن الإسلام. لكنه يربط بين الاثنين معًا كما لو كان كلاهما يعتمد على الآخر. ولا شك أنه يصعب على المسلم غير المتفقه في الدين فكّ التشابكِ والفصل بين الاثنين. هذا هو الخداع الذي يمارسه الإسلاميون، يستهدفون به الضعفاء فكريًا والأشخاص غير الضليعين بأمور الدين، ويسعون إلى إيقاعهم في سيناريو الاختيار بين شيئين لا ثالث لهما: “إما أن تقبلوا حكم الله (أي أيديولوجيا الإسلاميين)، أو تقعوا في الكفر.
ومع استمرار المقابلة، تُدرك على الفور أن ما يتحدث عنه شودري لا يختلف عما يفعله داعش حاليًّا، وليس من قبيل المصادفة أن أصبح شودري مواليًا لداعش بعد إعلان الخلافة في عام 2014. بعد أن تم تكفيره، يسأل نواز شودري، مرارًا وتكرارًا، ماذا سيحدث له في الخلافة. يرفض شودري الإجابة لأسبابٍ قانونية، ولكن لا يُساور شكٌّ أيَّ أحدٍ مهتمًا بالموضوع في ماهية الإجابة غير المعلنة. بموجبِ الشريعة، عقاب المرتد هو الإعدام. منطق ذلك بسيط، لا يوجد لدى المسلمين سريعي التأثر مجالٌ لرفض هذا الموقف.
الحاكمية وتشجيع المسلمين على التطرف
يبقى مفهومُ الحاكمية أداة قوية لتحويل المسلمين للتطرف، ويستخدمه السلفيون الجهاديون، والإسلاميون غير العنيفين، والمسلمون العاديون على نحو متزايد، مع انتشار أفكار الإسلام السياسي. معظم المسلمين الذين يستخدمون مفهوم الحاكمية، كلَّ يوم، ربما يفعلون ذلك دون إدراك العواقب المحتملة لذلك، وربما ينفذون أوامر الجهاديين والإسلاميين دون حتى إدراك مغزاها.
قد يأتي التطرفُ في أشكال عدة، ومن أشخاص مختلفين، ولكن ما يثير القلقَ هو أنه قد يأتي أيضًا من أولئك الذين يرفضون بشدة المنظمات الإرهابية؛ مثل داعش والقاعدة، وحتى الشريعة نفسها. لذا، يجب عدم ترك مهمة مكافحة الإرهاب والتطرف العنيف لسلطات الدولة أو أئمة المساجد فقط، بل يجب أن تكون جهدًا جماعيًا يأتي من داخل المجتمع الإسلامي نفسه أيضًا. ويجب أن يُنظر إليه على أنه واجب مدني لرفض المواقف التي تُثير الاستقطاب على أسسٍ دينية. ومن دون تحدي مفاهيم؛ مثل “الحاكمية”، في حياتنا اليومية، سنواصل تهيئة الظروف المواتية للسلفين الجهاديين والإسلاميين غير العنيفين.
* يسعى موقعُ «عين أوروبية على التطرف» إلى نشرِ وجهاتِ نظرٍ مختلفة، لكنه لا يؤيد بالضرورة الآراء التي يُعبِّر عنها الكتّابُ المساهمون، والآراء الواردة في هذا المقال تُعبِّر عن وجهةِ نظر الكاتب فقط.
** مستشار منظمة “مسلمون ضد معاداة السامية”