المؤلف: مارك سيلينسكي
دار النشر: مطبعة جامعة إنديانا
تاريخ النشر: 2016
عدد الصفحات: 278
«الجهاد والغرب: علم أسود فوق بابل»، كتاب جريء، رغم أنه يبدو في بعض الأحيان عبارة عن تشكيلة متناثرة من المواضيع المتباينة من التاريخ الجهادي، والهجمات، والعناصر المؤدية للتطرف.
يُسلّط المحللُ العسكري والاستخباراتي، سيباستيان جوركا، كاتبُ المقدمة، الضوءَ على أن الكتاب يتيحُ لنا تحقيقَ الهدف الأهم الذي يمكن أن تفعله أي دولة في الحرب: فهم الأعداء كما يفهمون أنفسهم. هذا أمر مهم للغاية من أجل فهم خطاب العدو، ويسهم من الناحية المثالية، في إعداد خطابات مضادة فعّالة.
سمة جوهرية أخرى لكتاب الدكتور سيلينسكي يؤكدها جوركا، هي قرار الكاتب أن “يواجه بشجاعة اللياقةَ السياسية التي أصابت تقييم التهديدات الغربية وشوهته في السنوات الأخيرة”.
هذه سمةٌ إيجابية ونادرة، ما دام أنها لا تؤدي -كما يحدث للأسف في بعض أجزاء الكتاب- إلى الإفراط في تبسيط وجهات النظر، والتعميم المفرط، فيما يتعلق بالمسلمين والإسلام.
هذا توجه شائع بشكل متنام: يخلط الكتاب والمثقفون والسياسيون بين القدرة على التغلب على اللياقة السياسية والميل لإصدار بياناتٍ عدائية صريحة تجاه موضوع النقاش.
وهذا الأمر ملحوظ عندما يتحدث سيلينسكي عن الإسلاموفوبيا في فقرة بعنوان “الإسلاموفوبيا: الجانب المسلم من القصة”، أو عندما يُفرد مساحةً واسعة بشكل ملحوظ -رغم عدم تبني المحتوى صراحة- لنظرية الطبيب النفساني الدانماركي نيكولاس سينيلز، الذي قال:
“العنف مقبول لدى الأسر المسلمة الأوروبية، أكبر بكثير من الأسر الأوروبية غير المسلمة. ويرى أن التعرض للعنف وغرس الكراهية، لا سيما في سن مبكرة جدًا، يزيد من خطر الاضطرابات النفسانية. ويخلص إلى أن الثقافة الإسلامية أكثر احتمالًا، مقارنة بنظيرتها الغربية، في أن تؤدي إلى سلوك إجرامي ومُعادٍ للمجتمع.
الاستعراض اللافت للنظر، للغضب في الغرب، هو مؤشر على ضعف الشخصية وهشاشتها. ويرى أن الغضب يحظى بقبول أكبر في الثقافة الإسلامية، وأن القدرة على تخويف الناس يُعتبر قوة ومصدرًا للمكانة الاجتماعية. ويُنظر إليه على أنه “غضب مقدس”.
فيما يتعلق ببنيّة الكتاب، فإنه يفتتح بمسرد، يُخصص جزءًا كبيرًا منه لمفهوم “يوروبيا” أو “Eurabia” الذي يعني تعريب أوروبا، المثير للجدل:
“]يوروبيا[ مصطلح صاغته الباحثة التي تعيش في سويسرا، بات ياعور، للإشارة إلى مجموعة من الاتفاقات والعقود والمعاهدات والافتراضات غير المعلنة، بين الحكومات الأوروبية، والشركات والجامعات، ووسائل الاعلام التي تروج للصورة الإيجابية والمصالح العامة للإسلام و[الدول] الإسلامية، خاصة الدول المصدرة للبترول. في الآونة الأخيرة، استخدم هذا المصطلح للإشارة إلى نمو النفوذ الديمغرافي والسياسي الإسلامي في أوروبا”.
بعد المسرد، يوضح المؤلف الحروب الثلاثة التي خاضها تنظيم داعش: حرب ثورية؛ لأن المقاتلين كانوا يعتزمون القضاء على الحكومات القائمة، العلمانية إلى حد كبير في سوريا والعراق، وحرب أهلية؛ لأن العداءات الشيعية السُنيّة القديمة والمستمرة قد وضعت الطوائف ضد بعضها البعض في المعركة، وحرب عالمية؛ نظرًا لتدخل القوى الإقليمية والعالمية.
الفصل الأول، علم أسود فوق بابل، يقدم لمحة تاريخية عن نشأة تنظيم داعش ومراحل تطوره.
ورغم أن هذا الفصل يتسمّ بالدقة والشمول، لكن سرعان ما نصطدم بواحدةٍ من العديد من المقارنات الصعبة التي سوف تُميّز الكتاب:
“تم تأسيس حزب البعث، الذي اعتنق العروبة والاشتراكية وعناصر من الإسلام، على يد ثلاثة مثقفين تعلموا في فرنسا (…) ميشيل عفلق، فيلسوف الحزب، مثل أبو بكر البغدادي، أراد أن يلغي الدول القومية العربية، وأن يؤسس دولة واحدة”.
هل كانت مقارنة البغدادي بميشيل عفلق ضروريةً ومناسبة حقًّا؟ هل معارضة هذه المقارنة يكون من قبيل اللياقة السياسية المفرطة؟ نحن لا نعتقد ذلك.
الفصل الثاني الذي يحمل عنوان “يوروبيا وما بعدها: الأرضيّة الخصبة للخلافة” يقدم بعض البيانات والإحصاءات المثيرة للاهتمام حول المقاتلين الأجانب الغربيين في سوريا والعراق، ونمو السكان المسلمين في أوروبا.
ينتهز المؤلف هذه الفرصة لادعاء ما يلي:
1- “كان العديد من الأوروبيين، في البداية، غير مكترثين حول التحول الثقافي، غير أن البعض في وقتٍ لاحقٍ أعرب عن أسفه لهذه اللا مبالاة”.
2- “يهاجر العديد من الناس هربًا مما يرونه صداعًا لا ينقطع من جرّاء هجرة المسلمين.”
3- “بعض الأوروبيين غادروا المدن إلى الضواحي غير المسلمة، فيما هاجر آخرون إلى الولايات المتحدة أو إسرائيل”.
يُسلّم المؤلف بحدوث تحول ثقافي، وبأنه سلبي.
أما الفصول التالية، فتقدّم تحليلاتٍ غنية بالمعلومات حول التعاطي الغربي مع الخلافة، سواء النخبة الفكرية أو الثقافة الشعبية، ويقدم رؤى صريحة حول نقاط الضعف في مُكّون غير هيّن من صناع القرار والمثقفين.
في الواقع، يلفت الدكتور سيلينسكي انتباه القراء إلى حقيقة لا يمكن إنكارها، هي أن النقاش الغربي حول الخلافة غالبا ما تُقيّده القواعد الضمنية والصريحة للحديث، والافتراض غير المعلن للحساسيات الدينية، وأن هذه الافتراضات تقود إلى ممارسة الرقابة الذاتية.
في الصفحات الأخيرة، يمضي سيلينسكي خطوة أبعد من ذلك، قائلًا إن النهج الذي يتبعه العديد من الغربيين تجاه الإسلام السياسي يتسم بشكل من أشكال الأوميريتا. في الحقيقة، “أوميرتا” omertà هي كلمة إيطالية ومفهوم رئيس في رؤية المافيا للمجتمع. إنها قانون ]يجبر أعضاء المافيا[ على التزام الصمت، ويصف صمت المجتمع إزاء ما تقوم به المافيا ويرفض مكانة الواشي بأي ثمن. وهذا لا علاقة له باللياقة السياسية.
أما الفصلان التاليان، فيركزان على ما يُسمى بـ”الجهاد الأزرق العينين”، في إشارة إلى الغربيين الذين جندتهم الخلافة أو اجتذبتهم دعاياتها. ويرى المؤلف أن أتباع تنظيم داعش اليوم، على غرار “يوتوبيا” الإبادة الجماعية؛ مثل الاتحاد السوفياتي، وألمانيا النازية، يعتقدون أن يوتوبيا داعش خالية من أي أخطاء سياسية أو اجتماعية ذات أهمية.
في هذا السياق، يغطي سيلنسكي العديد من القضايا الجوهرية التي تستحق المزيد من البحث. الأول هو ما يُسمى بـ “انبهار المعجبين” الذي أدى إلى انضواء عدد من الشابات الغربيات تحت راية داعش. إن المفاهيم المترابطة بين الذكورية المفرطة، والرجولة، والشعور بالقيمة الذاتية والانتماء، التي اجتذبت الرجال من جميع أنحاء العالم بحاجة أيضًا إلى الدراسة في حد ذاتها.
في الجزء الثاني من “الجهاد الأزرق العينين“، يتناول المؤلف الأدوار المحتملة التي يمكن أن تلعبها الأسر في التطرف والتجنيد، ويقدِّم تصنيفًا مهمًا حيث يقسمهم إلى مُروجين، وغير مدركين، ورادعين فعالين. وكما حدث في الفصول الأخرى، يُدّعم سيلينسكي تصنيفاته بعشراتٍ من دراسات الحالة المثيرة للاهتمام.
تتناول الفصولُ التالية قصصَ مقاتلين غربيين عدّة من المملكة المتحدة، وفرنسا، وبلجيكا، والولايات المتحدة الأمريكية، وغيرها من الدول، وتقدم في الوقت ذاته لمحة عامة حول عدد من الهجمات العنيفة التي وقعت في الغرب وردود الفعل اللاحقة من قبل السكان بشكل عام.
أما الخاتمة فقد اختار لها عنوان “طعم الانتقام“، اقتباسًا من كلمات عمر متين، المهاجم الذي قتل 49 شخصًا في 12 يونيو 2016 في إطلاق النار الجماعي على رواد ملهى “بالس” أو “Pulse” للشواذ في أورلاندو، وأعلن أنه قام بذلك ليذوق الغرب “طعم الانتقام”.
الأمر اللافت في هذا الجزء، هو أنه الأكثر خصوصية في الكتاب بأكمله، فبدلًا من التلميح إلى آرائه، يتناول المؤلف أخيرًا، وبشكلٍ صريح، بعض القضايا التي كان يتجنبها في الفصول السابقة.
الجزء الأول من الخاتمة يعود لتسليط الأضواء على بعض الشخصيات والأحداث، في الفصول السابقة، في حين أن الجزء الثاني هو عبارة عن تعليق يحوي آراء المؤلف بشأن بعض الظواهر والاتجاهات الرئيسة التي نوقشت عبر الكتب. وفي هذا، يعتمد سيلينسكي صيغة الأسئلة والأجوبة.
في أحد تلك الأسئلة، والأجوبة، يطرح سيلينسكي ما يلي:
“هل الدولة الإسلامية إسلامية؟”
“نعم؛ لأن إعلان مبادئها مستمد بالكامل من النصوص الإسلامية المقدسة، ونظامها القانوني هو الشريعة، وتحدد عدوها من حيث المعارضين للإسلام”.
مثال آخر:
“هل يستطيع الشريك الغربي مع المسلمين غير الجهاديين هزيمة تنظيم الدولة؟“
“ربما، لكن الأهداف ستكون محدودة جدًا؛ لأن النشطاء في بعض الأحيان يستخدمون قناع الاعتدال، في حين تكون أهدافهم الحقيقية أن تحل الشريعة محل الليبرالية الغربية”.
وكما هو واضح، هذه الصيغة تعزز التبسيط حدّ التضليل.
ورغم أن هناك اعترافًا متناميًا بفكرة الشراكة مع المسلمين؛ باعتبارها واحدةً من أنجح أساليب مكافحة التطرف العنيف، فإن هذا لا يعني أنها الحلُّ دائمًا. كما أن هناك توافقًا متزايدًا في الآراء حول أنه لا يوجد تفسير واحد يناسب جميع الحالات، بشأن الأسباب المؤدية للتطرف. ومع ذلك، كانت هناك نتائج ممتازة في بعض الأحيان، وفي بعض السياقات، عبر العمل مع أعضاء التيار الرئيس في المجتمعات ضد الجهاديين، وبالتالي، فإن توجه سيلينسكي التام ضد هذا الأسلوب هو أمر غير موفق.
وكما يقول سيباستيان جوركا في مقدمة الكتاب، فإن أسلوب سيلينسكي، الذي هو نتاج عقود من الخبرة العملية داخل “الآلة”، التي هي الاستخبارات الأمريكية، هو أن يكتب عن الأمور المهمة فقط. والجانب السلبي لهذا الأمر هو أنه يجعل بعض فقرات الكتاب تبدو فوضوية وضحلة بعض الشيء.
لكن إجمالًا، ورغم نقاط الضعف المذكورة أعلاه، يمكن القول إنه كتاب ممتع للغاية، ويحفل بدراساتِ حالةٍ مثيرةٍ للاهتمام، وينمّ عن خبرة المؤلف الممتدة في الرصد النشط للمتطرفين، والعوامل المؤدية للتطرف، في كافة أنحاء المناطق الكبرى التي يسميها “الغرب”.