يتَّسم كتابُ جلين روبنسون بالسهولة والشمول. الكتاب أقرب إلى الدراسة، وتسعى لتفسير ظاهرة الجهاد العالمية، تهدف إلى فهم حركة الجهاد العالمية في العقود الأخيرة. يذكرنا المؤلف أن الجهاد العالمي تصدّر عناوين الصحف، وحفّز سياساتٍ وطنية واسعة النطاق، واستحوذ على مخيلة الناس في جميع أنحاء العالم في السنوات الأخيرة. لتقديم هذا التاريخ، استعان البروفيسور روبنسون بوثائق أولية باللغة العربية الأصلية، وأفضل المصادر الثانوية من البحوث والدراسات المتخصصة في هذا المجال.
عرض الكتاب في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، في الأول من ديسمبر، حيث أوضح المؤلف -أستاذ التحليل في شؤون الدفاع في كلية الدراسات العليا البحرية، مونتيري، كاليفورنيا- أن السبب الرئيس لكتابة هذا الكتاب الآن، بعد مرور عشرين عامًا من هجمات 11 سبتمبر، هو أن هذا هو الوقت المناسب لمحاولة فهم لغز الجهاد العالمي بطريقة متماسكة.
تتصل الأسئلة البحثية الجوهرية التي يجيب عليها روبنسون في كتابه هذا بالمراحل التاريخية المختلفة للجهاد العالمي، وخصائصه المتميزة، ومكان الجهاد العالمي في إطار العنف السياسي. وفي هذا الصدد، يقدِّم الكتاب أطروحتين رئيسيتين. فيما يتعلق بالمراحل التاريخية، وفقًا لروبنسون، من الأفضل فهم ظاهرة الجهاد العالمي على أنها ذات أربع موجات متميزة منذ الثمانينيات، لكل منها قواعدها الخاصة وصياغتها الأيديولوجية. بيد أن كل هذه المشكلات نشأت عن أزمةٍ منهجية، وليس عن مشكلة محلية فقط.
يتناول الفصل الأول، “الجهاد الدولي: (1979-1990)”، المرحلة الأولى من الجهاد العالمي، حيث كانت المظلومية المحددة هي غزو الاتحاد السوفييتي لأفغانستان، والقضية الأوسع التي أثارها هذا الاحتلال هي احتلال الكفار لأراضي المسلمين. وكان المُنظّر الرئيس في هذا عبد الله عزام، ويقدم المؤلف -في هذا الفصل، كما في الفصول التالية- وصفًا مفصلًا لكل من التطورات التاريخية والأيديولوجية التي حدثت خلال هذه المرحلة.
أما الفصل الثاني، “أمريكا أولًا: (1996-2011)”، فيتناول المرحلة الثانية، التي نشأت عن هزائم الحركات الجهادية في الجزائر ومصر، وتنامي التواجد العسكري الأمريكي في المنطقة في التسعينيات. وقد اعتقد الجهاديون أن العدو هو الأنظمة “المرتدة”، التي تساندها الولايات المتحدة، وكان المُنظّر الرئيس في تلك الحقبة هو أسامة بن لادن.
يركز الفصل الثالث، “الخلافة الآن: (2003-2017)،” على عواقب تدمير الدولة العراقية والحرب الأهلية السورية والخلاف السني-الشيعي على المشهد الجهادي. ومن المعروف أن الشخصيات الأكثر نفوذًا في هذه المرحلة هي مؤسس تنظيم داعش، أبو مصعب الزرقاوي، ولأسبابٍ مختلفة تم تحليلها في الكتاب، أحد خلفائه كزعيم لداعش، أبو بكر البغدادي.
يرى روبنسون أن أحد التطورات الرئيسة في هذه المرحلة الثالثة هو ما يسميه “الجهادي العصري”، الذي يمكن أن ينظر إليه على أنه اتجاه دعائي جديد وقوي بشكل متزايد يستند إلى تحويل النظرية والعقيدة إلى شيء ثانوي، في حين يجعل العمل والخروج التحرك هم الأولوية.
لماذا ينضم عشرات الآلاف من السنة المحليين عن طيبِ خاطر، بل وبحماس، إلى قضية داعش، على الأقل إلى أن تبدأ حظوظه في التراجع؟ سر نجاح داعش يكمن في دمجه الفريد بين التقليدي والعصري، وبين الإسلام السني التقليدي، مع ميمات الجهادي العصري.
تطوير داعش لهذا المزيج الفريد من القديم والحديث ميّزه عن تنظيم القاعدة والجماعات الجهادية الأخرى. لم يهتم داعش بالحجج الدينية المقنعة التي من شأنها إقناع كبار رجال الدين بصواب أفعاله. وعلى حد تعبير المؤلف، أصبحت الخلافة بمنزلة “ديزني لاند شريرة” للجهاديين، مكانًا يمكنهم فيه تحقيق كل أحلامهم الوحشية.
الفصل الرابع، “الجهاد الشخصي (2001-2020 وما بعدها)” يناقش الموجة الرابعة، وهي “الجهاد الفردي”، التي تعززها أحداث مثل تدمير الإمارة الإسلامية التابعة لطالبان لأفغانستان، وانهيار تنظيم داعش، والهزيمة التي تلوح في الأفق لحركة الجهاد العالمية.
المُنظّر الرئيس هنا هو أبو مصعب السوري، بدعوته للمقاومة الإسلامية العالمية (2005). يحلل روبنسون مجموعة كاملة من سمات هذه الموجة ويتحدث عما يسميه “خطاب ويكي” “Wiki Narrative”: خطاب جهادي طائفي ومرتبك في بعض الأحيان، ولا يستند إلى معرفة عقائدية قوية. وينتج عنفًا عشوائيًا، مع هجمات الذئاب المنفردة؛ مثل تلك التي يقوم بها القوميون البيض.
وكما ذكر أعلاه، تتمحور الأطروحة الثانية حول العلاقات بين الجهاد العالمي، ومفهوم العنف السياسي الأوسع. وفي هذا الصدد، يشير المؤلف إلى فائدة تحليل حركات الغضب. والميزة النسبية الأساسية لاستخدام نهج حركات الغضب هي أنه يمكن أن يربط بين الجماعات الدينية والعلمانية ذات التماثل الإيديولوجي والاجتماعي إلى حدٍّ كبير بطريقةٍ لا يمكن أن يربطها الإرهاب الديني أو نهج “الحرب الكونية”.
وبالتالي، يمكن أن يساعدنا على رؤية الأنماط المشتركة من حيث الأيديولوجية وعلم الاجتماع والسياسة التي توضح لنا بشكلٍ أساسي ما يبدو للوهلة الأولى أنها مجموعات مختلفة تمامًا -الماويون في كمبوديا، وأصحاب القمصان البنية في ألمانيا النازية، وبوكو حرام في نيجيريا، وحتى بعض عناصر القوميين البيض في أمريكا ترامب، على سبيل المثال لا الحصر.
إن الجهاد العالمي يتناسب تمامًا مع الأنماط المقارنة الموجودة في حركات الغضب في جميع أنحاء العالم على مدى القرن الماضي، ويسلط الضوء على الدور الذي يلعبه العنف الشديد ضد غير المقاتلين في أيديولوجية الجهاد العالمي، وكيف لا ينظر إلى تلك الأهداف المدنية على أنها مجرد أعداء تكتيكيين يجب التغلب عليها، بل كرموزٍ للفساد الثقافي والانحلال الأخلاقي.
وتتسم حركات الغضب بالعنف العدمي والأيديولوجيات التي تؤمن بقرب نهاية العالم. ولذلك، فإن هذه الظاهرة، حسب المؤلف، ليست فريدة من نوعها، ولكنها مماثلة لأشكال العنف السياسي المتطرف الأخرى الدينية وغير الدينية.
وختامًا، يعتبر هذا الكتاب سجلًا في غاية الأهمية، وموردًا ممتازًا غنيًا بالمعلومات، وسردًا دقيقًا للتطور التاريخي والأيديولوجي لحركة الجهاد العالمية.