جاكوب فيسلر*
في أواخر مارس 2021، بعد أن أعلنت شركة “توتال” الفرنسية متعددة الجنسيات للنفط أنها ستبدأ العمل في حقل غاز كبير في شمال موزمبيق، في مدينة بالما، في مقاطعة كابو دلجادو الشمالية، تعرضت الشركة لهجوم من حركة الشباب، الفرع المحلي لتنظيم داعش، ولا ينبغي الخلط بينه وبين فرع تنظيم القاعدة الذي يحمل الاسم نفسه في الصومال.
خلّف الهجومُ جثثًا متناثرة في الشوارع، وروى الناجون قصصًا صادمة عن أعمال عنف ضد المدنيين، وقطع رؤوس ارتكبتها الجماعة المتمردة المنتصرة. ومنذ ذلك الحين، استعادت موزمبيق مدينة بالما، بدعمٍ من شركاء إقليميين ودوليين، وصدَّت هذا التمرد المستمر منذ أربع سنوات، بهدف استعادة الأراضي المفقودة، واستئناف الاستثمار في الموارد الطبيعية التي تتمتع بها المنطقة.
يسلّط كلٌّ من هجوم بالما الذي كان مدفوعًا ببدء مشروع للغاز الطبيعي، والتعاون الإقليمي الرامي إلى دحر حركة الشباب، الضوءَ على الخلفية التاريخية والاجتماعية-السياسية العميقة لهذا الصراع الحديث ظاهريًا. هناك ارتباطٌ وثيق بين موقع وطبيعة تمرد كابو دلجادو ومكافحة هذا التمرد، وتاريخ موزمبيق قبل الاستقلال وما بعده، بما في ذلك طبيعتها كمستعمرة، واستقلالها وحروبها الأهلية، ومشاركتها الإقليمية في الوقت نفسه، والديناميات السياسية للبلد عمومًا. كما أن العنف في كابو دلجادو يوفر فرصة لدراسة كيف أن حركات التمرد في كثيرٍ من الأحيان تكشف عن تصدعاتٍ اجتماعية وسياسية يمتد عمرها لعقود، ولا يمكن فهمها من خلال منظورٍ أيديولوجي بسيط.
خلفية موجزة
التمرد في شمال موزمبيق، الذي بدأ في عام 2017، ازداد ضراوة خلال العام الماضي. وقد صنّفت وزارة الخارجية الأمريكية حركة الشباب مؤخرًا منظمة إرهابية تحت اسم “داعش-موزمبيق”، ولفتت الانتباه إلى وجود صلات مع شبكة أوسع من الجماعات الإسلاموية في شرق إفريقيا، وهيكل قيادي يتخذ من تنزانيا المجاورة مقرًا له -على الأقل- جزئيًا. وقد أودى النزاعُ بحياة أكثر من 3000 شخص، وشرّد قرابة مليون شخص آخر حتى الآن، وكشف عجز الحكومة الموزمبيقية عن السيطرة على الجماعة.
المدى الحقيقي لصلة هذا التمرد بداعش لا يزال محل جدل، لكن أيًّا كانت الإجابة على هذا السؤال، فهي مجرد جانب واحد من مشكلة معقدة وقديمة تخص كابو دلجادو وقضاياها التاريخية المتجذرة المتعلقة بالصراع والتفكك.
قدرة الدولة الموزمبيقية في المركز والأطراف
حتى أواخر القرن التاسع عشر، كانت السيطرة الاستعمارية البرتغالية في موزمبيق محدودة خارج المدن التي كانت تسيطر عليها لفترة طويلة على طول الساحل مثل لورنسو ماركيز (مابوتو في العصر الحديث). وفي حين أن حملة القهر الوحشية قد رسخت في نهاية المطاف الهيمنة البرتغالية بقوة أكبر، فإن السلطة البرتغالية في ممتلكاتها الاستعمارية كانت متخلفة عن جيرانها الأوروبيين من القوى العظمى؛ مثل بريطانيا العظمى أو فرنسا في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين. ولا يزال هذا التباين بين المركز والأطراف الذي كان يَسم موزمبيقَ البرتغالية يلوِّن الدولةَ حتى اليوم، وهو أداة مفيدة يمكن من خلالها رؤية التمرد في كابو دلجادو الآن.
تجدر الإشارة إلى أن كابو دلجادو هي مسقط رأس حركة “التحرير الوطني” الموزمبيقية، حيث عبرت قوات من “جبهة تحرير موزمبيق” المتحالفة مع الاتحاد السوفيتي إلى موزمبيق -التي كانت مستعمرة برتغالية آنذاك من تنزانيا في عام 1964- لمهاجمة المواقع الاستعمارية، وبدء الحرب من أجل الاستقلال.
وفي حين أن موزمبيق حصلت على الاستقلال في عام 1975، فإن الحرب الأهلية ظلَّت مستعرة لمدة سبعة عشر عامًا أخرى، ما أسفر عن مصرع أكثر من مليون شخص وتجويعهم. ورغم التوقيع على اتفاقات السلام في عام 1992، فإن ما انبثق عن هذا الصراع المدمر كان دولة غير قادرة إلى حد كبير على بسط السلطة خارج مركزها إلى الأطراف.
الاستثمار الأجنبي متعدد الجنسيات في احتياطيات الهيدروكربون الهائلة في المنطقة وغيرها من الموارد الطبيعية سلّط الضوء على غياب سلطة الدولة خارج المركز في العقدين الماضيين. وقد حوّلت هذه الموارد كابو دلجادو، وهي واحدة من أكثر مقاطعات البلاد بعدًا عن العاصمة من الناحيتين الجغرافية والنفسية وفقرًا، إلى مركزٍ اقتصادي متنامي الأهمية لموزمبيق.
وفي حين أن النخب السياسية كانت تتمتع منذ فترة طويلة بمواقع ومصالح متميزة في الأنشطة الاقتصادية في المنطقة، سواء كانت قانونية أو غير قانونية، فقد أثبتت الدولة عجزها وعدم رغبتها في توزيع تلك الفوائد على السكان المحليين. ذلك أن الأموال المتدفقة من هذه المشاريع تذهب مباشرة إلى نخب جبهة تحرير موزمبيق في جنوب موزمبيق، حيث تجري مشاريع التنمية والبنية التحتية الفعلية.
هذا الوضع يجعل السكان منفصلين عن الدولة ومؤسساتها، في الوقت الحاضر كما كان تاريخيًا، ويعيشون في فضاء غير محكوم تقريبًا، ويفتقرون إلى التنمية والبنية التحتية، ويشعرون بالاستياء من تخلي الدولة عنهم، ومن ثم فلا غرابة أن يكونوا عُرضة للتطرف العنيف. هؤلاء المواطنون، العالقون بين مكائد الشركات متعددة الجنسيات، والنخبة السياسية الفاسدة، يقودون الآن تمردًا مناهضًا للحكومة. وهكذا، بعد أن حُرموا من حقوقهم بالفعل، وأصبحوا يعيشون في الهامش ينظرون إلى الازدهار الاقتصادي القائم على استغلال الموارد الطبيعية في منطقتهم، فليس من المستغرب أن يندلع العنف، بغضِّ النظر عن مظاهره الأيديولوجية.
السياسة الإقليمية والإرث الاستعماري
لا يمكن فهم تمرد حركة الشباب وجهود التصدي إلا بالنظر إلى وضع موزمبيق، خلال عقودٍ من التنافس الجيوسياسي في المنطقة. كان استقلال موزمبيق وحروبها الأهلية بعيدين كل البعد عن الشؤون الداخلية، حيث وضعت الدولة في قلب صراعات السلطة والسياسات العرقية في جنوب شرق إفريقيا (بل والدولية) المتغيرة في منتصف إلى أواخر القرن العشرين.
وفي نهاية المطاف، سوف تتورط جنوب إفريقيا (في ظلِّ نظام الفصل العنصري)، وتنزانيا، وملاوي، وروديسيا/زيمبابوي إلى حدٍّ ما، الأمر الذي يؤكد على ما يبدو افتقار الدولة الموزمبيقية إلى القدرات. والواقع أنه عندما قُتل أول رئيس لموزمبيق، سامورا ماشيل، في حادث تحطم طائرة في عام 1986، ألقى التحقيق الرسمي باللوم في ذلك الحادث على خطأ شركة الطيران، ولكن بسبب ضعف الدولة نشأت مؤامرات، وكان كبش الفداء الطبيعي في ذلك الوقت هو الحكومة القومية في جنوب إفريقيا.
في ضوء هذا السجل التاريخي، فلا غرابة أنه عندما اندلع العنف في عام 2017 في كابو دلجادو، كانت موزمبيق متحفظة في طلب المساعدة من جيرانها أو الجهات الفاعلة الدولية الأخرى، على الرغم من ضعف قوات الأمن في الدولة. ولكن مع اتضاح أن الدولة الموزمبيقية الضعيفة لا تستطيع محاربة حركة الشباب وحدها، ومع تنامي الضغوط والاهتمام الخارجيين، اضطرت الدولة إلى طلب المساعدة الإقليمية والدولية لمكافحة التمرد.
في البداية، اعتمدت موزمبيق على مرتزقة خاصين مثل مرتزقة “مجموعة دايك الاستشارية”؛ شركة أمنية في جنوب إفريقيا، ولكن دون جدوى. وفي يونيو 2021، أعلنت “الجماعة الإنمائية للجنوب الإفريقي”(SADC)؛ منظمة حكومية دولية إقليمية، أنها ستنشر قوات في كابو دلجادو لقمع التمرد.
وفي الوقت نفسه تقريبًا، أبرمت موزمبيق ورواندا اتفاقًا عسكريًا أدى إلى نشر قواتٍ رواندية في كابو دلجادو، وتوجت جهودها باستعادة بالما في أغسطس 2021. ونظرًا لشعور الدول الإقليمية بالقلق إزاء أمنها واستقرار المنطقة، بدأ الصراع في موزمبيق يتوسع مرة أخرى ليصبح شأنًا إقليميًا مع تنافسٍ سياسي كبير بين الجهات الفاعلة، ما يعكس ماضي الدولة القريب جدًا.
تمرد حركة الشباب لا يؤكد فقط تورط جيران موزمبيق في السبعينيات والتسعينيات، بل يشير إلى فاعلٍ دولي أكثر أهمية: البرتغال. وعلى عكس الدول الأوروبية الأخرى، رفضت “الدولة الجديدة” في البرتغال تحت قيادة أنطونيو سالازار صراحة حركات الاستقلال، وحاربتها بشدة في مستعمراتها في جميع أنحاء العالم.
وأنفقت الدولة البرتغالية الصغيرة الفقيرة مبالغ هائلة من الموارد البشرية والمادية لمكافحة حركات التمرد في أفريقيا. لكن الانقلاب العسكري في البرتغال نفسها في عام 1974، الذي حدث بعد وقتٍ قصير من وفاة سالازار، فيما يسمى “ثورة القرنفل”، دفع البرتغاليين للتخلي عن الحرب. كان هذا الانهيار الداخلي وحده، وليس الانتصار الصريح من جانب الثوار، هو الذي أدى إلى تراجع البرتغاليين واستقلال موزمبيق.
رغم تاريخها، وفي ظلِّ اشتداد حدة التمرد في كابو دلجادو، أصبحت البرتغال أكثر انخراطًا، سواء بشكل مستقل أو كدولة عضو في حلف الناتو أو الاتحاد الأوروبي، في تقديم المساعدة الأمنية لموزمبيق. وفي الواقع، كانت البرتغال طوال عام 2021 من أشد المدافعين عن زيادة المساعدات العسكرية لمستعمراتها السابقة، وفي مايو 2021 أبرمت الدولتان اتفاقية تعاون عسكرية جديدة تمتد حتى عام 2026.
لقد تعاملت معظم وسائل الإعلام الرئيسة مع حقيقة أن البرتغال هي الحاكم الاستعماري السابق لموزمبيق على أنها مجرد تفاصيل، ولكن مثل هذه المشاركة مهمة. إن تعاون موزمبيق، التي عانت عقودًا من العنف أثناء حركات الاستقلال وبعدها، والبرتغال، التي يرتبط انتقالها الديمقراطي ارتباطًا معقدًا بانهيار إمبراطوريتها، في القضايا الأمنية أمر لا يخلو من دلالة. وفي حين أن تمرد حركة الشباب ربما لم يبدأ إلا في عام 2017، فإنه يحمل في طيَّاته تراكماتٍ تاريخية، تمتد لنصف ألف عام إلى وقت وصول البرتغاليين إلى موزمبيق.
الخلاصة
النظر إلى التمرد في كابو دلجادو على أنه مجرد جبهة أخرى في الحرب العالمية ضد تنظيم داعش يغفل الصلات الأوسع نطاقًا بالتاريخ والسياسة الفريدة في موزمبيق، وجنوب شرق إفريقيا. فهناك عوامل تاريخية وهيكلية وجيوسياسية واسعة تلعب دورًا مؤثرًا في الزخم الكامن وراء حركة التمرد ومحاولات التصدي لها.
ولا شك أن تاريخ الدولة الموزمبيقية وقدراتها، التي تمتد إلى حقبة ما قبل الاستقلال، من ضمن الأسباب الأساسية الكامنة وراء اندلاع العنف في مقاطعة غنية بالموارد ولكنها فقيرة، وبعيدة جغرافيًا ونفسيًا عن مابوتو. في الوقت نفسه، فإن الجهود المحلية والدولية للتصدي للتمرد، الذي تورط فيه جيران موزمبيق وحاكمها الاستعماري السابق، يعكس ماضيًا غير بعيدٍ من نضال البلاد من أجل الاستقلال، والحرب الأهلية المدمرة.
وهكذا، تقدم موزمبيق مثالًا مفيدًا لضرورة رؤية حركات التمرد، ليس فقط من خلال منظور الأيديولوجيات التي تغلفها، ولكن كجزء من قوى مكانية وجيوسياسية وتاريخية أوسع نطاقًا. وينبغي أن يؤخذ هذا في الحسبان عند التصدي لتمرد حركة الشباب، سواء من جانب موزمبيق أو المجتمع الدولي، مع التأكيد ليس فقط على ضرورة دحر التمرد الخطير عسكريًا، ومكافحة الأيديولوجيات المتطرفة، بل النظر أيضًا على نطاقٍ أوسع إلى تاريخ المنطقة، ومعالجة الأسباب الجذرية التي تقف وراء مثل هذه الاضطرابات. ذلك أن “هزيمة” التمرد عسكريًا لن تمحو الأسباب الاجتماعية والسياسية المتجذرة منذ قرون لهذا الصراع.
* باحث في الشؤون الدولية، يعمل حاليًا مستشارًا للدراسات الأمنية في تونس، ولديه خبرة طويلة في دراسات أمريكا اللاتينية، ومنطقة الشرق الأوسط، وشمال إفريقيا، وإفريقيا جنوب الصحراء.