يبدو أن نوعًا جديدًا من الثالوث غير المقدس يتشكَّل في جميع أنحاء العالم يهدِّد دولةً واحدة على وجه الخصوص، والقارة بأكملها من حوله، وله آثار على العالم بأسره. فالتحالفُ القوي بين باكستان والصين، والآن تركيا يبدو عازمًا على إضعاف الهند، ويحشد أدوات الحرب السياسية والاقتصادية، وهي التكتيكات التي استخدمت أيضًا في أوروبا. وقد سلّط تقرير صدر مؤخرًا في صحيفة “هندوستان تايمز” الهندية الضوء على إحدى هذه الأدوات السياسية: ففي أجزاءٍ من الهند، بما في ذلك كيرالا وكشمير، يتلقى الإسلاميون المتطرفون أموالًا من الجماعات المرتبطة بحكومةِ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. ووفقًا للمقال، أعرب مصدرٌ حكومي هندي عن قلقه من أن هذه الجهود يمكن أن تؤدي إلى تطرف المسلمين الهنود، وقال إن تركيا أصبحت “محور الأنشطة المناهضة للهند” في المرتبة الثانية بعد باكستان.
إعادة الاصطفاف الاستراتيجي
في السنواتِ الست الأخيرة، منذ أن شهدت علاقات الهند مع العالم العربي -خاصة مع المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة- تحسنًا كبيرًا، اقتربت باكستان وتركيا من بعضهما بعضًا كردِّ فعلٍ مضاد. باكستان هي إحدى الركائز التي يحتاجها أردوغان من أجل برنامجه “الإسلامي” غير العربي، إلى جانب ماليزيا وإيران، وبالنسبة لباكستان فإنَّ أيَّ شخصٍ يقدِّم لها الدعمَ ضد الهند فهو صديقٌ.
وقد استهدفت سياسات أردوغان، على الصعيد المحلي في تركيا، وفي جميع أنحاء أوروبا وآسيا، بمساعدةٍ قليلة من باكستان، الجماهير الشابة لتعزيز أجندته السياسية. في تركيا، لم يعرف جيل كامل أي زعيم سياسي آخر باستثناء أردوغان. نصف سكان البلاد تحت سن 32 عامًا. وقد وقع هذا الجيل ضحية الوضع الجديد حيث غيّر أردوغان موقفه السياسي منذ عام 2012 تقريبًا للتأكيد على نوع من القومية التي تغامر بالدخول في صراع “حضاري”، ما يسلِّط الضوءَ على الماضي العثماني الإمبراطوري لتركيا، والمنافسة الكبيرة مع الغرب المسيحي. وهذا جزء من التراجع التدريجي لأردوغان عن النظام العلماني الذي تركه الأب المؤسس للجمهورية التركية، مصطفى كمال أتاتورك.
وهنا تمكن ملاحظة أنه مثلما تحاول تركيا الوصولَ إلى داخل الدول للتأثير على سكانها، كذلك تفعل الصين، ويمكن القول إن الأخيرة تقوم بذلك على نطاقٍ أوسع. ولعل الحالة الجديرة بالملاحظة هي حالة أستراليا، حيث وقعت المؤسسات الحكومية والمجتمعية تحت النفوذ الصيني الخطير حتى بذلت جهودًا مؤخرًا لعكس هذا الوضع، فضلاً عن أن التجسس الصيني في الهند واضح أيضًا.
وقد ألمح أردوغان في مناسباتٍ عدة إلى طموحات إمبريالية تمنحه الحقَّ في التدخل في شؤون الأقليات المسلمة في جميع أنحاء العالم. ففي خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، انتقد أردوغان قرار البرلمان الهندي بإلغاء المادة 370 من دستورها التي أعطت وضعًا خاصًا لولاية جامو وكشمير. وتشير بعض المحادثات التي التقطتها وكالات الاستخبارات الهندية إلى أن عملاء باكستانيين بمساعدة تركيا، ضخُّوا أموالًا لإطالة أمد المظاهرات ضد قانون تعديل الجنسية الإنسانية (CAA) الذي أقره البرلمان الهندي في ديسمبر 2019. وقد سرّع هذا القانون عملية منح الجنسية للأقليات غير المسلمة التي تعرضت للاضطهاد بسبب دينها في الدول الثلاثة المجاورة للهند، وهي باكستان وبنجلاديش وأفغانستان.
وهكذا، يتضمن موقف تركيا المناهض للهند بعدًا خارجيًا يتمثل في التحالف مع باكستان ودعم أجندة إسلام أباد، وبعدًا داخل حدود الهند يتمثل في الترويج للإسلام السياسي. وقد بدأتِ الهند في اتخاذ بعض الخطوات لِلجْمِ هذا السلوك التركي تجاهها. وكانت الهند قد طلبت رسميًا من تركيا الامتناع عن التعليق على شؤونها الداخلية في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وعندما تم تحدِّي ذلك، ألغى رئيس الوزراء ناريندرا مودي زيارة رسمية لتركيا تستغرق يومين. كما بدأت نيودلهي أيضًا في تعزيز علاقاتها مع قبرص وأرمينيا واليونان، وهي ثلاثُ دولٍ مجاورة لتركيا، ولديها خصومات عميقة مع أنقرة تتعلق بالمظالم التاريخية، والطموحات السياسية المعاصرة المثيرة للنزاع.
التطرف وألاعيب القوى الإقليمية
عدم الارتياح إزاء الإنترنت من جانب العديد من الحكومات ليس أمرًا غير مبرر: فهو يسمح بالنقل المباشر للمعلومات من الناس الذين يقعون في النصف الآخر من العالم، بمن فيهم المتطرفون، والاتصال معهم. وبرزت هذه المشكلة بشكلٍ ملحوظ بالنسبة للدول الغربية التي تتعامل مع تنظيم داعش. لدى تركيا قدرات متطورة في بث رسائلها عبر الإنترنت، وهي قادرة على استهداف المسلمين الهنود في ولاية كيرالا، والاستفادة من دعمها الصريح لباكستان في قضية كشمير لخلق مزيج خبيث يؤثر على البعض. وعلى غرار تركيا، هناك سكان شباب في الهند، ويتعرض هذا المجتمع على الإنترنت لإغراءات جهادية ضمن الإغراءات الأخرى، التي أصبحت أجندة أردوغان الآن واحدة منها.
تجدر الإشارة إلى أن تركيا ليست مجرد قوة على الإنترنت فحسب، إذ تمتلك تركيا ثاني أكبر قوة عسكرية في حلف الناتو، وموقعها الجغرافي يعطيها العديد من المزايا الأخرى. وفي حين أن تركيا ليست عضوًا في الاتحاد الأوروبي، فإنها لديها ترتيب اتحاد جمركي مع بروكسل، وهي نقطة عبور للعديد من المهاجرين غير الشرعيين الذين يحاولون الوصول إلى أوروبا. وقد بلغت هذه المشكلة مدى مخيفًا منذ وقتٍ ليس ببعيد، ما سمح لأردوغان باستعراض عضلاته من خلال التهديد بوقف ضبط الأمن في هذه الحدود.
كما تحولت تركيا إلى سياسة خارجية أكثر حزمًا وعلانية. ففي أكتوبر 2019، قام أردوغان بتحركه الأخير في سوريا ضد المسلحين الأكراد الذين استخدمهم التحالف بقيادة الولايات المتحدة ضد داعش والذين شنُّوا حربًا طويلة ضد تركيا. أصبحت تركيا أردوغان الداعم العالمي الأكبر لجماعة الإخوان المسلمين؛ الحركة الإسلامية التي صنفتها حكومات عربية منظمة إرهابية. ومؤخرًا، خاضت تركيا صراعًا في البحر الأبيض المتوسط، من حرب ساخنة في ليبيا إلى حرب سياسية حول حقوق التنقيب عن الغاز بالقرب من قبرص، التي جذبت العديد من المنافسين، بما في ذلك إسرائيل وروسيا.
نهاية العالم كما نعرفه
لقد أربك “كوفيد-19” العالم بأسره، وأدخل العديد من الاقتصادات في حالة ركود. ومن المتوقع أن يستمر هذا الضرر طويلًا، ويمكن عزوه إلى الصين، حيث أطلقت الحكومة -سواء من خلال عدم الكفاءة أو الخُبث- العنان للوباء. لقد عززت بكين، تحت غطاء هذه الأزمة، مصالحها في مواجهة النظام الليبرالي العالمي.
لم تفعل تركيا بعد أيَّ شيءٍ مؤثر، لكن تركيزها المدفوع بالحنين إلى الماضي العثماني، ومحاولاتها لإعادة تشكيل العالم الإسلامي، يشيران إلى مخاوف خطيرة في المستقبل. والتحالف المتزايد بين هاتين الدولتين يضاعف المشكلة. وتمثِّل باكستان أهمية خاصة باعتبارها قطعة شطرنج جيوسياسية يستخدمها كلاهما على نحوٍ متزايد، كما أن دعمهما لسلوكيات إسلام أباد المارقة مثل رعاية الإرهابيين يهدد الأمن الإقليمي، غير أن باكستان ليست بأي شكلٍ من الأشكال ندًّا أو محركًا لهذا المحور الجديد.
قد يبدو أن الصين الشيوعية رسميًا، والعلمانية المتشددة، سوف تكون على خلاف مع الدولة التركية التي تحاول إحياء المجد الديني القديم، ولكن السلطة هي الدافع الرئيس لكل من الحكومتين. ويمكن رؤية هذا بسهولة في الحزب الشيوعي الصيني الذي يدير حملة يصفها البعض بأنها “إبادة جماعية” ضد الأقلية المسلمة الإيغورية، وأردوغان -الذي يُصوّر نفسه وتركيا، كمنقذ للإسلام، باستخدام قضايا مثل كشمير وفلسطين لحشد الدعم- ليس فقط لا يحتج بل يرحل اللاجئين الأويغور إلى الصين (عبر دولٍ ثالثة).
هناك أمران آخران مثيران للمفارقة يمكن للمرء أن يلاحظهما. أولًا، تُعتبر ولاية كيرالا إحدى المناطق الرئيسة في الهند المستهدفة بالدعاية الإسلاموية، معقلًا شيوعيًا. وثانيًا، أدَّى وجود أردوغان لقرابة عقدين في السلطة، في محاولة لإعادة أسلمة تركيا، إلى تحوُّل أعدادٍ متزايدة من الأتراك إلى الإلحاد.
وبالتالي، فلا ينبغي فهم التحدي الأيديولوجي باعتباره القضية المركزية، رغم أنه لا يمكن تجاهله لأن استخدام أردوغان للدين باعتباره سلاحًا أصبح عاملًا قويًا في الشؤون العالمية. وبالنسبة للديمقراطيات التي تستهدفها الصين أو تركيا أو كلتاهما، فإن حيلة هذه الأنظمة وشهوتها للسلطة لا بد وأن تُجابه بغضِّ النظر عن العباءة الأيديولوجية التي ترتديها من أجل التقدم بنفسها. ويتعين على الدول المسؤولة أن تتكاتف معًا لوقف مثل هذه المراجعة التحريفية للتاريخ والمزعزعة للاستقرار على الصعيد الدولي، والتدخل في شؤون الدول من قبل الصين الشيوعية، وتركيا ذات النزعة الإسلاموية المتنامية.
– يسعى موقعُ «عين أوروبية على التطرف» إلى نشرِ وجهاتِ نظرٍ مختلفة، لكنه لا يؤيد بالضرورة الآراء التي يُعبِّر عنها الكتّابُ المساهمون، والآراء الواردة في هذا المقال تُعبِّر عن وجهةِ نظر الكاتب فقط.
* محاميةٌ هندية وكاتبة عمود صحفي يومي.