دينيس ساموت*
الأزمة السياسية الأخيرة في تونس هي عرضٌ لمرض أخطر. لقد أخفقت النخبة السياسية في الدولة لعقودٍ من الزمن في تحقيق تطلعات شعبها. لقد فشلت الدولة التي لطالما اعتبرت نموذجًا، نظرًا لدأب شعبها ومثابرته، من نواحٍ كثيرة على مرِّ السنين منذ الاستقلال، في تحسين نوعية حياة شعبها. والنتيجة هي خيبة أمل وإحباط واسعي النطاق، يغذيان الطفيليين السياسيين بجميع أشكالهم.
الجدير بالذكر أن تونس حصلت على استقلالها عن فرنسا في عام 1956، وهي واحدة من أوائل الدول الإفريقية التي حصلت على الاستقلال. وتم ذلك بسلاسة إلى حد ما وبدون الاضطرابات العنيفة التي عانت منها الجزائر المجاورة. وقد أعطى ذلك تونس السبق، الذي بدا في البداية أنها تستغله، تحت القيادة البراجماتية لحبيب بورقيبة. التعليم ومستوى المعيشة في تونس كانا من بين الأفضل في شمال إفريقيا؛ فقد انتهجت الدولة توازنًا دقيقًا بين الأنظمة العلمانية، التي كان يقود أغلبها الجيوش التي كانت تنتشر في العالم العربي في ذلك الوقت، وبين الأنظمة الملكية الأكثر محافظة، ومن ثم نأَت بنفسها عن العديد من الخلافات التي مزقت السياسة العربية.
ومع تقدم بورقيبة في السن، فشل في تنظيم مسارٍ صحيح لمن سيخلفه. وواصل حزب الدستور الذي كان يرأسه (الذي أعيدت تسميته فيما بعد باسم الحزب الدستوري الاشتراكي) العيش على هالة الاستقلال الوطني، إلى أن ضعف هذا الإنجاز بسبب التحديات والمشكلات الحديثة. كان الحزبُ والحكومة اللتان يقودهما يعانيان من انقساماتٍ داخلية وغير قادرين على الإصلاح. وفي عام 1987، تحركت إحدى الفصائل أخيرًا للاستيلاء على السلطة، وتمت الإطاحة ببورقيبة بشكلٍ غير رسمي من قبل رئيس وزرائه، رئيس الشرطة والأمن السابق؛ زين العابدين بن علي، الذي حكم الدولة حتى أصبح، في عام 2011، أول زعيم عربي يُزاح من منصبه بسبب الربيع العربي.
تُعتبر فترة رئاسة بن علي فترة الفرص الضائعة؛ فلقد جلس على رأس حكومة فاسدة وقمعية خنقت إمكانات تونس. ولا تزال الدولة تعاني من جراء هذه التجربة حتى الآن. الإطاحة الشعبية بابن علي حفّزت سلسلةً مماثلة في عددٍ من الدول العربية الأخرى، ولكن تونس كانت مهيئة بشكلٍ فريد للانتقال إلى الديمقراطية من نواحٍ كثيرة. وفي هذا الصدد، أثبت العقد الماضي صحة ذلك. ولكن عملية الانتقال كانت هشة. ويمكن رؤية قوى الطرد المركزي التي تنشط في جميع أنحاء العالم العربي في تونس أيضًا. لقد أعرب الكثيرون عن أملهم في أن تتمكن الدولة من السيطرة على هذه القوى. وقد وضعت الأحداث الأخيرة ذلك في موضع التساؤل.
قصة تونسين
يبدو في كثيرٍ من الأحيان أن تونس بلدان، وليس بلدًا واحدًا. هناك تونس العاصمة، حيث يعيش قرابة ربع سكان الدولة الذين يبلغ عددهم 11 مليون نسمة. هنا، يمكنك أن تجد مجتمعًا لا يختلف كثيرًا عن مجتمع جنوب أوروبا، حيث توجد طبقة متوسطة كبيرة، وطبقة عاملة منظمة ونقابية، ومجتمع مدني صاخب ومشهد ثقافي، وميل إلى التماهي مع نموذج علماني للمجتمع.
ولكن هذه الصورة يمكن أيضًا أن تكون مضللة. وكما هو الحال مع المدن الكبرى الأخرى، مثل إسطنبول، كانت هناك في السنوات الأخيرة هجرة مستمرة للناس من الريف إلى العاصمة. هؤلاء يميلون إلى أن يكونوا أكثر محافظة دينيًا ويستغربون أسلوب حياة المدينة. لم يعد بوسع تونس اليوم أن تأخذ الأغلبية العلمانية على أنها حقيقة لا جدال فيها. فخارج العاصمة، تسود تونس الأخرى: تونس أكثر محافظة، وريفية بشكلٍ رئيس، والناس يكافحون لكسب لقمة العيش.
هذا الصدع الاقتصادي والاجتماعي، على الرغم من أنه كان موجودًا دائمًا، أصبح أكثر حدة خلال عهد ابن علي. فقد خلق أرضًا خصبة للإسلام السياسي، على الرغم من أنه هنا أيضًا جاء بنكهة تونسية. وَجد جزءٌ متطرف تقاربًا مع تنظيم القاعدة، ثم مع تنظيم داعش. فلقد قاتل مئات التونسيين مع داعش في سوريا والعراق. ومع ذلك، كانت هذه دائمًا أقلية صغيرة. تطلع معظم التونسيين الذين يبحثون عن نموذج إسلامي لمستقبل بلادهم إلى حركة النهضة، النسخة المحلية من جماعة الإخوان المسلمين، وزعيمها راشد الغنوشي.
أمضى الغنوشي معظم سنوات نظام ابن علي الثلاث والعشرين في المنفى في لندن. واكتسب سمعة كمعتدل، وتخلى عن العنف كأداة لتحقيق أهداف سياسية. وعندما أطيح ابن علي أخيرًا، عاد الغنوشي إلى تونس لقيادة ما أصبح أكبر قوة سياسية وأكثرها نفوذًا في الدولة. كان الغنوشي من أهم الشخصيات في صياغة تونس الجديدة منذ عام 2011. ولهذا السبب، يجادل الكثيرون بأنه يجب أن يتحمل المسؤولية عن الفوضى السياسية والاقتصادية التي تجد البلاد نفسها فيها في الوقت الراهن. ويقول المدافعون عن الغنوشي إنه اختار دائمًا التوصل إلى حل وسط، وأنه في بعض الأحيان يُساء تفسير ذلك خطأ على أنه تردد.
فشل ثورة 2011
نادرًا ما تنجح الثورات في نهاية المطاف في تحقيق أحلام أولئك الذين أطلقوها. وتونس ليست استثناءً في ذلك. بعد عام 2011، شهدت الدولة نسيمًا جديدًا من الديمقراطية، وأعيدت كرامة المواطن. ولكن التعددية السياسية جلبت معها أيضًا الجدل والانقسام والشلل. هذا في الوقت الذي كانت فيه تونس بحاجة إلى حكومة قوية للتعامل مع مجموعة متنوعة من القضايا- من الإرهاب إلى الوباء، والتداعيات الاقتصادية الناجمة عن كليهما.
بعد عام 2011، كان لتونس برلمان منتخب ديمقراطيًا، ورئيس منتخب ديمقراطيًا أيضًا. ولذلك، فإن لكليهما شرعية لا يمكن تجاهلها. وقد انتهت الضوابط والتوازنات، التي كان من المفترض أن يحققها ذلك في الآونة الأخيرة، إلى ركودٍ سياسي، وهو مأزق وُضعت نهايته في الأيام الأخيرة عندما أقال الرئيس قيس سعيّد رئيس الوزراء، وجمّد عمل البرلمان بحكم الأمر الواقع. وَصفَت المعارضة ما حدث بأنه انقلاب؛ ووصفه الرئيس بأنه خطوة أخيرة لإنقاذ تونس من وضعٍ يائس. بل يمكن للرئيس قيس سعيّد أن يرى أن التحركات الأخيرة هي نتاج خيبة الأمل التي شعر بها الكثير من التونسيين.
بشكلٍ عام، خلّفت ثورة 2011 خيبة أمل كبيرة لدى التونسيين. والفرص الاقتصادية التي يأمل الكثيرون في تحقيقها لم تتحقق قط، على الرغم من المبالغ الكبيرة من المال التي كانت تأتي من الخارج في شكل مساعداتٍ اقتصادية. ويبدو أن الحكومة أفسدت الوضع الأمني، حيث تحركت بعد فوات الأوان لتضييق الخناق على الجماعات الإسلامية العنيفة، بعدما منحتها مساحة لارتكاب فظائع ضد صناعة السياحة المربحة.
ونتيجة لذلك، عانت مجتمعات محلية بأكملها لأنها كانت تعتمد على السياحة. وقبل أن تتعافى السياحة، تفشى فيروس كورونا. وهكذا، قضت هذه الضربة المزدوجة على المنتجعات السياحية الناجحة والمربحة في تونس.
الإصلاحات الاقتصادية المهمة التي كانت تعتمد عليها المساعدات المالية الخارجية الحاسمة وقعت ضحية المشاحنات السياسية التي اتسمت بها السنوات الأخيرة. ولقد تضرر الاقتصاد التونسي، الذي يعاني بالفعل من التردد السياسي، من تداعيات جائحة كوفيد أكثر من بعض جيرانه. ويبدو أن الحكومة فقدت السيطرة على الجائحة نفسها في الأشهر الأخيرة، في ظل إنهاك المستشفيات التونسية، وعدم قدرتها على التعامل مع الحالات.
وبالتالي، كانت هناك حجة للتدخل الرئاسي، ولكن هذا لا يعطي الرئيس تفويضًا مطلقًا للسلطة دون عوائق. فجرعة الدواء التي يقدمها لا يمكن أن تكون فعّالة ما لم تُعط بسرعة وباقتصاد.
ما نجح في أماكن أخرى لن ينجح في تونس
يرى البعض أن التطورات في تونس هي بطريقة أو بأخرى تكرار للأحداث التي وقعت في مصر في عام 2013، حيث أقيلت حكومة الإخوان المسلمين بعد أن حظيت الاحتجاجات الجماهيرية بدعم الجيش. ومع ذلك، فإن تونس ليست مصر، والنهضة ليست مثل جماعة الإخوان المسلمين في مصر. فمصر يحكمها بشكل عام ضباط الجيش منذ عام 1952. تونس تمثّل سياقًا أكثر تطورًا من الناحية السياسية. وسيتعين على الرئيس التحرك بحذر لتجنب تفاقم المشكلات التي يسعى إلى حلها. كما أن تونس ليست ليبيا أيضًا، والانزلاق إلى الحرب الأهلية أمر لا يمكن تصوره. وفي النهاية، سيتعين حل المأزق من خلال الانتخابات، الحرة والنزيهة، التي تمتلك تونس بالفعل بعض الخبرة فيها.
يتعين على التونسيين العقلاء “فرملة” المتطرفين
على الرغم من الاضطرابات الحالية، تتمتع تونس بشبكة أمان سياسي لا تشترك فيها سوى قلة من الدول العربية الأخرى. ولديها مجتمع مدني نشط، ووسائط إعلام ومؤسسات تعددية، مثل النقابات العمالية، صمدت أمام اختبار الزمن. وتتمتع بمستوى عال من التعليم، حيث تبلغ نسبة الإلمام بالقراءة والكتابة بين الشباب نحو مائة في المائة. رأس المال البشري هذا هو الأساس الذي يجب أن يُبنى عليه مستقبل تونس. علاوة على ذلك، لدى تونس جيشٌ ظلَّ تقليديًا بعيدًا عن السياسة.
يبدو أن معظم التونسيين يرحبون بكسر الجمود السياسي في الأشهر والسنوات الأخيرة. ولذلك، فقد يكون الرئيس سعيّد يعيش لحظة شهر عسل قصيرة. لكن من غير المرجح أن يرحب التونسيون بأي عودة للحكم الاستبدادي، بغض النظر عن المبرر.
وخلال الأسابيع المقبلة، سيواجه الرئيس سعيّد، وزعيم حزب النهضة الغنوشي، وبقية النخبة السياسية اختبارًا. فداخل معسكراتهم متطرفون يسعون إلى تحويل الأزمة إلى مواجهة؛ لذا تجب مقاومتهم. والتسوية ستكون ضرورية دائمًا.
وختامًا، ينبغي استعادة النظام الدستوري في أقرب وقتٍ ممكن، والسماح للشعب التونسي باختيار أوضح لتقرير المستقبل من خلال صناديق الاقتراع.
* مدير شبكة لينكس (الحوار والتحليل والبحث) ومدير تحرير منصة commonspace.eu الإلكترونية.