عقد “المركز اليمني للسياسات” ندوة عبر الإنترنت في 5 أغسطس بعنوان “استعادة السرد: التغطية الإعلامية الإشكالية لليمن في وسائل الإعلام الغربية”. المتحدثة الأولى هي إيونا كريج؛ صحفية بريطانية-إيرلندية مستقلة حائزة على عدة جوائز، ولديها خبرة ممتدة في اليمن وشبه الجزيرة العربية.
بدأت كريج حديثها بالقول إن المشكلة طويلة الأمد، وتنطوي على موضوعات وقضايا، بعض منها هدفه الاستهلاك الإعلامي وتلبية رغبات المستهلك، وبعضها نتيجة الإنتاج الإعلامي في ذاته. واليمن تبدو إحدى النماذج المهمة. لكن التغطيات الإعلامية بصفة عامة تعاني مشكلاتٍ عدة، فمثلا هناك التغطية الاختزالية للمجاعة في إثيوبيا في الثمانينيات، الناجمة عن الحكومة الشيوعية بقيادة منجيستو هيلا مريم، ولم يكن لأحد أن يعرف ما يجري لولا مشاهدة الحفلة الموسيقية الخيرية (Live Aid) التي نُظِّمَت لجمع تبرعات للمجاعة.
وأشارت كريج إلى أنه طرأت بعض التحسينات على التغطيات الإعلامية. صحيح أن البرامج الإخبارية التلفزيونية لا تزال تعطي بضع دقائق فقط للقصص الإخبارية، ثم تتقلص هذه التغطية، أكثر بعد ذلك، في وسائل التواصل الاجتماعي، من جانبٍ آخر فإن وسائل الإعلام المطبوعة لا تزال تكافح من أجل إعطاء مساحة مناسبة للأخبار. ولكن في وسائل الإعلام المطبوعة، حيث كان الصحفيون يكتبون نشراتٍ إخبارية من 300 كلمة قبل بضعة عقود، فإنهم حاليا مع التحول إلى الطبعات الإلكترونية يكتبون حوالي 1200 كلمة، في ظلِّ الصحافة عبر الإنترنت، ما يتيح للتقارير أن تكون أكثر تعمقًا.
ومع ذلك، فهناك مشكلات هيكلية خطيرة تعتري تعامل الصحافة الغربية مع الشأن اليمني: فالصحفيون لا يركزون على الدولة باستمرار بل “يتعاملون معها بشكل متقطع”، وهناك اعتماد كبير على الناطقين باللغة الإنجليزية، الذين لطالما كان عددهم قليلًا جدًا في اليمن، والآن لا يوجدون بالأساس.
في “الدفاع” عن الصحفيين، تقول كريج إن هناك مشكلة خطيرة للغاية في إمكانية الوصول إلى الأخبار في اليمن، من ناحيتين. أولًا، من الصعب ماديًا الوصول إلى اليمن، ومع انهيار الأمن، أصبح الذهابُ إلى هناك خطرًا للغاية، الأمر الذي يعيق التغطية الإعلامية، ويُشجع الاعتماد، على سبيل المثال، على المقاطع التي تلتقطها وكالات الإغاثة، ما يعني أن الروايات حول اليمن تميل إلى التركيز على البُعد الإنساني، بالمعنى الدقيق للكلمة، دون الإقرار بالسياسة التي خلقت هذه الكارثة الإنسانية. القضية الثانية، خاصة في المناطق الشمالية التي يُسيطر عليها أنصار الله أو الحوثيون المدعومون من إيران، هي أن الطبيعة القمعية للسلطات الحاكمة تجعل الوصول إلى معلومات موثوقة أمر صعب للغاية حتى عندما يتمكن الصحفيون من الدخول إلى اليمن.
وتخلص كريج إلى أن البعض قد يرى أنه من الأفضل عدم تغطية النزاع اليمني على الإطلاق بدلًا من تغطيته بشكل سيئ، ولتحسين الوضع، سيكون من الأفضل مساعدة اليمنيين على سرد قصصهم، بدلًا من سرد قصصًا بالنيابة عنهم.
بعد ذلك، تحدثت ندى الدوسري؛ باحثة تتمتع بخبرة ميدانية تمتد لعشرين عامًا في اليمن، تغطي جميع الجوانب من القبائل والمجتمع المدني إلى الحكم المحلي والأمن. وهي باحثة غير مقيمة في “معهد الشرق الأوسط”.
تقول الدوسري إنها متحمسّة لهذا الموضوع لأن الغربيين هيمنوا على الخطاب “وقد أثّر هذا على الصراع”، الأمر الذي جرّأ الحوثيين، وعزز قوتهم على مدى السنوات القليلة الماضية. وترى أن هذا “برر عنف الحوثيين” ومكّن عدوانهم، خاصة بعد اتفاق ستوكهولم، الذي أوقف حرمان الحوثيين من مدينة الحديدة الساحلية. لقد كان اتفاق ستوكهولم في الواقع بمثابة “السرد الغربي الذي تبلور في شكل أداة استخدمها الحوثيون”.
وتضيف الدوسري أن الغربيين يهيمنون على “سردية السلام” بشأن اليمن، سردية حرّفت كل شيء، ما يجعل المحللين الخارجيين القادمين إلى النزاع اليمني يرونه “من منظور أنه تدخل سعودي، وهي ليست الطريقة التي يرى بها معظم اليمنيين الصراع”. وتشير الدوسري إلى أن الحوثيين “استغلوا السرد الإنساني واستخدموه كسلاح”. الأسوأ من ذلك هو أن هذا الأمر أصاب عملية السلام، حيث عبّر مسؤولو الأمم المتحدة، سرًا وعلانية، عن هذه المفاهيم الخاطئة عن الحرب.
توضح الدوسري ثلاث روايات مهمة هيمنت على التغطية الإعلامية الغربية وشوهتها:
- بدأت الحرب في عام 2015، عندما تدخل التحالف العربي لعكس مسار الانقلاب الحوثي. وكانت هناك رواية مفادها أن الحوثيين كانوا “مجموعة غير منظمة من المناضلين من أجل الحرية”، و”أقلية دينية مظلومة”، وليس معتدين، في حين أنهم في الواقع “جماعة دينية متطرفة” لا تختلف عن تنظيم القاعدة أو داعش.
- الحوثيون اقتحموا صنعاء احتجاجًا على الفساد، في حين أن الجماعة “أكثر فسادًا من أي قوى وصلت إلى السلطة في اليمن”.
- أي صلات بين الحوثيين وإيران كانت ضئيلة، وجاءت كرد فعل على تدخل التحالف العربي، في حين أن الحوثيين يمثلون مشروعًا إيرانيًا طويل الأجل.
وتخلص الدوسري إلى أن هذا الوضع قد بدأ يتحسّن بشكلٍ ضعيف في الآونة الأخيرة، ويعود ذلك في الغالب إلى تزايد بروز عدد من الشباب اليمني في أوساط المحللين، وفي وسائل الإعلام الغربية.
أما المتحدثة الثالثة فهي مريم الذبحاني؛ صحفية ومخرجة أفلام يمنية-روسية حائزة على عدة جوائز. أنتجت أول فيلم لها خلال “الربيع العربي” في اليمن، وشاركت في تأسيس شركة للإنتاج الإعلامي، ومنذ ذلك الحين تُعرض أفلامها على مستوى العالم في مهرجانات مثل “قرطاج” و”إنتر فيلم” و”أواكساكا”.
وأشارت الذبحاني إلى تجربة تلقيها محاضرة من مخرج أفلام حول “الأخطاء” التي تقع فيها في طريقة تقديمها لليمن، وكم كان من المزعج أن يقوم بمثل هذا الشيء شخص ليس فقط أنه لم يذهب إلى اليمن أبدًا فحسب، بل لم يتمكن من العثور عليه على الخريطة. اليمن بلد يضم ثلاثين مليون نسمة، لذا فإن تصويره كما لو أنه “لون واحد أو فكرة واحدة” هو أمر خاطئ. وقالت الذبحاني إنها تأمل في أن تخصص الأفلام المستقبلية مساحة أكبر لليمن لتعرضه كما هو في الواقع، وليس كما يتصوّر الآخرون أنه كذلك.
المتحدث الأخير يوسف الصباحي؛ كاتب ومخرج أفلام يمني-أمريكي، فاز فيلمه القصير الأول “قانون باتريوت” (A Patriot Act) بجائزة أفضل فيلم طلابي في “مهرجان نيفادا السينمائي الدولي”، وعُرض فيلمه الثاني “مُلّغم” (Landmined) في دول متعددة.
يقول الصباحي إن صناعة الأفلام اليمنية قد تراجعت بسبب فرض قوالب نمطية: لا توجد مدارس سينمائية في اليمن بسبب الوضع الحالي، لذلك يتعين عليهم الالتحاق بمدارس في الخارج، وهذه المدارس تدرس وتكافئ الرؤى التي تجسّد المعاناة. تقبّل اليمنيون هذه الطريقة على أنها الطريقة “المناسبة” لتقديم اليمن، وبما أن المنظمات غير الحكومية، وغيرها، تسيطر على الإمدادات المالية، وتريد هذه المقاطع لحملاتها، فإنها “تفسد” الفنانين اليمنيين في اليمن، الذين يسعون للحصول على الأموال، المتاحة لهذا العرض أحادي البُعد. ويرى الصباحي أن هذه من بين المشكلات الرئيسة في الوقت الحاضر.
في فقرة الأسئلة والأجوبة، قالت كريج إن محرري وسائل الإعلام الغربية لديهم حساسية من “التعقيد”. وتتذكر الدخول في “مناوشة لمدة ساعتين” مع محرر بسبب استخدام كلمة “زيدي” لوصف الحوثيين. ورأى المحرر أن استخدام كلمة “شيعة” كافية. التغطية الإعلامية تعطي الأولوية للغارات الجوية للتحالف العربي بصورة مسيئة لدور التحالف، خاصة إذا كان من الممكن ربطها بإمدادات الأسلحة الغربية، والوضع الإنساني، لا سيّما وأنه يمكن تصنيفه على أنه مجاعة، التي تميل إلى أن تنطوي على تركيز منزوع من السياق تمامًا على المعاناة، وغالبًا ما يتم تصويرها من خلال “عرض صور [لأشخاص] هزيلين، عادة أطفال”.
من جانبها، قالت الدوسري بصراحة: “إن اليمن لا علاقة له بالتغطية الإعلامية المقدمة عن اليمن”. فالصحافة تهتم باليمن بقدر ما يمكنها استخدامه كإطار عام لقصة عن بلدانها. تصوير اليمنيين ببساطة كضحايا أمر مُضلل بشكل عام وخاطئ تمامًا عندما يُطبق خطأ على جماعة مثل الحوثيين. وأضافت الدوسري: إنه يقدم الرواية الكاملة للحرب بشكل معكوس، فقد قدمت التدخل الذي تقوده السعودية على أنه بداية الحرب، وليس نتيجة للحرب الإيرانية في اليمن.
وتحدثت الذبحاني عن الفيلم المرشح لجائزة الأوسكار بعنوان “عنبر الجوع” (Hunger Ward)، الذي كان “مزعجًا للغاية”، الذي يُظهر ثلاثة أطفال يموتون من المجاعة في اليمن. لم تستطع الذبحاني مشاهدة الفيلم بأكمله بسبب محتواه، وأصبح الفيلم نفسه نقطة محورية للشكاوى اليمنية حول تغطية بلدهم؛ لأن اليمنيين كانوا أساسًا بمثابة دعائم لقصة أراد المخرج سردها، وانتهى الأمر باستخدام معلومات كاذبة -عن توقيت المجاعة، على سبيل المثال- تصب في صالح المعلومات المضللة التي يروجها الحوثيون، ما حوّل الفيلم الذي كان من المفترض أن يلفت الانتباه إلى المحنة الإنسانية، إلى فيلم متحزّب سياسيًا.
وختامًا، يوضح الصباحي أنه وجد حلًا للقضايا المتعلقة بالمنح الأجنبية لصناعة الأفلام، وهو تمويل فيلمه بنفسه في الوقت الحالي، على أمل أن تسمح عوائده بتمويل المنتجات “اليمنية حقًا” في المستقبل. ويلفت الصباحي النظر إلى أن هذه تمثّل قضية بالنسبة لليمنيين أيضًا، الذين كان لا بد من إقناعهم بأن هناك حاجة لسرد قصص عن أشياء أخرى غير البؤس، سواء كان زواج الأطفال أو الجوع. فالحياة ستستمر، على الرغم من الحرب، وينبغي أن يكون هناك بعض التوازن في العرض.