إسحاق كفير*
بداية، ينبغي توضيح أن مكافحة الإرهاب تهدف، بالدرجة الأولى، إلى إضعاف الإرهابيين ومنعهم من تنفيذ مخططاتهم، وأيضًا من استقطاب أفراد جدد. وتتمثل إحدى الأدوات الأساسية في “ترسانة” مكافحة الإرهاب في معرفة كيف تتمكن الجماعات المتطرفة العنيفة من البقاء على قيد الحياة والتكيّف والنمو رغم جهود الدول المختلفة لمحاربتها. هذا السؤال يكتسب أهمية كبيرة، انطلاقا من حقيقة أن الجماعات الإرهابية لا يمكنها الاعتماد على النجاحات التي تحققها باعتبارها محفزا للآخرين إلا نادراً، فقليل جداً منها تنجح في تحقيق أهدافها وغاياتها المنشودة والتي تتمحور لدى عدد كبير منها في التغيير السياسي. ومن ثم فمن الصعب استغلال مثل هذه النجاحات لتلقي الدعم لبقائها.
وفي هذا الصدد، خلُصت دراسة أجراها خوسراف جايبولويف وتود ساندلر على 586 مجموعة إرهابية، إلى أن بقاء الجماعات الإرهابية واستمرارها يعتمد على أهدافها وتكتيكاتها وحجمها والخصائص الأساسية للدول التي تتخذ منها قواعد لها. وثمة خلاصة مهمة أخرى للدراسة هي أن تلك الجماعات التي تحفزها الأيديولوجية الدينية هي الأكثر مرونة. لكن الدراسة لم تنظر إلى دور وسائل التواصل الاجتماعي، وكيف تبتكر هذه المجموعات أساليب جديدة للبقاء على قيد الحياة، وهو متغير شديد الأهمية.
عند النظر إلى كيفية تطور الجماعات المتطرفة العنيفة وقدرتها على التكيف مع ما تتعرض له من جهود مكافحة، والتعلم من أخطائها يفرِّق الباحثون بين المستويات المختلفة: الصغرى (الفردية)، والمتوسطة (المجموعة)، والكلية (المجتمع). ومن خلال القيام بذلك، نلاحظ مختلف عمليات التعلم. تفود هذه الملاحظات -أو ينبغي أن تقود- إلى وضع برامج وسياسات محددة لمكافحة التطرف على هذه المستويات المختلفة. على سبيل المثال، عندما كان تنظيم “داعش” يستخدم وسائل التواصل الاجتماعي لتجنيد ونشر دعايته للكراهية، ردتِ الدول وشركات التكنولوجيا بإطلاق خوارزميات ووحدات إزالة المحتوى المتطرف العنيف. وبذلت جهودًا لتحديد ما إذا كان جزء معين من المحتوى ينتهك شروط الخدمة.
وعلى المستويين المتوسط والأصغر، تحولت الدول التي تواجه داعش إلى خبراء في مكافحة التطرف، والمشاركة المجتمعية، وغيرها، لتحديد الأفراد والجماعات “المُعرضين للخطر”. وكان التركيز ذا شقين، أولهما تحديد ما الذي جعل هذه الكيانات عُرضة للروايات المتطرفة، وثانيًا، وضع تدابير محددة لمعالجة المظالم. ومع ذلك، وعلى الرغم من فعالية بعض هذه النُهج والبرامج والأفكار، فلا يزال هناك مجالان يثيران القلق.
أولًا، الجماعات السلفية الجهادية العابرة للحدود التي تدخل فترة كمون استراتيجي، في محاولة منها للبحث عن طرائق جديدة لإعادة صياغة استراتيجيتها وتوسيع نفوذها، ومن ثم التكيف مع أوضاعها الجديدة. فلقد اضطر أيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة إلى إعادة تطوير القاعدة مرات عدة. عملية إعادة صياغة الاستراتيجية هذه تعني أن تنظيم القاعدة قد ابتعد عن التكليف المباشر بالعنف. وبدلًا من ذلك، تركز الجماعة على نشر عقيدتها التوجيهية: “النزعة القاعدية“. ومن العناصر الرئيسة في تنظيم القاعدة أنه يُزاوج بين القضايا المحلية والأهداف العابرة للأوطان (عولمة محلية الطابع). وقد أثّرت إعادة صياغة الاستراتيجية هذه على التنظيم، حيث أصبحت الجهات الفاعلة المحلية تتمتع بقدر أكبر من الحرية التنظيمية والعملياتية.
ثانيًا، يبدو أن الجماعات المتطرفة اليمينية والجماعات السلفية الجهادية تعيد هيكلة تنظيماتها بشكل متزايد لمواجهة تكتيكات مكافحة الإرهاب التي نجحت في الماضي. ومن الأشكال التي اتخذها ذلك اعتماد آلية “ما بعد التنظيم“، التي تشير إلى طمس الحدود بين المجموعة والشبكة والحركة. ولا شك أن هذا التغيير يوفر للمتطرفين سيولة في الأفكار والاتجاهات والأهداف والتكتيكات، وفي الوقت ذاته يجعل القدرة على اعتراضها واختراقها والتدخل فيها أكثر صعوبة لأن طبيعة التحركات أضحت أقل تنظيمًا.
لقد نظر تنظيم داعش في مرحلة ما بعد الخلافة إلى ما فعله تنظيم القاعدة وأعاد التفكير في استراتيجيته. لقد تحوّل إلى تمرد عام، في سوريا والعراق في المقام الأول. ويبدو أن داعش يمتنع عن تحدي الجيوش الغربية بشكل مباشر. هذا شيء كان يقوم به تنظيم القاعدة منذ فترة. ومن خلال هذه الاستراتيجية التي صيغت حديثًا، “اقتطع تنظيم داعش مساحة لنفسه، وأعد البنية التحتية اللازمة لشن الهجمات”.
علاوة على ذلك، حدثت تغييرات تنظيمية في داعش. فمنذ زوال خلافته، تبنى التنظيم آلية “ما بعد التنظيم”، ساعيًا إلى تشجيعِ المزيد من أنشطة الجهات الفاعلة المنفردة، وهو ما فعله في عهد الخلافة، لكنه لم يكن هدفًا رئيسًا لأن تركيزه كان ينصب على تشجيع الهجرة إلى الدويلة الوليدة.
ومع ذلك، والآن بعد أن أصبح يركِّز على البقاء، فهو ببحث عن أفكارٍ جديدة، بما في ذلك تجربة العملات الرقمية (وهو شيء قامت به حماس وحزب الله والقاعدة نفسها)، واستخدام منصات مختلفة للإلهام والتجنيد. ويمكن ملاحظة هذه التغييرات الاستراتيجية والتكتيكية والتنظيمية في أوساط اليمين المتطرف أيضًا.
الجماعات اليمينية المتطرفة العنيفة تطرح تحديات مماثلة للقائمين على عمليات مكافحة الإرهاب. ذلك أن طبيعة انتشار هذه الكيانات تجعل من الصعب التحقق من الاستراتيجية الحالية لها، وكذلك اكتشاف أي عملية إعادة صياغة لاستراتيجياتها. لذا، يشك المرء في وجود شكل من أشكال الكمون الاستراتيجي من جانب اليمين المتطرف العنيف أيضًا، ويُعزى ذلك جزئياً إلى زيادة الاهتمام، من جانب وسائل الإعلام وإنفاذ القانون. إن رغبة مكتب التحقيقات الفيدرالي “إف بي آي” للإشارة إلى حركة “كيو أنون” ]حركة يمينية متطرفة في الولايات المتحدة[ على أنه تهديد إرهابي محلي محتمل يشير إلى الاهتمام الذي توليه أجهزة الأمن وإنفاذ القانون لهذه الجماعات.
وعلاوة على ذلك، يُلاحظ أن جائحة كوفيد-19 ساعدت هذه الحركات، إن لم تكن منحتها دعمًا صريحًا، على الأقل من خلال كسب بعض التعاطف، بسبب الكراهية المتزايدة للسياسة السائدة والسياسيين والأحزاب السياسية التقليدية. وربما أن العديد من المتطرفين يجلسون ببساطة، لكي يسمحوا للمؤامرات، والمعلومات المضللة، وعدم الثقة، بالازدهار على أمل الحصول على المزيد من الدعم والتَّفَهُّم والتعاطف على المدى الطويل.
وتشير هذه التطورات إلى أمرين. أولًا، ربما اختار بعض المتطرفين تعليق استخدامهم للعنف لأنهم يرون قيمة في اختراق النظام السياسي وتحقيق التغييرات التي يريدونها. وهذا هو الحال بالنسبة لحركة “كيو أنون”، حيث ينضم المؤيدون إلى النظام السياسي، ويعتزمون إحداث تغيير من الداخل. وبدلًا من ذلك، ربما يستغل أولئك الذين يرون أن النظام غير قابل للإصلاح، الوقتَ للبحث عن أعضاء جددٍ وطرقٍ جديدة لتحدي الوضع الراهن. ولهذا السبب يجب أن تتطور سبل مكافحة الإرهاب، وتتكيَّف مع البنية المتطرفة العنيفة الجديدة، مع الاعتراف بالتكييف الاستراتيجي والتحول نحو آلية ما بعد التنظيم.
وهناك خطرٌ حقيقي من أننا في الوقت الذي نركِّز فيه على جائحة كوفيد-19، واحتمالات حدوث ركود عالمي، وزيادة التوترات الجيواستراتيجية، فإننا لا نولي اهتمامًا كافيًا للجماعات المتطرفة العنيفة؛ لأنها لا تتصدر عناوين الأخبار. وهذا التطور سيكون خطأ فادحًا، لأن الإرهاب لا يزال يشكِّل تهديدًا رئيسًا، لا سيما بسبب إضفاء الطابع الديمقراطي على أدوات الاتصال، التي تمكِّن شخصًا واحدًا من الوصول إلى ملايين الأشخاص على الفور.
لقد لعبت هذه الابتكارات دورًا أساسيًا في بقاء العديد من الجماعات المتطرفة العنيفة على قيد الحياة. وتساعد منصات وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من الأدوات المتطرفين العنيفين ليس فقط على مواصلة التواصل مع جماهير جديدة، بل أيضًا على التطور، والتكيف، واستكشاف تكتيكات وأدوات جديدة، فضلًا عن تغيير تنظيمهم بما يجعل اكتشافهم ومنعهم أكثر صعوبة. لذا، يجب أن نركز أكثر على فهم الطرق التي يتعلم بها المتطرفون العنيفون من أخطائهم، وتكيفهم مع تطورات وجهود مكافحتهم؛ لأننا لن نستطيع تحسين سبل مجابهة هذه الكيانات واحتوائها إلا من خلال هذه الجهود.
* عضو المجلس الاستشاري، والأستاذ المساعد بالمعهد الدولي للعدالة وسيادة القانون، جامعة تشارلز ستورت.