إسحاق كفير*
يفهم التضليل على نطاقٍ واسع على أنه المحتوى الذي يتم إنتاجه لجني الأرباح، والسعي لتحقيق أهدافٍ سياسية، أو إشاعة معلومات تهدف بشكل خبيث إلى التضليل. في عصر “وباء المعلومات” والتطرف، أصبح التربح من المعلومات المضللة يشكِّل تحديًا كبيرًا؛ لأنه يقوّض الثقة في النظام السياسي، ويضعف الانسجام والتماسك الاجتماعي، ويشجع العنف.
وفي هذا الصدد، أبرزت دراسة حديثة أجرتها مؤسسة “جلوبسك” (GLOBSEC) خطر التضليل، وكشفت أن 30% من الناس الذين يعيشون في وسط وشرق أوروبا يعتقدون أن كوفيد-19 قد جرى تصنيعه للسيطرة على الناس والتلاعب بهم. وتوصلت الدراسة إلى أن واحدًا من كل أربعة يعتقدون في الادّعاء بأن لقاح كوفيد-19 سوف يستخدم لزرع رقاقات نانوية في أجسام البشر. ومن الواضح أن العديد من أولئك الذين يسكنون في البيئات التي ينتشر فيها التضليل هم أكثر عُرضة لتبني نظريات المؤامرة، ورفض الوضع الراهن، بل والانخراط في العنف.
ولعل الكثير من الاهتمام فيما يتعلق بالتضليل يتمحور حول كيفية استخدام الدول الفاعلة مثل روسيا والصين وإيران وغيرها له. وتركز الرواية على كيفية سعي الدول “الشريرة” لبث الانقسامات في الديمقراطيات الغربية الليبرالية. وينصب التركيز الثاني على كيفية استخدام السياسيين التضليل لاستغلال الانقسامات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والدينية، لتحقيق أجنداتهم والتقدم في مسيراتهم المهنية. فعلى سبيل المثال، تسللت مزاعم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب المتكررة بتزوير الانتخابات، على أمل الحصول على ولاية ثانية، إلى عقول الملايين من الأمريكيين. وأصبح هؤلاء الرجال والنساء يعتقدون بشدة أن انتخابات عام 2020 قد سُرقت وزورت، على الرغم من أن الأدلة تظهر العكس. وأدى هذا الخطاب إلى اقتحام مبنى الكابيتول من قبل الآلاف من مؤيدي ترامب العازمين على “وقف السرقة”.
ومن الواضح أنه مع زيادة انتشار المعلومات المضللة، بحث الناس عن طرق لاستغلال الخوف الواسع النطاق من خلال الادعاء بأن لديهم تدابير مضادة فعّالة لإشعاعات الجيل الخامس (نظرية المؤامرة المتعلقة بشبكات 5G) وتوفير “علاجات” لكوفيد-19 وغيرها من العلل. وهكذا، يذكرنا رواد المشاريع هؤلاء بأن التضليل بدأ كمسعى للربح. أي أن الأفراد المغامرين رأوا فرصة في التربح من انتشار الأكاذيب، وبناء صناعة كاملة تركز على استغلال مخاوف الناس، والتنافر، والسياسة.
إحدى الطرق لفهم انتشار التربح من المعلومات المضللة هي النظر إلى “صناعة” الأخبار المزيفة في مقدونيا. ففي دراسة إثنوجرافية رائدة حول بلدة فيليس المقدونية، خلصت هيذر هيوز، وإسرائيل وايسمل مانور، إلى أن الضائقة الاقتصادية ومعرفة وجود سوق للمعلومات المضللة دفعا العديد من الشباب إلى الانخراط في اختلاق أخبارٍ مزيفة ونشرها. وبعبارةٍ أخرى، فإن إدراك وجود سوق خصبة وثرية ونهمة هو الذي شجّع هؤلاء الشباب، الذين يبحثون عن الأمن الاقتصادي، على تطوير محتوى من المعلومات الكاذبة والمضللة والترويج لها. ولا شك أن معرفة أن هذا الفعل لا يترتب عليه أي عقوبات جنائية تشجع الشباب على الانضمام إلى هذا القطاع.
في الوقت الحاضر، تنشر مجموعات التصيّد الإلكتروني، وشركات الاتصالات الاستراتيجية، ورواد الأعمال من الأفراد، المعلومات الكاذبة والمضللة لتحقيق مكاسب مالية. وهم يفعلون ذلك دون عقاب، حيث إن الأنظمة القانونية الوطنية والدولية غير واضحة بشأن كيفية التعامل مع هذه الجهات الفاعلة، لا سيما عندما يتحجج مروّجو مثل تلك المعلومات بحرية التعبير.
ولعل خير مثال على مدى صعوبة مقاضاة أولئك الذين يشاركون في التضليل هو في حالة “وكالة أبحاث الإنترنت” التي تتخذ من روسيا مقراً لها. وقد قررت وزارة العدل الأمريكية إسقاط القضية، مدّعية أن المضي قدمًا فيها من شأنه أن يكشف أساليب جمع المعلومات. أحد أغرب الأشياء حول القرار هو أنه جاء عشية المحاكمة. وبدلاً من ذلك، فإن القانون الأمريكي بشأن نزاهة الحملات الإعلانية لعام 2020، الذي يهدف إلى تعزيز الشفافية وبالتالي التصدي للمعلومات السياسية المضللة، ضعيف أيضاً، لأنه يركز فقط على الإعلان السياسي، ولم يتم بعد اختبار التشريع في المحاكم. وهناك آمال في أن “قانون الخدمات الرقمية للاتحاد الأوروبي” قد يوفر بعض الردع ضد خطاب الكراهية وانتشار المعلومات الضارة، على الرغم من أن المرء لا يزال متشككاً في حدوث ذلك.
قبل وضع استراتيجية لمواجهة التربح من المعلومات المضللة يجب أن نبدأ من خلال الاعتراف بدور فراغ البيانات (التي تنشأ عندما يكون هناك طلب كبير على معلومات بشأن موضوع ما ونقص في المعلومات المتوفرة بشأنه)، ومحركات البحث، والخوارزميات، في تسهيل التربح من المعلومات المضللة.
في مايو 2018، عرّف اثنان من موظفي شركة ميكروسوفت، هما مايكل جولوفيسكي، ودانا ماتاس، فراغات البيانات على أنها عملية تنتج عن محركات البحث التي تُظهر قليلاً من النتائج أو لا شيء. وعادة ما تحدث هذه الحالة عندما يكون الاستعلام عن المعلومة غامضًا أو لا يتم البحث عنه كثيرًا. كما حدد المؤلفان أيضًا أنه عندما يظهر فراغ البيانات، يمكن لشخص مغامر إنشاء محتوى لملء الفراغ. وسيستغل هذا الشخص خصائص مثل التعبئة التلقائية للبيانات، والتشغيل التلقائي، والموضوعات الرائجة أثناء تطلعه إلى إنشاء محتوى. وهكذا ظهر قطاع الأخبار المزيفة المقدونية لأول مرة.
هناك عنصران هامان يغذيان التربح من عملية التضليل. معرفة صاحب مشروع المعلومات المضلِّلة بأن أنظمة التعلم الآلي تفتقر إلى الدقة أو التقدير للفارق الدقيق بين بعض الكلمات أو بعض العبارات، وهو ما يفعله البشر.
بدلًا من ذلك، تعتمد هذه الآلات على الخوارزميات التي تسجل تاريخ البحث، والتعرف على الذوق، والتكرار، وكل ذلك يعني أن النظام الآلي يقدِّم معلوماتٍ تحمل احتمالية أن صفحة الويب أو الصورة أو الفيديو أو الموضوع يفي بمحددات البحث. ويمكن لصاحب مشروع المعلومات المضلة، من خلال التركيز على كلمات محددة، إنشاء محتوى، وهو مدرك أنه عندما يقوم أشخاص ما بعمليات بحث محددة، فإنهم سيوجهون إلى صفحة الويب أو الصورة أو الفيديو أو الموضوع الذي أنشأه. ويمكن أن تحتوي الصفحات على بعض الإعلانات أو المحتوى بمقابل مادي.
ويرتبط انتشار التضليل أيضًا بالإعلانات المبرمجة وزيادة الاعتماد على مقدمي المعلومات غير السائدة، والتي تفتقر للسمعة الجيدة، وبعضهم يعتمد على روابط الصيد (Clickbait) أو الدفع مقابل النقر التي في أحسن الأحوال تهوّل الأخبار. تشير الإعلانات المبرمجة إلى استخدام البرمجيات لشراء وبيع المساحات الإعلانية على الانترنت. وتسمح هذه العملية للشركات بشراء مساحة إعلانية دون الحاجة إلى تدخل بشري.
الإعلانات المبرمجة جذابة لأن محركات البحث تتبع تاريخ البحث للمستخدمين، ما يساعد على استهداف الأشخاص بالإعلانات. على سبيل المثال، إذا كان شخص ما يتطلع لشراء سيارة، فإن محرك البحث يسجلها ويمكنه توجيه إعلانات حول السيارات إلى الشخص. على العكس من ذلك، نظراً لأن النظام يعمل بشكل آلي ويعتمد على الخوارزميات، فإن الشركة التي تشري المساحة الإعلانية، قد لا تعرف أين ينتهي إعلانها. ويمكن أن يُفسّر هذا الواقع لماذا في عام 2019، انتهى ما قيمته 235 مليون دولار من الإعلانات على مواقع تروّج للمعلومات المضللة.
والآن ننتقل إلى زيادة مروّجي الأخبار غير التقليدية: هذه هي مصدر الأخبار لقرابة ثلثي الأفراد في الولايات المتحدة والمكسيك وماليزيا والأرجنتين. وقد أدت منصات وسائل التواصل الاجتماعي إلى إزاحة وسائل الإعلام التقليدية إلى حد كبير. وفي هذا الصدد، حدد مؤشر التضليل العالمي (GDI) مواقع بريتبارت (Breitbart)، وذا ويسترن جورنال (The Western Journal)، وذا إيبوك تايمز (The Epoch Times)، وآر تي (RT.com)، وسبوتنك نيوز (Sputnik)، بأنها تجذب أكثر من 115 مليون زيارة في الشهر، ولكن وفقاً للمؤشر، فإن هذه الكيانات تحمل أكبر قدر من المعلومات المضللة المتعلقة بالانتخابات.
التربح من المعلومات المضللة مشكلة لا تزال تفتقر إلى دراسات كافية. وإذا كان المجتمع جادًا في العودة إلى الكَيَاسة والانسجام، فيجب محاسبة أولئك الذين يروّجون للتضليل لتحقيق مكاسب مالية، حيث تُشكّل المعلومات المضلِّلة خطرًا جليًا وقائمًا على المجتمع المعاصر، كما شوهد بشكل أكثر وضوحًا في 6 يناير عندما اقتحم حشد من الغوغاء مبنى الكابيتول الأمريكي؛ معتقدين أنهم يمنعون سرقة الانتخابات.
وهنا يمكن أن تساعد الخبرة في تأهيل المتطرفين، وحجب المنصات المسيئة، وغير ذلك من أدوات المساءلة؛ لقد نجحت في تقويض انتشار الدعاية الإرهابية، وينبغي استكشافها عاجلًا وليس آجلًا، ونحن نحاول احتواء المعلومات المضللة المنتشرة لتحقيق مكاسب مالية.
* عضو المجلس الاستشاري بالمعهد الدولي للعدالة وسيادة القانون، وأستاذ مساعد في جامعة تشارلز ستورت بأستراليا.
** يسعى موقعُ «عين أوروبية على التطرف» إلى نشرِ وجهاتِ نظرٍ مختلفة، لكنه لا يؤيد بالضرورة الآراء التي يُعبِّر عنها الكتّابُ المساهمون، والآراء الواردة في هذا المقال تُعبِّر عن وجهةِ نظر الكاتب فقط.