أصدر دامون بيري، من المركز الدولي لدراسة التطرف التابع لقسم دراسات الحرب في “كينجز كوليدج” في لندن، ورقة بحثية جديدة تتناول موضوع “الحركة الإسلامية في بريطانيا“. ترسم الورقة خريطة للشبكات -المنظمات والأفراد- التي تتألف منها هذه الحركة، وتسلط الضوء على معتقداتها ومبتغاها.
أصول الإسلاموية في بريطانيا
“الحركة الإسلامية” هو الاسم الذي يطلقه العديد من المشاركين على أنفسهم، كما يفعل مُنظّروهم في الخارج؛ مثل المرشد الروحي لجماعة الإخوان المسلمين في قطر، يوسف القرضاوي، على الرغم من أن مصطلح “إسلاموي” أصبح شائع الاستخدام، حسبما يشير بيري. الفرعان الرئيسيان للحركة في بريطانيا هما الجماعة الإسلامية التي تنبع من شبه القارة الهندية بقيادة أبو الأعلى المودودي، وجماعة الإخوان المسلمين التي أسَّسها حسن البنا في مصر عام 1928. من هذه البدايات تطورت في أوائل الستينيات في بريطانيا (وفي وقتٍ سابق في أماكن أخرى في أوروبا) الجماعات لتحقق “استقلالية عملياتية” كبيرة، حسبما يرى بيري، وهذا دعا البعض لتسميتهم “الإخوان المسلمين الجدد“.
يقدم بيري قائمة واسعة من الجماعات التي تُشكّل الحركة الإسلامية أو الحركة الإسلاموية أو جماعة الإخوان المسلمين الجديدة في بريطانيا، بدءًا من جمعية الطلاب المسلمين التي تأسست عام 1961 والمجلس الإسلامي في أوروبا في عام 1973 إلى منظمة المعونة الإسلامية (1985) والمنتدى الإسلامي لأوروبا ((1988، والأهم من ذلك، المجلس الإسلامي لبريطانيا، والرابطة الإسلامية لبريطانيا، واللجنة الإسلامية لحقوق الإنسان في عام 1997.
ولم يتوقف انتشار هذه الجماعات. ومن بين الجماعات الأحدث عهدًا، تعتبر منظمة “كيج”، التي تأسست في عام 2003 كمنظمة مناصرة للإرهابيين الجهاديين المسجونين في جوانتانامو وأماكن أخرى، من بين أبرزها. وفي بريطانيا، باتت منظمة كيج معروفة لدى عامة الناس بعد أن أعلن مدير أبحاثها عاصم قرشي في فبراير 2015 أن محمد إموازي؛ عنصر تنظيم “داعش” الذي ظهر في العديد من مقاطع الفيديو التي تشمل قطع الرؤوس، والذي أطلقت عليه وسائل الإعلام الشعبية اسم “الجهادي جون”، كان “شابًا جميلًا“. وكان هذا في معرض إجابة قرشي عن سؤال حول علاقة منظمة كيج بإموازي.
هناك مؤسسة إسلاموية مهمة أخرى تأسست في بريطانيا، وهي قناة الإسلام (في عام 2004)، التي تتمتع بانتشارٍ أوسع إلى حد ما في المجتمع المسلم البريطاني، التي يشاهدها بانتظام أكثر من نصف المسلمين في الدولة، وفقاً لمسح أجرته الحكومة البريطانية في عام 2008.
الأيديولوجيا
يقدم بيري نظرة شاملة عن أيديولوجية الحركة. ويقول إن التعاون فيما بين جماعات الحركة الإسلامية “يستند إلى طريقة مشتركة مستنيرة دينيًا لرؤية العالم وتقييمه”، لا سيما كيفية التواصل مع المسلمين غير الإسلامويين ومع غير المسلمين أيضاً. “إنهم ينظرون إلى أنفسهم على أنهم طليعة كيان جماعي فريد، هو الأمة، التي تمتلك الفهم الصحيح للإسلام، ومكلفة بنقل التعاليم الحقيقية للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، ومعالجة الفهم غير الصحيح للإسلام لدى المسلمين وغير المسلمين على حد سواء. وبشكلٍ جماعي، يطمح ناشطو الحركة الإسلامية إلى إحداث تحوّل شامل داخل الهياكل الاجتماعية والسياسية السائدة، تحوّل يقوم على الإسلام، في كل من بريطانيا والعالم”.
من السمات الجديرة بالملاحظة للحركة الإسلامية في بريطانيا أنها “تشاركية”: فهي تؤمن باستخدام النظام كما هو قائم حاليًا -بما في ذلك الانتخابات- لتغيير النظام. وهذا على النقيض من الجهاديين، الذين يدعون إلى العنف لفرض الإسلام، وبعض المتطرفين الإسلاميين غير العنيفين، الذين يتجنبون أي صلة بالديمقراطية تمامًا.
فالحركة منقسمة ظاهرياً حول مسألة الدولة الإسلامية، على الرغم من أنه قد يكون من الأنسب القول متحفظة أو غامضة: إنها لا تحدد كيف أو متى يفترض أن تقوم دولة إسلامية في بريطانيا، ولكن منطق “النهضة” الإسلامية التي تدعو إليها الجماعات كافة يقود إلى الاتجاه نفسه. وقد أوضح القرضاوي أن الدعوة هي مفتاح النصر الإسلامي في الغرب: “الإسلام سيعود إلى أوروبا فاتحًا ومنتصرًا بعد طرده منها مرتين”، في إشارة إلى انتكاسة الفتح العربي لإسبانيا، والتراجع اللاحق عن الفتح التركي لأجزاء كبيرة من شرق ووسط أوروبا. “في هذه المرة لن يكون الفتح بالسيف بل بالدعوة والفكر”.
ومن الأمور المثيرة للاهتمام التي يشرحها بيري الطريقة التي تتم بها حملات الدعوة: “ترتكز على الشريعة الإسلامية”، لتنشر بوسائل مموهة إلى حد ما المعايير الثقافية والاجتماعية التي تتسق مع القيم الإسلامية. والجدير بالذكر أن “أسبوع التوعية بالإسلام”، الذي ينظر إليه البريطانيون على أنه احتفال بالتسامح والتعددية الثقافية، يستخدمه الإسلاميون لنشر عقليتهم التي تستبعد الآخر، التي تفهم الإسلام على أنه لا ينفصل عن السياسة، والغرض من السياسة هو فرض الإسلام على المجتمع بأسره. وغنيّ عن القول إن نسختهم من الإسلام لا توفر مساحة كبيرة للأقليات الدينية، بينما توفر وضعًا مهينًا للنساء.
فيما يتعلق بقضية الجهاد المركزية، التي كانت تعني في التاريخ الإسلامي بشكل عام استخدام القوة العسكرية لنشر العقيدة، تميل هذه الجماعات إلى إعادة تعريف الدعوة والأعمال الأخرى التي يمارسونها لتعزيزِ أَسْلَمة المجتمع على أنها جهاد، وهي كلمة تعني بعد كل شيء حرفياً “السعي”. ولكن هذا لا يعني أن معارضتهم للعنف هي معارضة كلية، أو حتى قائمة على المبادئ، بل حسب الظروف وحتى تلك تنطوي على استثناءات، كما سيتم شرحه أدناه.
كيف أصبحت الحركة الإسلامية منظمة؟
يحدد بيري الطريقة التي كانت تُركَّز عليها هذه الحركة في الثمانينيات والتسعينيات: لقد تأسست منظمات كثيرة على أساسٍ عرقي أو على أساس قطاعات أخرى. لكنها راحت، تدريجيًا، تنضوي تحت راية الإيمان، وبدأت تمارس الضغط على الدولة والمجتمع ككتلة موحدة. والملاحظ استخدام هذه الجماعات أحداث السياسة الخارجية كوسيلة للتعبئة والتنظيم.
شكَّلَت فتوى آية الله الخميني؛ المرشد الأعلى لإيران آنذاك، في عام 1989، التي دعا فيها إلى قتل سلمان رشدي لأنه لم يُعجب بروايته «الآيات الشيطانية»، حدثًا رئيسيًا. وقد أدّت عمليات حرق الكتب التي دبّرها الإسلاميون في شوارع بريطانيا، وأعمال الشغب التي قام بها المسلمون إلى تواصل العديد من هذه الجماعات من أجل قضية مشتركة للمرة الأولى، دعمًا للخميني، الذي كانت جمهوريته الإسلامية أقل تميزًا بالطائفية في ذلك الوقت، مما هي عليه الآن بعد الحرب السورية. بعد ذلك بوقتٍ قصير، استغل الإسلامويون المعارضة لحرب الخليج ودعم العناصر الجهادية في البوسنة، التي جعلت من تنظيم القاعدة ظاهرة عالمية حقًا، لنشر أيديولوجيتهم تحت ذرائع إنسانية.
عوامل مساعدة على طول الطريق
بالإضافة إلى الانتهازية وبراعتهم التنظيمية، كان لدى الإسلاميين في بريطانيا، عاملان مساعدان مهمَّان؛ أحدهما محلي، وآخر خارجي. على الصعيد المحلي، كان لقرار الحكومة بإشراك المجلس الإسلامي لبريطانيا باعتباره وسيطًا رسميًا للربط بين المسلمين البريطانيين أهمية كبيرة: لقد خلق حوافز منحرفة للأشخاص الذين يرغبون في التأثير على التغيير للقيام بذلك من خلال هذا المجلس، كما أنه جعل أيديولوجيته -التي لا يمكن أن تدعي أي شيء من قبيل أنها تمثل أغلبية المسلمين البريطانيين- تبدو سائدة ومشروعة. ورغم أن لجنة التنسيق للمنظمات الإسلامية، وهي هيئة جامعة تضم الرابطة الإسلامية لبريطانيا، واللجنة الإسلامية لحقوق الإنسان، وبعض المنظمات الأخرى، “لم تحظ باهتمام كبير في وسائل الإعلام أو مركز الأبحاث أو الأدبيات الأكاديمية”، فإن المجلس الإسلامي لبريطانيا احتل مركز الصدارة بين الشبكة الإسلاموية في بريطانيا.
على الصعيد الخارجي، أسهمت بعض الدول في تمكين الاتجاه الإسلاموي في بريطانيا، لا سيما قطر وتركيا وإيران، والأخيرة من خلال تمويل المساجد والجماعات مثل اللجنة الإسلامية لحقوق الإنسان. ويُحذر بيري من مؤسسة نداء، التي تُعتبر ظاهريًا مؤسسة خيرية تعليمية، تمولها قطر، ولديها شبكة عميقة من الصلات داخل الحركة الإسلامية، لا تقتصر على بريطانيا فقط. وإنما تمتد صلات مؤسسة نداء إلى طارق رمضان؛ المفكر الإسلامي وحفيد مؤسس جماعة الإخوان المسلمين. وقد رَعَت الحكومة التركية، التي يديرها الرئيس الإسلاموي رجب طيب أردوغان، عددًا من الجماعات في بريطانيا المرتبطة بحركة حماس، الفرع المتشدد بشكل خاص في جماعة الإخوان المسلمين ومقرها في غزة.
كما أن هناك بعض القضايا الأكثر أهمية بالنسبة لبريطانيا في هذا الصدد، خاصة عدم الكفاءة التشريعية للجنة الخيرية، ولكن هذا التحريض الآتي من الخارج يفاقم كل هذه المشكلات.
الطريقة التي يعمل بها الإسلامويون حاليًا
ينهي بيري الورقة التي نحن بصددها بسرد مفصّل لسلسلة من الحملات التي يستخدمها الإسلامويون فيما يمكن تسميته في الأدبيات النظرية السياسية “نقاط تنسيق”؛ أي الفعاليات التي تهدف إلى تحفيز التنسيق بين الجماعات غير المنظمة الحالية، والتي تهدف في نهاية المطاف إلى الثورة وتحقيق الدولة الإسلامية، وإن كان يتم ذلك “بهدوء”.
ويشرح بيري أن “الحركة الإسلامية في بريطانيا تشارك بنشاط في إطلاق وقيادة عدد من الحملات ذات الصلة بتفعيل الإسلام كنظام كامل للحياة وللأمة الإسلامية في بريطانيا وخارجها”. ومن بين هذه القضايا، هناك أربعة تعتبر “الأكثر ديمومة، وتمويلًا، وإثارة للخلاف”، و”تركز على فلسطين، واستراتيجيات الحكومة البريطانية لمكافحة التشدد والتطرف، والإسلاموفوبيا، فضلًا عن التعليم والمشاركة السياسية”.
ربما تكون فلسطين هي أهم هذه القضايا بالنسبة للإسلامويين. تواجه الدولة البريطانية تحديات بسبب مشكلات تتعلق بحفظ النظام العام من هؤلاء الأشخاص عندما يتم تنظيم احتجاجات مناهضة لإسرائيل ومعادية للسامية، وغالبًا ما يتم تنظيم الاحتجاجات بالتعاون مع الجماعات اليسارية المتطرفة مثل “تحالف وقف الحرب”، وهي مجموعة تابعة لحزب العمال الاشتراكي (SWP) عملت بشكل وثيق مع الرابطة الإسلامية في بريطانيا.
والأخطر من ذلك هو المسائل المتعلقة بتمويل الإرهاب، حيث إن مجموعة الجمعيات الخيرية في بريطانيا التي تجمع الأموال لأغراض إنسانية ظاهريًا لغزة إما تُوجه الأموال إلى حركة حماس أو تنظِّمها حماس مباشرة. ومن أبرز هذه المجموعات “اتحاد الخير”؛ وهو مظلة أنشأها القرضاوي وجمعية انتربال (Interpal) التي تهدف لمساعدة الفلسطينيين المحتاجين. الجمعيات الخيرية التابعة لجماعة الإخوان المسلمين غالباً ما تكون على علاقة ببعضها بعضًا ومتداخلة، ويحظى بعضها برعايةٍ من قطر.
الحركة الإسلامية هي عنصر رئيس فيما يسميه البريطانيون لوبي “عرقلة استراتيجية مكافحة التطرف”، كون هذه الاستراتيجية تشكّل الركيزة الرئيسة في سياسة الدولة لمكافحة التطرف. وربما تكون هذه ثاني أهم الحملات الأربع المذكورة أعلاه، وتسعى إلى إقناع المسلمين بأن جهود مكافحة التطرف تمثل اعتداء على عقيدتهم ومجتمعهم. وهذا العنصر من عناصر الحملة التي تقوم بها الحركة الإسلامية يرتبط إلى حد كبير ببعد “كراهية الإسلام”، وهو ما يُزعم أنه حملة ضد كراهية الإسلام، وهي متلازمة اكتسبت نفس دلالة العنصرية في كثير من الأوساط. ويقول اتحاد الجمعيات الإسلامية الطلابية؛ بوصفه أحد مجموعات الحركة، “إن كراهية الإسلام جزء لا يتجزأ من استراتيجية مكافحة التطرف”.
استخدام الإسلامويون للإسلاموفوبيا كسلاح يعود لقضية سلمان رشدي، وظلوا منذ ذلك الحين يحاولون تعريف الإسلاموفوبيا على أنها أي انتقاد للعقيدة على الإطلاق. هذا المطلب الفعلي لسن قانون لتجريم التجديف -الذي يستحيل تلبيته، وبالتالي سيبقى دائماً قضية تستخدم في التحريض- هو جزء من الجهد العام للحركة الإسلامية لتنفير المسلمين في بريطانيا بإخبارهم بأنهم مضطهدون من قبل دولة ومجتمع معاديين، مما يترك المسلمين معزولين ومُعرّضين للتجنيد من قبل الإسلامويين، الذين يمكن أن يقدموا أنفسهم على أنهم نظام الدعم الذي لا توفره الدولة.
وهكذا، يمكن القول إن شروحات بيري لانخراط الحركة الإسلامية في النظام السياسي، لا سيما على المستوى المحلي حيث تركز طاقاتها، ومحاولتها استمالة أقسام على الأقل من النظام التعليمي -ولعل حالة “حصان طروادة” هي الأسوأ سمعة في بريطانيا في هذا الصدد- تثير القلق.
الخلاصة
وختامًا، تعرّضت بريطانيا لسلسلةٍ من الهجمات الإرهابية من الإسلامويين في عام 2017 عندما كان تنظيم داعش في ذروة عنفوانه. وفي السنوات التي تلَت ذلك، توارى هذا الجانب الأكثر وضوحًا من التحدي الإسلاموي. لكن التحدي لم ينته، بل إن الإرهاب سيعود، قريبًا وبشكل أسوأ عما كان عليه، ما لم تُتخذ تدابير للحد من انتشار الحركة الإسلامية ونجاحها في تشكيل البيئة بوسائل غير عنيفة.