بقلم: رشاد علي
يعد التجديف[1] موضوعًا ساخنًا وملتهبًا في هذه الأيام، وليس مجرد إرث تاريخي عفا عليه الزمن؛ فقد ألغت أيرلندا مؤخرًا حظرها عن التجديف في كتب قانون الجمهورية. كما أن النمسا، الدولة ذات السيادة، حافظت على قوانين التجديف الخاصة بها. بينما احتفظت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بحقها في هذه القوانين من أجل الحفاظ على الانسجام الاجتماعي.
إلا أن هنالك دولًا تتعامل بشكل تسلطي خاطئ مع قوانين التجديف، مثل باكستان. قوانين التجديف في هذا البلد لا تُخرِج “المجرمين” عن القانون فحسب، بل تؤدي بهم أيضًا إلى عقوبة الإعدام في بعض الأحيان. نبعت الضجة الحالية بعد مقتل سلمان تيسير، حاكم البنجاب عام 2011، الذي انتقد قوانين التجديف علانية، ودعا إلى العفو عن المسيحية “آسيا بيبي” المحكوم عليها بالإعدام بتهمة التجديف. بسبب موقفه هذا، قام أحد حراسه الشخصيين، ممتاز قادري، بإطلاق النار عليه. وبعد هذه الحادثة، أدانت المحكمة قادري بتهمة القتل، وأعدمته في شباط/فبراير 2016. وفي نهاية تشرين الأول/أكتوبر 2018، ألغت المحكمة العليا إدانة “آسيا بيبي”.
إلا أن ردود الفعل على حكم المحكمة –من قبل مختلف الجماعات بما فيها الشخصيات الدينية العليا- كانت متطرفة بشكل مؤلم؛ فقد دعا الناس إلى التمرد ضد المحاكم والجيش والحكومة، وضد دولة باكستان ذاتها. كما ادّعى البعض أن ما حصل هو “نوع من المؤامرة الأجنبية الخارجية الهادفة إلى تقويض الإسلام، بالتعاون من الحكومة والقضاة الذين أخذوا أوامرهم من المتآمرين”.
وقد أدت المظاهرات والنداءات إلى الإضراب، وأدى إغلاق مظاهر الحياة في البلاد إلى حدوث اضطرابات في جميع المدن الكبرى. وهذا ما دفع رئيس الوزراء الباكستاني، عمران خان، إلى الخروج وانتقاد التمرد بقوة، قائلًا إن هذه الإجراءات لن تتواصل دون تحدٍ حكومي. وبالطبع، أشادت بعض الأوساط بموقف خان، إلا أن الآخرين كانوا أقل دعمًا لمواقفه، مشيرين إلى أن خان نفسه أغلق المدن أثناء حملاته الانتخابية، وهدد بإغلاق المدن الكبرى. في الواقع، عمل خان على ربط نفسه بالمتطرفين، واستخدم قضايا مثل قوانين التجديف كجزء من برنامجه الانتخابي الخاص. واليوم، أفادت تقرير أن أوساطًا باكستانية تعتبره كافرًا ومعاديًا للرسول، أو على الأقل شخصًا يتسامح مع إهانات الرسول والإسلام.
أما القضاة الذين أصدروا هذا الحكم، فقد اعتبرتهم جماعات طائفية مختلفة كفارًا وخارجين عن الإسلام، بل وظهر خطاب عنيف خطير جدًا، يعتبر أن قتل هؤلاء القضاة “واجب إلزامي”، لا سيما من قبل تجمعات سياسية إسلاموية مثل حزب “تحريك – لبيك” الباكستاني. وقد حصل هذا برغم أن القضاة لم يرفضوا أو يشككوا في الطبيعة المتطرفة لمثل هذه العقوبات، كما لم يدعوا إلى عدم تطبيق أحكام قوانين التجديف، بل وجدوا “آسيا” غير مذنبة فحسب. والآن، وبسبب هذه الفوضى، تواجه باكستان تهديدات حقيقية للسلطة القضائية بأسرها، وسيادة القانون، ومنظومة إنقاذ القانون في البلاد.
في الحقيقة، هذه القوانين لم تكن، وينبغي ألا تكون، قاعدة السلوك المعيارية في البلاد. فقد أشار الكثيرون إلى أن المستعمرين البريطانيين هم من جلبوا هذه القوانين إلى البلاد بغرض تنظيم أمور رعاياهم. إلا أن البند الأكثر إثارة للجدل، جرى تقديمه في ظل حكم “ضياء” الدكتاتوري عام 1986، الذي أضاف عقوبة الإعدام لأي شخص يحاول إهانة نبي الإسلام.
لكن هذه القضية ليست قضية قانون عام، وليست قضية أحكام شرعية أو دينية بحد ذاتها. نحن نعرف أن غالبية المسلمين الباكستانيين ينتمون إلى المذهب الحنفي، وهي المدرسة التي لا تؤمن بالقوانين الثابتة لعقوبات الدولة الخاصة بالتجديف. في الحقيقة، نجد تأييد هكذا موقف إزاء التجديف في جميع المدارس السنية تقريبًا، بما فيها السلفية، والوهابية، والحنبلية المتشددة التي تلتزم حرفيًا بالنصوص الدينية.
وبالتالي، إن لم تكن هذه قضية دينية بحد ذاتها، فما الذي نتعامل معه؟ إنها نرجسية الاختلافات الصغيرة. إن هذه الثقافة، التي تغذيها صراعات طائفية في سياق قبلي داخلي، قد ترسخت في فروع الإسلام التي لم تكن قائمة على أيديولوجية متشددة، ولم تكن تعتبر متطرفة من الناحية التقليدية على أقل تقدير.
لقد ساهم المتطرفون المتشددون في باكستان بهذه المواقف من خلال التسلل إلى التيار العام، بينما عمل عمران خان وآخرون على استغلال هذه العوامل من أجل مصالحهم الخاصة. وقد كانت النتيجة ثقافة فرعية تدفع الناس إلى التنافس على “صحة” و”أصالة” و”مصداقية” و”موثوقية” الكيفية التي يتم بها تكريم نبي الإسلام. من المؤسف حقًا أن هذا يجسد سباقًا نحو القاع، يجري فيه التسامح مع القتل، ويتم فيه تبجيل المتطرفين باعتبارهم “قدّيسين وشهداء وعاشقين للرسول”.
تتطلب رحلة العودة من القاع إلى تحولات دينية وسياسية وثقافية، وكذلك مجموعة قوية من المبادئ التأسيسية، تشمل احترام حقوق الناس في الاحتفاظ بمعتقداتهم الدينية. ويجب أن يُنظر إلى هذه المعتقدات على أنها جزء من حقوق الإنسان الأساسية، القائمة على الحق في التعبير عن الرأي دون خوف من الاضطهاد. وهذا ينطبق بالطبع على جميع الشعوب والأقليات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] التجديف: هو أي فعل إهانة أو إظهار احتقار أو عدم تقديس تجاه ألوهية، أو أشياء مقدسة، أو تجاه شيء يعتبر مقدسًا أو غير قابل للانتهاك – المترجم
النص كاملًا متوفر باللغة الإنجليزية هنا