لطالما نُظر إلى الشرق الأوسط باعتباره أحدَ المناطق التي يمكن فهمها، على أفضل وجهٍ، من خلال منظور المدرسة الواقعية التي تنظر إلى النظم الدولية والإقليمية؛ باعتبارها تعيش في حالة حرب “لا مناص منها”، بين دولها الرئيسة (1).
غير أن هذا الأمر تغيّر، إلى حدٍّ ما، في أعقاب الربيع العربي، عندما بدا أن الدور الذي تلعبه الأفكار والأعراف قد أثّر على السياسة في منطقة الشرق الأوسط، بل وحتى على تطور النظام الإقليمي (2). وأصبح هذا التصور سائدًا لفترةٍ من الزمن، لأول مرة في التاريخ الحديث، لدرجة أن موجة من الديمقراطية الشعبية قد وصلت إلى شواطئ الشرق المتوسط.
لكن عقب مرور ثماني سنواتٍ، وفي ظلِّ الحروب الأهلية والصراعات الإقليمية، أضحى أيّ دورٍ تلعبه الأفكار أكثر تدميرًا؛ الخطاب الطائفي والمتطرف خرّب دولًا قومية، في ظل سعي إيران لتأسيس نظام إمبريالي عبر “الهلال الخصيب”؛ مستغلة في ذلك الأقلِّيّات الشيعية (أو شبه الشيعية)، وفي الوقت الذي تسعى فيه جماعاتٌ إرهابية مثل “داعش” و”القاعدة” لإقامة الخلافة.
سعت كلتا النسختين من التطرف لتفكيك الدولة القومية، وقمع الجماعات العرقية والدينية المتنوعة باسم ولاء ديني أعلى. وهذا أدى بدوره إلى تعقيد أيّ جهود تبذل لإحلال السلام في الشرق الأوسط. ونظرًا لأن الانتصارات العسكرية لا تكفي لحسم هذه الصراعات المختلفة، يتعين هزيمة الأفكار والأيديولوجيات المتطرفة أيضًا.
الدور المنظور/ المتصور للإمارات
في خضم هذا السياق الفوضوي، أدركت دولة الإمارات العربية المتحدة أهمية نشر الآراء المعتدلة لمكافحة الخطاب الاستقطابي للجماعات المتطرفة؛ بغية منعها من تجنيد الأشخاص لارتكاب فظاعات باسم الإسلام، ومنع إيران من الاستغلال السياسي للأقليات الشيعية.
رفض التطرف، وتعزيز التسامح، هما محور السياسة الإماراتية في الشرق الأوسط. وقد أكدّ الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان؛ الأب المؤسس لدولة الإمارات، في مقابلة له في عام 2002 على ما يلي: “المسلمون يقفون في وجه أي شخص مسلم يحاول ارتكاب أي عمل إرهابي ضد إخوته في الإنسانية” (3).
وشدد الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان، وزير التسامح، في مارس 2019، على الاستمرار على نهج الشيخ زايد، في أن التسامح يشكل “جزءًا من القوة الناعمة لدولتنا”(4).
وعلى هذا الأساس، شجعت الإمارات مراكز دراسات عدّة تركز على تعزيز التسامح في الدول العربية، على رأسها “منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة”، ومركز “هداية”.
يركز المنتدى تحديدًا على تحقيق أهدافٍ عدّة: إحياء ثقافة التعايش في المجتمعات الإسلامية، وقيمها الأساسية، إضافة إلى تصحيح الأفكار الخاطئة التي يروج لها المتطرفون، باستخدام الوسائل العلمية.
ومن بين أبرز أنشطة المنتدى، تنظيم مؤتمر مشترك مع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، في المملكة المغربية، في عام 2016، تمخض عن اتفاقٍ مهمٍّ وتاريخيّ، عُرف باسم “إعلان مراكش”.
يدافع الإعلان عن حقوق الأقليات الدينية، في الدول ذات الأغلبية المسلمة. علاوة على ذلك، أكد الإعلان أن عام 2016 يُمثّل “الذكرى السنوية لمرور 1400 عام على ميثاق المدينة؛ عقد دستوري بين النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، وأهل المدينة، يكفل الحرية الدينية للجميع، بغض النظر عن المعتقد”.
وتجدر الإشارة إلى أن المؤتمر حظي بمشاركةٍ كبيرة، حيث شارك المئات من العلماء والمفكرين المسلمين، من أكثر من 120 دولة، إلى جانب ممثلين عن المنظمات الإسلامية والدولية، وقادة من مختلف الجماعات الدينية والقوميات في المؤتمر وإصدار الإعلان.
كما واصل المنتدى جهود نشر السلام، بين أتباع الجماعات الدينية المختلفة، كما هو واضح في رعايته لمؤتمر دولي في واشنطن العاصمة، في فبراير 2018، من أجل نشر ثقافة السلام. وشارك في المؤتمر مئاتٌ من القساوسة المسيحيين، والحاخامات اليهود، والأئمة المسلمين. وفي ديسمبر، عقد المنتدى النسخة الخامسة من المؤتمر في أبوظبي للغرض ذاته، وهو نشر السلام في المنطقة وجميع أرجاء العالم (5).
ترجمة الأقوال إلى أفعال
يمثّل هذا الإعلان أحد الملامح المتعددة للسياسة الإماراتية في مواجهة التطرف والإرهاب لجماعاتٍ؛ مثل “القاعدة”، و”داعش”.
وفي هذا الصدد، تنبغي الإشارة إلى أن الإمارات شاركت بفعالية في التحالف العالمي لدحر “داعش” في العراق وسوريا، بالإضافة إلى مشاركتها في مكافحة تنظيم “القاعدة في شبه الجزيرة العربية” في اليمن.
وفي الفترة الأخيرة، استضافت أبوظبي البابا فرانسيس في 5 فبراير 2019، وهي أول رحلة على الإطلاق لزعيم الكنيسة الكاثوليكية الرومانية إلى شبه الجزيرة العربية، مسقط رأس الإسلام. وقد التقى البابا بأعضاء الجالية الكاثوليكية في مدينة زايد الرياضية. وقد تمّ ترتيب الزيارة مسبقًا، بحيث تتزامن مع المؤتمر العالمي للأخوة الإنسانية، وهو حوار بين قادة الديانات الإسلامية، والمسيحية، واليهودية، والهندوسية، والبوذية، والسيخية، ركَّز على تعزيز التعايش السلمي بين المجتمعات (6).
وخلال الزيارة ذاتها، أعلن البابا فرانسيس، والإمام الأكبر شيخ الأزهر، أحمد الطيب، إعلان أبوظبي؛ “وثيقة الأخوة الإنسانية”، التي أكدت جُملةَ أمورٍ؛ من بينها ضرورة “الكفّ عن استخدام اسم الله لتبرير أعمال القتل والتشريد والإرهاب والبطش”. ومن جهته، حثّ الطيب دولَ المنطقة على النظر إلى “المسيحيين كشركاء في الوطن”، واعتبارهم مواطنين متساوين، وليسوا “أقليات” (7).
إعلان مراكش
أثنى البابا فرانسيس على الدور الإماراتي البنّاء، حيث أشاد بالمؤتمر الدولي الذي نظمه المنتدى الذي انعقد في مراكش، في عام 2016. وقد عبّر البابا عن هذه التعليقات خلال زيارته لمسجد الحسن في الرباط، مع الملك المغربي محمد السادس، في إطار زيارته التاريخية للمغرب.
وأشار البابا فرانسيس على وجه التحديد إلى أن “إعلان مراكش دعا إلى التغلب على مفهوم الأقلية الدينية من أجل تعزيز أهمية المواطنة، والاعتراف بقيمة الإنسان، الذي ينبغي أن يكون محور النظم القانونية كافة” (8).
وهكذا، يكشف بيان البابا والجهود الإماراتية عن تقاسم وجهة النظر ذاتها تجاه قضية الأقليات في الشرق الأوسط؛ قضية يجب حلُّها في إطار المساواة في المواطنة بين جميع الطوائف، وليس الهويات فوق الوطنية أو الطائفية التي تقود إلى تخريب الدولة أو قمع مجموعة من جانب أخرى.
وخِتامًا، التصدي للخطاب المتطرف وتعزيز التعايش بين أتباع الديانات المختلفة ضرورة بديهية للمجتمعات العربية التي تعاني منذ سنوات من الصراعات الأهلية والدمار.
______________________________
*رئيس التحرير التنفيذي لدورية اتجاهات الأحداث، ورئيس وحدة الدراسات الأمنية في مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة في أبوظبي.
[1] Bastien G., Realists and the Chaos of the Middle-East, Medium, March 1, 2017, accessible at: https://bit.ly/2OI3cPC
[2] Nizar Messari, On The Importance Of Ideas, Identities And Values In The Mena Region, Methodology And Concept Papers, no. 2, December 2016, (p. 3), accessible at: https://bit.ly/2WJwgsO
[3] Tolerance And Coexistence Achievements, accessible at: https://bit.ly/2TWF0tZ
[4] Anjana Sankar, Tolerance is UAE’s soft power: Sheikh Nahyan, Khaleej Times, March 12, 2019, accessible at: https://bit.ly/2UvXKVt
[5] Peace forum to set up ‘alliance of virtues’ on Islam, Gulf News, accessible at: https://gulfnews.com/going-out/society/peace-forum-to-set-up-alliance-of-virtues-on-islam-1.2293437
[6] Kristin Smith Diwan, The Pope’s Visit and Emirati Soft Power, The Arab Gulf State Institute in Washington, February 9, 2019, accessible at: https://bit.ly/2YN1YHB
[7] James J. Zogby, Why the events surrounding Pope Francis’ UAE visit were so important, Gulf News, February 10, 2019, accessible at: https://bit.ly/2IdanOM
[8] Pope Francis Praises Marrakesh Declaration, Emirates News Agency, April 1, 2019, accessible at: http://wam.ae/en/details/1395302752313