رسلان طراد*
ربط الهجوم الذي استهدف فيينا في 2 نوفمبر بين مصائر ثلاثة أشخاص من أصل ألباني: الإرهابي كوجتيم فيزولاي، والضحية الأولى نجيب فرينيزي، ودورونتينا ميروسي؛ وهي ضابطة أمن شاركت في العملية ضد الإرهابيين. كما أن الأحداث التي وقعت في النمسا كان لها صدى درامي في ألبانيا وكوسوفو، وأثارت الكثير من اهتمام وسائل الإعلام. ولكلا الدولتين عدة مئات من مواطنيهما الذين سافروا إلى سوريا للانضمام إلى تنظيم القاعدة أو داعش. وهم يشكلون عناصر حيوية لهذه الجماعات لدرجة أنهم شكلوا كتائب وطنية منفصلة، حيث تتألف صفوفها وقياداتها من مواطنين من ألبانيا وكوسوفا. والجدير بالذكر أن فيزولاي كان قد فشل في محاولته الانضمام إلى إحدى هذه الوحدات القتالية.
فيينا وداعش في أوروبا
يسكن فيينا عشراتُ الآلاف من الألبان الذين أُجبروا على العيش خارج بلادهم بسبب سوء الظروف المعيشية. وعندما بدأ فيزولاي هجومه على المارة في وسط فيينا، كانت ضحيته الأولى نجيب فرينيزي، الذي خرج من مطعم قريب للتدخين. كان يبلغ من العمر 21 عامًا فقط، من شمال مقدونيا، ولكنه يعيش ويدرس في النمسا. وضمت قوة الشرطة التي وصلت مكان الحادث في غضون دقائق دورونتينا ميروسي من كوسوفو، التي يشغل عمها منصب ممثل كوسوفو في ألمانيا. ويعتبر الثلاثة النمسا موطنَهم، وكذلك الرجال الثلاثة الذين هرعوا إلى خط المواجهة لمساعدة الجرحى، اثنان من أصل تركي وفلسطيني واحد. وقدموا الإسعافات الأولية لضابط شرطة مصاب بجروح خطيرة وامرأة كانت ضحية لإطلاق نار عشوائي أثناء الهجوم.
العاصمة النمساوية هي آخر هدف في سلسلةِ الهجمات الإرهابية التي شارك فيها مقاتلو داعش في الأشهر الأخيرة. وقد أعلن التنظيم مسؤوليته عن ذلك، معترفًا بفيزولاي بوصفه عضوًا فيه. هذه الحالة الألبانية لا تخلو من مغزى، وتثبت النظريات التي طالما شاركها خبراء الأمن. أولًا، داعش لم يُهزم بعد، حيث تمكنت قيادتُه من الوصول إلى المتعاطفين معه في جميع أنحاء العالم. ثانيًا، قضية فيزولاي هي مثال آخر على شخص مُنع من الانضمام إلى صفوف داعش -في هذه الحالة من قبل تركيا- واختار تنفيذ هجوم في البلد الذي وجد نفسه “محاصرًا” فيه. وكانت الدعوة إلى القيام بذلك من قبل قادة داعش، حتى قبل مقتل “الخليفة” أبو بكر البغدادي، واضحة.
وبالنظر إلى أن مئات المسلحين في التنظيم المتطرف ينحدرون من البلقان وفرنسا، يجعل الوضع أكثر خطورة. الشرطة الفرنسية تدرج أكثر من 4,000 شخص على صلة بالجماعات المتطرفة أو الدعاة. وبشكلٍ عام، لم ينتبه السياسيون في أوروبا منذ عام 2019 إلى الإشارات المقلقة لعودة داعش. ومثل هذه الإشارات أضحَت أقوى في الأشهر القليلة الماضية.
داعش في العالم الأوسع
على بعد 6,000 كيلومتر شرق فيينا، في كابول، تكشّفت أحداث مأساوية أخرى. قبيل ساعات من الهجوم الذي استهدف النمسا، شهدت العاصمة الأفغانية هجومًا إرهابيًا مزدوجًا منظمًا بشكلٍ جيد. أولًا، أدَّى انفجار وقع في وقتٍ مبكر من الصباح في أحد أجزاء المدينة إلى إصابة مدنيين. وفي وقتٍ لاحق، دخل مسلحون بالمواد المتفجرة والأسلحة الثقيلة حرم جامعة كابول، وفتحوا النار على الطلاب والموظفين. وتحصَّن الإرهابيون في المدرسة، بينما فرّ الطلاب بصعوبة، حتى أن بعضهم قفز من نوافذ الفصول الدراسية. وقتل 22 شخصًا معظمهم من الطلاب الذين تتراوح أعمارهم بين 20 و24 عامًا بدمٍ بارد. وكان 16 منهم في فصلٍ واحد، ونشر معلمهم صورًا لبعضهم على شبكات التواصل الاجتماعي. ووقع الهجوم بعد أيامٍ من هجوم إرهابي على مركز تعليمي في المدينة.
في دولةٍ يشكّل فيها العنف والحرب جزءًا من الحياة، فإن الالتحاق بالجامعة يعتبر عملًا من أعمال مقاومة التطرف. الشباب الذين قرروا البقاء في بلدهم يعتبرون الجيل القادم من السياسيين والحكام والمهندسين. لقد كانت جامعة كابول تعج بالطلاب وقت الهجوم، حيث أصيب أكثر من خمسين شخصًا. واستمر حصار قوات الأمن للحرم ساعات عدة، حيث فجّر بعض المهاجمين عبوات ناسفة. لقد كان الوضع رهيبًا لدرجة أن العربات المدرعة التابعة لقوات التحالف هرعت للإنقاذ. وقبل وقتٍ قصير من تلقي العالم أول خبر من فيينا، تعرّضت كابول لواحدة من أخطر الهجمات الدموية على المدنيين منذ وقتٍ طويل. أعلن داعش مسؤوليته عن الهجوم، وسرعان ما كشفت التفاصيل عن عملية قامت بها فرق ترتدي زيًا مطابقًا لما يُسمّى “وحدات النخبة” التابعة لداعش، التي اشتهرت بعد هجمات باريس عام 2015، ما يعني وجود درجة عالية مماثلة من التخطيط والتدريب العسكري.
غير أن المأساة لا تتوقف عند هذا الحد، بل تستمر على بعد 7,000 كيلومتر جنوب غرب كابول، في موزمبيق. في 5 أغسطس، شنّ رجال مسلحون يحملون أعلام داعش هجومًا واسع النطاق عن طريق البحر والبر على ميناء موكيمبوا دا برايا الاستراتيجي الذي يقع في شمال موزمبيق. وفي أقلِّ من أسبوع، طردوا القوات الحكومية واستولوا على المدينة بأكملها وسكانها البالغ عددهم أكثر من 30,000 نسمة. وبعد ذلك بقليل، سيطروا على عدة مستوطنات أصغر حول المدينة وأعلنوا أن موكيمبوا دا برايا “عاصمة” “ولاية الخليفة” الجديدة. واتخذ موظفو شركة “توتال” النفطية الفرنسية الموجودة في المنطقة مأوى في قاعدة في الطرف البعيد من الميناء، التي يقوم على حراستها مقاولون أمنيون. ومن المتوقع أن يقع الهجوم التالي، الذي قد يستهدف المنشآت، في أي لحظة.
بعد بضعة أيام، هاجم جهاديون حديقة كوري الشهيرة للحياة البرية على بعد حوالي 60 كيلومتراً من نيامي، عاصمة النيجر، ما أدى إلى مقتل ثمانية أشخاص بينهم ستةُ فرنسيين من موظفي الإغاثة. وفي بداية نوفمبر، أعلن مسؤولون موزمبيقيون أن إرهابيين حاولوا مرتين اقتحام سجن ميزي في مقاطعة كابو دلجادو. وكان المهاجمون من “ولاية إفريقيا الوسطى” التابعة لداعش.
وقد نفّذ مقاتلو ولاية إفريقيا الوسطى الكونغوليين عملية اقتحام كبيرة لسجن في مدينة “بيني”، حيث أطلقوا سراح أكثر من 1,300 سجين، من بينهم مئات الجهاديين في شهر أكتوبر. كما شهدت موزمبيق سلسلةً من عمليات قطع الرؤوس الجماعية في شمال البلاد، وليس هناك ما يشير إلى أن هذه الوحشية ستتوقف في أي وقتٍ قريب.
العودة من العالم الأوسع إلى أوروبا
الهجومان اللذان وقعا في إفريقيا؛ في موزمبيق والنيجر، هما من بين عشرات الأحداث العنيفة التي تشكِّل التوسع الواضح بشكل متزايد في القارة لداعش والقاعدة. بعد أقلِّ من عامين على سقوط “الخلافة” في سوريا والعراق، تحاول الجماعة الإرهابية ترسيخ وجودها في إفريقيا. وهذا سيكون له عواقب بعيدة المدى على المنطقة المتضررة بالفعل من الفقر والفساد وكوفيد-19. وستكون النتائج واضحة في أوروبا، وهو أمر حذّر منه الخبراء منذ عام على الأقل.
على سبيلِ المثال، في الهجوم الأخير الذي تعرّضت له مدينة نيس في فرنسا في 29 أكتوبر، الذي وقع بعد الخلاف حول الرسوم الكاريكاتورية للنبي محمد، كان هناك تونسيون متورطون، وصلوا الأراضي الفرنسية مؤخرًا. وقد تلقوا تدريبًا في معسكرات الجهاديين في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وانتقلوا إلى فرنسا عبر شمال إفريقيا. تحتفظ فرنسا في منطقة الساحل بوحدة عسكرية مهمتها الرئيسة القضاء على تهديد القاعدة وداعش، من خلال مساعدة الحكومات في مالي، وتشاد، والنيجر، وبوركينا فاسو. وحتى الآن، أخفقت هذه العملية في التصدي لهذه الجماعات، وهناك أعداد متزايدة من القوات الأوروبية تذهب إلى إفريقيا في محاولة للمساعدة. فعلى سبيل المثال، عزَّزتِ البرتغال وجودها في مالي وشرق إفريقيا.
الجدير بالذكر وجود ثلاث حركات تمرد على الأقل مدعومة من تنظيمي القاعدة وداعش تتمدد في أجزاء كبيرة من إفريقيا، من صحاري سيناء وبحيرة تشاد والمستوطنات في المحيط الهندي. ويأتي تصاعد العنف وسط رغبة الولايات المتحدة في سحب قواتها من عدة مناطق أثبتت فيها المعدات والقدرات الأمريكية أهميتها الحيوية في الحرب ضد الجماعات الجهادية. ويدرس البيت الأبيض خفض الوجود العسكري الأمريكي في إفريقيا بالرغم من تحذيرات بعض المحللين والمسؤولين من أن هذه الخطوة ستكون خطأ كبيرًا. وتجدر الإشارة إلى أن أعمال العنف في منطقة الساحل تسببت في وفاة 4,825 شخصًا في عام 2019، وهو أعلى مستوى خلال هذا العقد وفقًا لبيانات “مشروع مراقبة الصراع المسلح وبيانات الأحداث“. وحتى شهر أكتوبر، ارتفع عدد الضحايا إلى 5,365 ضحية هذا العام، ما يشير إلى أن عام 2020 أكثر فتكًا مما سبقه بكثير. وقد تسببت قوات الحكومة المحلية، التي تقتل المدنيين بمعدلات مثيرة للقلق في عملياتها لمكافحة الإرهاب، إلى تفاقم إراقة الدماء.
الأمر الذي لا يقل أهمية عن القلق على المصالح الأوروبية والحكومات المحلية هو ميل الجهاديين إلى الهجوم على المدن الرئيسة في الدول الساحلية، حيث النشاط الإرهابي لا يزال عند حده الأدنى حتى وقت قريب. وفي يونيو من هذا العام، هاجم مقاتلو القاعدة موقعًا للجيش على الحدود الشمالية لكوت ديفوار، ما أسفر عن مقتل 14 جنديًا في أول هجوم كبير تشهده الدولة منذ أربع سنوات. وفي الوقت نفسه، قتلت ولاية غرب إفريقيا التابعة لداعش، التي تغطي غرب إفريقيا ومنطقة الساحل، مئات الجنود الحكوميين، بينما ادّعت سيطرتها الفعلية على مناطق نائية في النيجر ومنطقة بورنو الشمالية في نيجيريا. وفي الطرف الآخر من إفريقيا، نفّذت ولاية غرب إفريقيا أول هجومين لها في تنزانيا.
هناك أدلة مقنعة على أن الجماعات الجهادية تنقل قواتها من الشرق الأوسط وأوروبا إلى إفريقيا، والعكس. فمن خلال قنوات التهريب والرشاوى وبسبب عدم وجود سيطرة محلية قوية، تمكّن تنظيم داعش من جلب مقاتلين ذوي خبرة من العراق وأفغانستان وسوريا إلى فروعه الجديدة في شرق وغرب إفريقيا. وهذا يعني زيادة النشاط على الحدود الجنوبية للاتحاد الأوروبي. فلقد انتقل التونسيون الذين دربهم التنظيم من شمال إفريقيا إلى فرنسا لتنفيذ هجمات، وهذا ينبغي أن يقلق السلطات الأمنية في الدول الأوروبية. وأخيرًا، هناك حقيقة أن تنظيم داعش لديه شبكة آخذة في الاتساع في سوريا والعراق، وقد تمكنت من الهجوم بشكل متكرر وعنيف، على الرغم من حملة التحالف الدولي ضد داعش. وقد صعّدت الجماعة من هجماتها في سوريا في الصيف، وحتى قبل هذه الفترة، كان للجهاديين شبكة أكثر وضوحًا منذ بداية هذا العام.
وإلى جانب القوات الكردية، نفّذتِ القوات الأمريكية أكثر من 30 عملية ضد خلايا الجماعة في شرق سوريا في شهر واحد فقط. وفي الوقت نفسه، وبسبب البيروقراطية والنزاعات الجيوسياسية، وعدم القدرة على الحكم، أعلنتِ الإدارة الكردية أنها ستطلق سراح المعتقلين في مخيم الهول في شرق سوريا، حيث يوجد مئات من أعضاء داعش ومؤيديه مع اللاجئين والنازحين. وسيكون لهذا القرار تأثير خطير في مناطق بعيدة جدًا عن سوريا.
المسارات المستقبلية
توجد أدلة على أن الهجمات في أفغانستان وتنزانيا والنمسا كانت منسقة. كما أن حقيقة أن التنظيم يعمل في ثلاث قارات مختلفة بمعدل لا تستطيع قوات الأمن التعامل معه يكشف أيضًا عن مشكلة سياسية. إذ يبدو أن الحكومات قد اطمأنت بعد سقوط المعاقل الرئيسة للتنظيم في سوريا والعراق، تاركة العديد من القضايا دون حل. ولا شك أن الصدامات الجيوسياسية مثل تلك التي وقعت بين باريس وأنقرة تحدث في لحظةٍ غير مناسبة على الإطلاق. ويتعين على البلدين تبادل المعلومات الاستخبارية الحاسمة؛ لأنهما يعانيان من العدو نفسه.
في تركيا؛ مثل فرنسا، نفّذ داعش هجمات عدة منذ عام 2015، أسفرت عن مقتل العشرات. ورغم وجود تحليلات تقول إن الحوادث الأخيرة تتعلق بالخلاف حول صور النبي محمد التي نشرتها مجلة “تشارلي إيبدو”، يعتقد الخبراء أن العمليات كانت مخططة مسبقًا. في خضم هذا كله، تعتبر المنافسة بين أردوغان وماكرون بمنزلة الحافز “للعاصفة العارمة” من الأحداث التي بدأت تتكشف بالفعل. والآن، يتعين على الحكومات أن تعمل معًا لمنع وقوع الهجمات المستقبلية، التي قد تكون وشيكةً. ولم نرَ بعد أيهما سيسود: الفتور أم الأنانية لدى قادة العالم.
*صحفي، ومحلل مختص بمنطقة البلقان وسوريا، وهو أحد مؤسسي مجلة الشؤون العسكرية De Re Militari Journal ، ومؤلف كتاب «جريمة قتل ثورة» المنشور في 2017.